أعمال ليالي البيض ولمحات من سيرة الإمام الجواد (ع)
بسم الله الرحمن الرحيم
أعمال ليالي البيض
نلاحظ في ليالي البيض المباركة وجود بعض الأعمال المهمة، وينبغي لنا جميعا نحن الذين نتقاعس عن كثير من الأعمال والعبادات على طول السنة الاهتمام بها، ولقد روي عن النبي الأكرم (ص) أنه قال: (مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ وَمَا عَرَفْنَاكَ حَقَّ مَعْرِفَتِكَ)[١]، ولو قال العبد هذه العبارة بصدق مرة واحدة في حياته لغفر الله عز وجل له، فالستحياء الذي ينتاب العبد المقصر لهو من أوسع أبواب المغفرة الإلهية.
والله سبحانه قد فتح لنا بابا لتعويض هذه التقصيرات في بعض الأيام والليالي، كليالي القدر المباركة، والليالي الثلاث من شهور رجب وشعبان وشهر رمضان. وقد ذكر في هذه الأيام والليالي صلاة من صلاها فكأنما حاز فضائل هذه الأشهر الثلاثة، والله يرزق من يشاء بغير حساب، وإن من شيء إلا عند الله خزائنه. وهنيئا لمن يعمل بما يروى عن أهل البيت (ع) المرتبطين بالغيب الآخذين علمهم من السماء.
والله سبحانه ديدنه وعادته الإفضال على العباد، وأهم أعمال هذه الليالي كما روي عن الأئمة (ع)؛ ركعتان في الليلة الثالثة عشر، وأربع ركعات في الليلة الرابعة عشر وست ركعات في الليلة الخامسة عشر، ويصلي كل ركعتين منها بياسين قلب القرآن الكريم وسورة تبارك المنجية كما ذكر ذلك النبي (ص)، والأئمة (ع) من خلال هذه الصلاة يربطون العبد بالله عز وجل من خلال الصلاة التي قال عنها رسول الله (ص): (جُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي اَلصَّلاَةِ)[٢].
أعمال أم داوود
وفي اليوم الخامس عشر من شهر رجب يستحب الإتيان بأعمال أم داوود. وأم داوود هي امرأة منكوبة من ضحايا الخلافة الباطلة ومن ضحايا الانحراف عن خط الإمامة، وقد اعقتل ولدها وأودع في سجون الظالمين وهي لا تعرف مصيره، وهي بدل أن تطرق باب زيد وعمرو من الولاة الظالمين وبدل أن تستجير بظالم على ظالم آخر، استجارت بالإمام الصادق (ع) وطلبت منه خلاص ولدها من السجن، وهي مرضعة الإمام (ع)، فعلمها الإمام (ع) بعض الأعمال والسور القرآنية التي تقوم بها في اليوم الخامس عشر من شهر رجب.
وقد يقول قائل: إن أم داوود كانت تبغي من وراء هذه الأعمال خلاص ولدها من السجن، فلماذا نقوم بهذه الأعمال نحن؟ ونقول: إن كانت أم داوود فقدت ولدها لانحراف خط الإمامة عن مساره، فإنا قد فقدنا إمام زماننا (عج) لأجل هذا الانحراف أيضا. ولذلك ينبغي في مثل هذا اليوم أن نطرق أبواب السماء في خلاصه من سجن الغيبة، وهو الذي لولاه لساخت الأرض بأهلها وهو الذي: (بِيُمْنِهِ رُزِقَ اَلْوَرَى وَبِوُجُودِهِ ثَبَتَتِ اَلْأَرْضُ وَ اَلسَّمَاءُ)[٣]، ومع ذلك منفي من داره ويرى بأم عينه ما يجري في أمة جده المصطفى (ص) وهو لا يستطيع أن يحرك ساكنا.
إن في يوم عاشوراء قام الجن بعرض النصرة على الإمام الحسين (ع) ولكنه أبى إلا أن تجري الأمور من خلال الأسباب الطبيعية، وكذلك هو حال الإمام الحجة (ع)، فهو ينتظر العدد والعدة فلا مانع من أن يقوم المؤمن بأعمال أم داوود ويتضرع إلى الله عز وجل ويقوم بقراءة ما ورد في هذا العمل من القرآن والدعاء والإمام (ع) من دون شك ينظر إليه ويدعو له.
