- ThePlus Audio
أكبر سورة في القرآن الكريم من حيث القسم
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة تضمنت أكبر عدد من القسم
سورة الشمس من السور التي ارتطبت – بنحو من الأنحاء – بأمير المؤمنين (ع)، وهي من السور الملفتة في القرآن الكريم لكثرة الأقسام وتنوعها في هذه السورة. وقد لا نجد في القرآن الكريم سورة، فيها هذا العدد الكبير من الأقسام. فمن السور كسورة العصر مثلا، فيها قسم واحد بالعصر ومن السور ما فيها قسمان ومنها ما تضمنت ثلاثة أقسام كسورة العاديات، ومنها ما تضمنت أربعة أقسام كسورة التين وإلى آخر ذلك. ولكن سورة الشمس وحدها قد تضمنت أحد عشر قسما وهي السورة الوحيدة في القرآن الكريم بهذا العدد من الأقسام.
ما هي فائدة القسم؟
إننا نقسم في المحاكم دفعا للشبهات والتهم، ولكن الإقسام الإلهية القرآنية من الواضح أنها ليست في هذا السياق، وإنما تأتي في سياق التأكيد وإن كان سبحانه كما وصف نفسه بالأصدق، فقال: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا)[١]؛ فهو لا يحتاج إلى قسم للتأكيد على ما يوحي به إلى رسوله (ص).
كلما ورد قسم في القرآن، فلابد من أن نبحث عن المقسم عليه. إن المقسم به في هذه السورة هي الشمس وضحاها والقمر والنهار وإلى آخر ذلك إلى أن يصل القول إلى المقسم عليه وهي الحقيقية التي يريد سبحانه أن يؤكد عليها: (قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا * وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا)[٢]. ويُمكن اعتبار هذه السورة من سور التزكية والفلاح كسورة المؤمنون التي تبدأ بقول الله عز وجل: (قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ)[٣].
ما الفارق بين سورة المؤمنون وسورة الشمس؟
وهنا قد يقول قائل: ما الفارق بين سورة المؤمنون وسورة الشمس؟ ففي سورة الشمس يربط سبحانه الفلاح بتزكية النفس، وفي سورة المؤمنون يربط الفلاح بالصلاة الخاشعة وبالزكاة وغير ذلك. قد يكون الفرق بين السورتين؛ أن الله يذكر في سورة الشمس منشأ الفلاح وفي سورة المؤمنون آثار هذا الفلاح. فمن زكاها خشع في صلاته وآتى الزكاة وحفظ فرجه وأعرض عن اللغو وإلى آخر ذلك. ومن الفروق؛ أن سورة الشمس ناظرة إلى باطن الإنسان والمؤمنون إلى ظاهره، فذكرت الشمس الجانحة وذكرت المؤمنون الجارحة. والمؤمن لا يستغني عن الحركتين؛ حركة باطنية وحركة خارجية.
فلا يصح بعد هذا قول التي تقول: إنني لا ألتزم بالحجاب الشرعي، وأكتفي بأن يكون قلبي نظيفا؛ فأنا لم أرتكب خطيئة مع أجنبي منذ بلوغي. هل يكفي أن يكون قلب المؤمن طاهرا من دون أن تظهر الطهارة على أفعاله وجوارحه؟ كلا، لابد من الجمع بين طهارة الباطن والظاهر، ومن الجمع بين: (قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا) وبين: (وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَٰفِظُونَ)[٤]. وحفظ الفرج لا يعني الابتعاد عن الزنا فحسب؛ بل هو الابتعاد عن الزنا ومقدماته، ولا يكون ذلك إلا بغض البصر والالتزام بالحجاب الشرعي.
من سواها أو ما سواها؟
ونلاحظ في هذه السورة في قوله عز وجل: (وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَىٰهَا * وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا طَحَىٰهَا * وَنَفۡسࣲ وَمَا سَوَّىٰهَا)[٥]، استعمال (ما) بدل من. فالله سبحانه هو الذي بنى السماء وطحى الأرض وسوى النفس، فلماذا قال سبحانه (ما) بدل (من)؟ هناك عدة أجوبة على هذا التسائل، منها: أن المراد بـ (ما) ليس رب العالمين، وإنما المراد القوة الخلاقة التي بها خلق الله السماوات والأرض وأمسكهما أن يزولا، والتي منها قوة الجاذبية على سبيل المثال. وقد اطلعنا على مسألة الجاذبية في كتب الدراسة وقصة التفاحة التي سقطت إلى الأرض. فالقمر والشمس والأرض والكواكب كلها في المجموعة الشمسية، تحفظها الجاذبية الكونية، ولولا هذا التجاذب الكوني لاندكت الشموس بالأقمار.