ومما لا شك فيه أن العبادات والأعمال متصلة بعضها ببعض والتوفيق للقيام بواحدة منها تهيئ الأرضية للتوفيق لسائر الأيام والليالي، فالتوفيق للقيام بأعمال شهر رجب تهيئ الإنسان لشهر شعبان وهكذا العمل في شعبان هو مقدمة لأعمال شهر رمضان المبارك.
سرور الإمام الرضا (عليه السلام) بولادة الإمام الجواد (عليه السلام)
لقد فرح الإمام الرضا (ع) كثيرا بولادة الإمام أبي جعفر محمد الجواد (ع)، وقال عنه: (قَدْ وُلِدَ لِي شَبِيهُ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ فَالِقِ اَلْبِحَارِ وَشَبِيهُ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ قُدِّسَتْ أُمٌّ وَلَدَتْهُ قَدْ خُلِقَتْ طَاهِرَةً مُطَهَّرَةً ثُمَّ قَالَ اَلرِّضَا عَلَيْهِ السَّلاَمُ يُقْتَلُ غَصْباً فَيَبْكِي لَهُ وَعَلَيْهِ أَهْلُ اَلسَّمَاءِ وَيَغْضَبُ اَللَّهُ تَعَالَى عَلَى عَدُوِّهِ وَ ظَالِمِهِ فَلاَ يَلْبَثُ إِلاَّ يَسِيراً حَتَّى يُعَجِّلَ اَللَّهُ بِهِ إِلَى عَذَابِهِ اَلْأَلِيمِ وَعِقَابِهِ اَلشَّدِيدِ)[٤]، ومن المؤلم أن الرضا (ع) في يوم ولادة الجواد (ع) يتذكر قاتل ولده وقد كانت محنة الأئمة (ع) شديدة فما ولد إمام وإلا في زمانه طاغية من الطواغيت.
الأئمة في مذهب أهل البيت (عليهم السلام)
لقد ذكر في صحيحي مسلم وبخاري أن النبي (ص) كان يؤكد على اثني عشر خليفة كلهم من قريش. وفرق الإسلام جميعها لا تستطيع أن تقدم لنا لائحة بأسماء اثني عشر خليفة وإمام من خط واحد وبنور واحد، تتشابه أقوالهم وأفعالهم ويعضد أولهم آخرهم وقد أجمع المسلمون على نزاهتم غير أتباع هذا الطريق الأقوم طريق الإمامة وطريق النص وطريق الغدير، فهل هناك من يشكك في أئمة من أئمتنا (ع)، وهل هناك من يختلف في عظمة الصادق (ع) وهو أستاذ أبي حنيفة القائل: لو لا السنتان لهلك النعمان.
حرز الإمام الجواد (عليه السلام)
والإمام الجواد (ع) حلقة من حلقات سلسلة الإمامة المباركة، وقد عاش في زمن طاغية من الطواغيت وهو المأمون العباسي. وكانت من رأفة الإمام (ع) به أن جعل له الحرز الذي عرف بحرز الإمام الجواد (ع). فقد بعث الإمام (ع) له بهذا الحرز ليقيه من بأس الحروب عندما كان يغزو الروم، فقد روي: (لَمَّا سَمِعَ اَلْمَأْمُونُ مِنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مِنْ أَمْرِ هَذَا اَلْحِرْزِ هَذِهِ اَلصِّفَاتِ كُلَّهَا غَزَا أَهْلَ اَلرُّومِ فَنَصَرَهُ اَللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَمَنَحَ مِنْهُمْ مِنَ اَلْمَغْنَمِ مَا شَاءَ اَللَّهُ وَلَمْ يُفَارِقْ هَذَا اَلْحِرْزَ عِنْدَ كُلِّ غَزَاةٍ وَمُحَارَبَةٍ وَ كَانَ يَنْصُرُهُ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِفَضْلِهِ وَيَرْزُقُهُ اَلْفَتْحَ بِمَشِيَّتِهِ)[٥]، وقد كان الإمام (ع) يرى مصلحة في إعطائه الحرز رغم أنه كان قاتل أبيه (ع). وإذا كانت رأفة الإمام (ع) بعدوه ما ذكرنا فكيف هي رأفته بشيعته ومواليه؟
غزارة علم الإمام الجواد (عليه السلام) وتسلم الإمامة في صغر السن
إن الإمام الجواد (ع) تسلم منصب الإمامة في صغر سنة كما الإمام الهادي (ع)، فقد تسلم الإمام الجواد (ع) الإمامة في سن التاسعة والإمام الهادي (ع) في سن الثامنة. وقد يستغرب البعض كيفية انقياد الشيعة للإمام (ع) وهو في صغر سنه، والحال أن الإمام بالإضافة إلى أنه اشتهر بابن الرضا (ع) الإمام الذي طار صيته في البلاد وأصبح ولي العهد كان يأتيه العلماء الكبار بعد مناسك الحج ويناقشونه فتزيل شكوكهم وشبهاتهم لما كانوا يرون من معجزاته وكراماته وغزارة علمه، فقد تسلم الإمامة عن كفائة تامة.
وينقل لنا التاريخ أن الإمام الجواد (ع) نطق بالشهادتين عند ولادته في محضر أبيه الرضا (ع) ولا غرابة في ذلك فقد نقل لنا القرآن الكريم قصة النبي عيسى (ع) الذي كان يكلم الناس في المهد، وليس الجواد (ع) بأقل منزلة من النبي عيسى (ع).
محنة الإمام الجواد (عليه السلام) في بغداد
لقد روي عن أحد أصحاب الإمام الجواد (ع) أنه قال: (دَخَلْتُ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ بِبَغْدَادَ وَهُوَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ. فَقُلْتُ فِي نَفْسِي هَذَا اَلرَّجُلُ لاَ يَرْجِعُ إِلَى مَوْطِنِهِ أَبَداً وَأَنَا أَعْرِفُ مَطْعَمَهُ قَالَ فَأَطْرَقَ رَأْسَهُ ثُمَّ رَفَعَهُ وَقَدِ اِصْفَرَّ لَوْنُهُ فَقَالَ يَا حُسَيْنُ خُبْزُ شَعِيرٍ وَمِلْحُ جَرِيشٍ فِي حَرَمِ جَدِّي رَسُولِ اَللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا تَرَانِي فِيهِ)[٦]. فقد كان الإمام الجواد (ع) يكرم بحسب الظاهر من أجل موقعه ولكنه كان في ضيق شديد.
والإمام الجواد (ع) رغم صغر سنه فقد أقر كبار العلماء وحاشية المأمون بعلمه وفضله كما لم يتسير ذلك حتى لأبيه الرضا (ع) حيث أنكر الكثير إمامته مع وفرة النصوص الدالة على إمامته. وكان قبول الأمة بإمامة الجواد (ع) في ذلك السن دليل على رسوخ مفهوم الإمامة فيهم. وقد مهد الإمام الجواد (ع) بذلك لإمامة المهدي (عج).
وما نراه من قوة المذهب فكريا وعقائديا وتاريخيا وفقهيا وتفسيرا وفلسفة وأخلاقا وعرفانا من بركات هذه الجهود التي بذلت من قبلهم (ع). وينبغي للمؤمنين أن يفرحوا في ولاداتهم، فقد روي عنهم في صفات شيعتهم: (يَفْرَحُونَ لِفَرَحِنَا وَيَحْزَنُونَ لِحُزْنِنَا)[٧]، وقد بين لنا القرآن الكريم ما ينبغي لنا أن نفرح من أجله وما لا يستحق منا الفرح والسرور، فقد قال سبحانه: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)[٨].
حقيقة الإمام
إن الأئمة (ع) هم حقائق لا تموت بموت أجسادهم الشريفة، بل ينتقلون من مكان إلى آخر، فهم ينتقلون من هذه الدنيا إلى عالم البرزخ. والفرق بين الإمام الحي والإمام المستشهد هو الفرق بين الشخص الراكب والشخص الراجل؛ فالذي يستقل سيارة أو طيارة ثم ينزل منها هل تتغير ماهيته؟ والمعصوم باستشهاده يترك هذا البدن لينتقل إلى جوار الرب في مقعد صدق عند مليك مقتدر. والقرآن الكريم يصرح في آياته أن الشهيد لا يموت فكيف بسادات الشهداء وأئمتهم؟ فقد قال تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)[٩].