لفتة ولائية
إننا نعلم جميعا، أن عزرائيل هو الموكل بقبض الأرواج وجبرئيل هو الموكل بالوحي وإسرافيل بالصور وميكائيل ملك الأرزاق، وإلى آخر ذلك. وقد ذكرنا آنفا أن الله يُمسك الأرض بالجاذبية، فهل من غضاضة في أن نقول: إن الله يُمسك الأرض بالحجة (عج)؟ كيف لا وبيمنه رزق الورى وبوجوده ثبتت الأرض والسماء ولولاه ساخت الأرض بأهلها. فكيف يستغرب البعض من هذه الحقائق ويسارع إلى إنكارها من دون علم؟ يقول ابن سينا: (كل ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان مالم يذدك عنه قائم البرهان)[٦].
ترى البعض من الناس يسمع كلاماً ولائياً أو كرامةً من الكرامات فيسارع إلى الإنكار وينسب القائل إلى الغلو التحريف. وهذه سمة من سمات الجاهلين، فالعاقل يتدبر ويبحث عن الدليل والبرهان، وكما قيل: نحن أبناء الدليل حيثما مال نميل.
ما معنى قوله تعإلى: (وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلَّىٰهَا)؟
إذا جعلنا الأرض مرجع الضمير، فسيكون المعنى واضحا، وهو: أن النهار يجلي الأرض وذلك بطلوع الشمس، وكلٌ يبصر طريقه بعد ظلام الليل. ولكن ذهب البعض إلى أن الشمس هي مرجع الضمير بحسب سياق الآيات، ولكن هل النهار يجلي الشمس أم الشمس تجلي النهار؟ يقول سبحانه: إن الشمس بعيدة عنكم ولا تبصرونها وإذا نظر أحد إلى الشمس قد يصاب بالعمى ولكن النهار وهو أثر من آثار الشمس، يكشف لكم حقيقة الشمس من دون أن تحتاجوا النظر إليها مباشرة. فإذا استيقظت صباحا ورأيت الشمس قد دخلت إلى غرفتك، علمت أن الشمس قد طلعت.
وهنا لابد من الإشارة إلى معنى دقيق: إن أئمة أهل البيت (ع) هم الذين عرفونا بالله عز وجل وإن كان هو أجلى الحقائق. ومع فارق التشبيه، نقول: هو كالشمس المجلية، وهو صاحب النور؛ نور السماوات والأرض، ولكن أئمة أهل البيت (ع) هم النهار المجلي لنور العظمة الإلهية. والخلق عاجزن عن معرفته ولا سبيل إلى هذه المعرفة إلا عن طريق النبي وآله (ص)، فهم الأدلاء على الله عز وجل، كما أن النهار دليل على الشمس مع أن الشمس هي الأصل.
لا تمن على ربك…!
ثم يقول سبحانه: (قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا)[٧]. أي يا ابن آدم، لا تمن على ربك أن كنت من أهل المجاهدة والتزكية؛ فأنت التي تنال الفلاح لا غيرك. ولم يقل سبحانه: قد أفلح من صلى أو زكى أو خمس أو حج أو ما شابه ذلك، لأن الأساس هي التزكية التي إذا تمت بنجاح، فإن كل هذه الأعمال ستصدر من الإنسان تلقائيا من دون أن يجبره أحد على ذلك. وشتان بين من يجبر نفسه على الصلاة وبين من ينتظرها، وبين من يحزن على فراق شهر رمضان وبين من يفرح بذلك…!
إن من يفرح بانتهاء شهر رمضان المبارك مثلا ويقول: إنها أيام وننتهي من الصيام، لم يجاهد نفسه ولم ير حقيقة شهر الصيام ولم يجلس على المائدة الممدوة في هذا الشهر؛ فهو ينتظر هلال العيد، لكي يتخلص من الجوع والعطش، والحال أن هموم الأولياء وغمومهم تزداد عندما يوشك هذا الشهر على الانتهاء، ويفتقدون الليالي الكريمة والأسحار المباركة والشهر الذي كان ربيع القلوب والقرآن.
كيف يدفن أحدنا نفسه؟
ثم يقول عز وجل: (وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا)[٨]. انظروا إلى المقابلة بين دساها وزكاها. عندما تجعل البذرة في التراب، فإن هذه البذرة تنمو وتنمو إلى أن تصبح شجرة كبيرة. وهنا نقول: هذه البذرة مزكاة، أي نامية. ولكن قد تبقى هذه البذرة في التراب لا تنمو، ودساها بمعنى أخفاها؛ أي لم يعتن بهذه البذرة وبقيت كما هي. والكلمة ذاتها قد استعملها القرآن الكريم في وصف الجاهلي الذي كان يدس ابنته في التراب. إننا نربي بناتنا وعندما تصبح بالغة رشيدة نزوجها؛ ولكن الجاهلي الأحمق المسكين، كان يدسها في التراب ويخفيها.
إننا قد دفنا أنفسنا كما كان الجاهلي يدفن ابنته التي هي قطعة منه. وجريمتنا هذه أعظم من جريمة الجاهلي؛ فهو قد دفن جسما وأنت تدفن روحا. والجاهلي كان يدفن غيره وأنت تدفن نفسك…! إن الفاجر الفاسق قد دفن نفسه في أرض الشهوات، فلم ينمو ولم يتكامل.
ثمود وآية لهم الناقة…!