التوسل بالإمام الجواد (عليه السلام) عند ضيق الرزق
وقد وردت في بعض الروايات توسيط الإمام الجواد (ع) للحاجات المالية عند الله عز وجل، فقد روي لأجل ذلك هذا الدعاء: (اَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ وَلِيِّكَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ إِلاَّ جُدْتَ بِهِ عَلَيَّ مِنْ فَضْلِكَ وَتَفَضَّلْتَ بِهِ عَلَى مَنْ وَسِعَكَ وَوَسَّعْتَ عَلَيَّ رِزْقَكَ وَأَغْنَيْتَنِي عَمَّنْ سِوَاكَ وَجَعَلْتَ حَاجَتِي إِلَيْكَ وَقَضَاهَا عَلَيْكَ إِنَّكَ لِمَا تَشَاءُ قَدِيرٌ)[١٠]، ولو تأمل المتأمل في هذا الدعاء لما رمى محبي أهل البيت (ع) زورا وجهلا بالشرك.
علي بن مهزيار من خواص أصحاب الإمام الجواد (عليه السلام)
عندما نراجع سيرة أصحاب الأئمة من أمثال إبي ذر وعمار ويونس بن عبد الرحمن وأبي بصير يستصغر الإنسان نفسه أمام عظمة هؤلاء الذين وصلوا إلى المقامات العالية وهم ليسوا من المعصومين (ع). ومن هؤلاء علي بن مهزيار الأهوازي الذي كان والده نصرانيا ويقال: أنه كان هو نصراني أيضا من بلاد الأهواز ولكن الله هداه سواء السبيل، وأصبح من أصحاب الإمام الجواد (ع). فقد كتب له الإمام الجواد (ع) في ما كتب: (وَقَدْ فَهِمْتُ مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَمْرِ اَلْقُمِّيِّينَ خَلَّصَهُمُ اَللَّهُ وَفَرَّجَ عَنْهُمْ! وَسَرَرْتَنِي بِمَا ذَكَرْتَ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ تَزَلْ تَفْعَلُ! سَرَّكَ اَللَّهُ بِالْجَنَّةِ وَرَضِيَ عَنْكَ بِرِضَائِي عَنْكَ! وَأَنَا أَرْجُو مِنَ اَللَّهِ حُسْنَ اَلْعَوْنِ وَاَلرَّأْفَةِ! وَأَقُولُ حَسْبُنَا اَللّٰهُ وَنِعْمَ اَلْوَكِيلُ)[١١]، وينقل: (كَانَ عَلِيُّ بْنُ مَهْزِيَارَ إِذَا طَلَعَتِ اَلشَّمْسُ سَجَدَ فَكَانَ لاَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ حَتَّى يَدْعُوَ لِأَلْفٍ مِنْ إِخْوَانِهِ بِمِثْلِ مَا دَعَا لِنَفْسِهِ وَكَانَ عَلَى جَبْهَتِهِ سَجَّادَةٌ مِثْلُ رُكْبَةِ اَلْبَعِيرِ)[١٢]، وكذلك كان يخرج في آخر الليل إلى آخره يتعبد بين يدي الله عز وجل.
فينبغي لنا نحن الذين ندعي حب الإمام الجواد (ع) ألا نكتفي بالقصائد الرنانة والعبارات البليغة بل علينا أن نكون من دعاة الناس إليهم بغير ألسنتنا كما بينوا هم ذلك في رواياتهم.
هاشتاغ
خلاصة المحاضرة
- قد يقول قائل: إن أم داوود كانت تبغي من وراء أعمالها خلاص ولدها من السجن، فلماذا نقوم بهذه الأعمال نحن؟ ونقول: إن كانت أم داوود فقدت ولدها لانحراف خط الإمامة عن مساره، فإنا قد فقدنا إمام زماننا (ع) لأجل هذا الانحراف أيضا، ولذلك ينبغي لنا أن نسأل الله خلاصه من سجن الغيبة.