ثم يذكر سبحانه قصة ثمود، فيقول: (كَذَّبَتۡ ثَمُودُ بِطَغۡوَىٰهَآ * إِذِ ٱنۢبَعَثَ أَشۡقَىٰهَا * فَقَالَ لَهُمۡ رَسُولُ ٱللَّهِ نَاقَةَ ٱللَّهِ وَسُقۡيَٰهَا)[٩]. وبطغواها يعني بطغيانها، والنوق كلها لله فاطر السماوات والأرض، ولكن لماذا أصبحت هذه ناقة الله؟ لأنها كانت آية وقد أتم الله بها الحجة على ثمود عبر نبيهم صالح (ع) الذي استخرجها لهم من الجبل، ثم قال لهم: هذا الماء قسمة بينكم وبينها؛ فيوم للناقة ويوم لكم.
ما هو الدرس العملي من قصة ثمود؟
المؤمن عبد الله ولكن إذا انتسب إلى الله عز وجل بنسبة الولاية، وصار عبداً مميزاً، فلا ينبغي أن يتعرض له أحد بالأذى، فهو في حكم ناقة الله مع فارق التشبيه. كثيرون تعدوا على النوق، وذبحوا وسرقوا منها؛ ولكن لم يعاقبوا كما عاقب الله عاقر هذه الناقة. يقول سبحانه: (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمۡدَمَ عَلَيۡهِمۡ رَبُّهُم بِذَنۢبِهِمۡ فَسَوَّىٰهَا)[١٠]؛ فقد سوى بهم الأرض ولم يعاقب الفاعل المباشر فحسب، بل عاقب القوم جميعاً لأنهم رضوا بفعله. فإذا رأى سبحانه تحدياً لولي من أوليائه، عجل في الانتقام لا من الظالم فقط وإنما ممن رضي بظلمه. ولهذا سمعنا ورأينا من يقول: لقد انتكست من حوبة ذلك العبد الصالح…!
وهذا حال من أهان ولياً أو عبداً صالحاً، فكيف بمن يهين أحد والديه؟ إنني رأيت البعض من الآباء والأمهات، يدعون الله بتوجه شديد، أن يقبض روح ولدهما وينتقم منه شر انتقام. هل ترد هذه الدعوة؟ فحذار من دعوة المظلوم والولي وصاحب الحق عليك، وأعظمهم الوالدان. فمن لحقته هذه اللعنات الثلاث، يبقى في البؤس إلى آخر عمره. يقول سبحانه: (وَلَا يَخَافُ عُقۡبَٰهَا))؛ أي أن الله عز وجل لا يخاف كما يخاف الملوك ممن ينتقمون منهم.
ما ارتباط سورة الشمس بأمير المؤمنين (عليه السلام)؟
لقد روي عن النبي الأكرم (ص) أنه قال: (يَا عَلِيُّ، أَشْقَى اَلْأَوَّلِينَ عَاقِرُ اَلنَّاقَةِ، وَأَشْقَى اَلْآخِرِينَ قَاتِلُكَ)[١١]. وشتان بين من عقر الناقة المعجزة وبين من هوى بسيفه على رأس حجة الله في الأرضين. وهذا سر ما نراه في الأمة من التشرذم كما روي عن النبي الأكرم (ص): (يُوشِكُ اَلْأُمَمُ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ تَدَاعَى اَلْأَكَلَةِ عَلَى قَصْعَتِهَا. قِيلَ: أَ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ اَلسَّيْلِ)[١٢]. ملياري مسلم متفرقون طرائق قددا، يتحكم فيهم النصراني واليهودي وغيرهم. وإنني أعتقد أن الأمة لم تر خيرا منذ استشهاد أمير المؤمنين (ع) إلى يومنا هذا، فانظر ماذا فعل بنو أمية وبنو العباس ومن أتى بعدهم من قتل ودمار وتشريد وتعذيب؟
سواها بعد شهادة الأمير (عليه السلام)…!
لقد سواها رب العالمين بمقتل أمير المؤمنين (ع) ورفع الصلاح من هذه الأمة؛ فقتل الحسن (ع) وأريق دم الحسين (ع) ولم يكن ثمة إمام إلا وقد قضى مسموما أو مقتولا. فهل ترى الأمة خيرا بعد هذه الجرائم التي ارتكبت بحق الأئمة (ع)؟ ولهذا فإن الفرج والأمل الوحيد بذلك المنتظر الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلا، بعدما ملئت ظلماً وجورا، وكما قال القائل:
لِكُلِّ أُنَاسٍ دَوْلةٌ يَرْقَبُونَها،
وَدَوْلَتُنَا فِي آخِرِ الدَّهْرِ تَظْهَرُ
خلاصة المحاضرة
- المؤمن عبد الله ولكن إذا انتسب إلى الله عز وجل بنسبة الولاية، وصار عبداً مميزاً، فلا ينبغي أن يتعرض له أحد بالأذى، فهو في حكم ناقة الله مع فارق التشبيه. كثيرون تعدوا على النوق، وذبحوا وسرقوا منها؛ ولكن لم يعاقبوا كما عاقب الله عاقر ناقة صالح.