- ThePlus Audio
كيف نقرأ سيرة المعصومين (ع)؟ – لمحات من سيرة الإمام الباقر (عليه السلام)
بسم الله الرحمن الرحيم
كتب السيرة والنظرة التجزيئية لأئمة أهل البيت (عليهم السلام)
تتناول الكتب والأبحاث التي كتبت حول سيرة الأئمة (ع) سيرة كل إمام على أنه حلقة منفصلة عن سائر الأئمة (ع). وقلما نجد كتابا تناول خط الإمامة بصورة عامة والذي يبدأ بالإمام علي (ع) وينتهي بالإمام المنتظر (عج). فلم تتحدث عن الملامح العامة في حياة أهل البيت (ع) وما هي مشتركاتهم؟ وما هي الخطوط العامة التي كانت تحكم حياتهم.
إن أول سمة بارزة من سمات الأئمة (ع) هي حالة الاندكاك والذوبان والفناء في الله عز وجل، وكذلك هو الأمر في النبي (ص). إن العرفاء يذكرون في كتب العرفان ما يسمونه بمقام الفناء. وقد شطح البعض في ادعاء الذوبان والاندكاك الموضوعي ووحدة الوجود حتى قال أحدهم: ليس في جبتي إلا الله، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
الذوبان الموضوعي والذوبان الحكمي
هناك نوعان من الذوبان؛ موضوعي وحكمي. الموضوعي هو كذوبان السكر في الماء حيث تمتزج الحلاوة بالماء وهو امتزاج تام بالمعنى العرفي لا المعنى الفلسفي الدقيق. وهناك نوع آخر من الذوبان يشبه تمازج دهن العود بالماء. فأنت عندما تضع طبقة من دهن العود على الماء تبقى هذه الطبقة على سطح الماء ولا تمزج بالماء إلا أن الماء يأخذ رائحة العود؛ فتتحد تلك الرائحة حكما لا موضوعا مع الماء، وهكذا هم الأئمة. فإن ذوبانهم في الله ليس على نحو التمازج والاتحاد الموضوعي فهو شرك بعينه وإنما على نحو الاتحاد الحكمي. فقد تخلقوا بأخلاق الله عز وجل وكما قالوا: (فَإِنَّا صَنَائِعُ رَبِّنَا وَاَلنَّاسُ بَعْدُ صَنَائِعُ لَنَا)[١]، وقد أتقن سبحانه صنعهم وجعلهم في أفضل القوالب الممكنة التي أهلتهم لأن يكونوا خلفاء الله في أرضه وتفيض مناجاتهم بهذه المعاني.
حرص المعصومين (عليهم السلام) على وحدانية الله عز وجل
ومن الروايات الجميلة جدا والتي تبين حرص المعصومين (ع) وعلى رأسهم المصطفى (ص) على عدم جعل المعصومين (ع) فوق ما وضعهم الله عز وجل وأن الله سبحانه هو الخالق والفاطر والمهيمن وهو الذي يعطي لأوليائه القدرة والشفاعة وسائر ذلك وأن لا يثير المؤمن بسوء فهمه لمقاماتهم الأجواء العامة ضدهم، فقد روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: (أَنَّ رَجُلاً مِنْ بَنِي فَهْدٍ كَانَ يَضْرِبُ عَبْداً لَهُ وَاَلْعَبْدُ يَقُولُ أَعُوذُ بِاللَّهِ فَلَمْ يُقْلِعْ عَنْهُ فَقَالَ أَعُوذُ بِمُحَمَّدٍ فَأَقْلَعَ اَلرَّجُلُ عَنْهُ اَلضَّرْبَ فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ يَتَعَوَّذُ بِاللَّهِ فَلاَ تُعِيذُهُ وَيَتَعَوَّذُ بِمُحَمَّدٍ فَتُعِيذُهُ وَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُجَارَ عَائِذُهُ مِنْ مُحَمَّدٍ فَقَالَ اَلرَّجُلُ هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اَللَّهِ فَقَالَ وَاَلَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ نَبِيّاً لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَوَاقَعَ وَجْهُكَ حَرَّ اَلنَّارِ)[٢].
وقد كان الأئمة (ع) في منتهى الذوبان والفناء في الله عز وجل ولم يكونوا يتحملون أبدا أي منطق يمس بوحدانية الله وربوبيته. وللإمام الصادق (ع) موقف شبيه بموقف جده (ص) وكلهم نور واحد ومنطقهم واحد. فعن بعض أصحابه (ع) أنهم قالوا: (خَرَجَ إِلَيْنَا أَبُو عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ وَهُوَ مُغْضَبٌ فَقَالَ إِنِّي خَرَجْتُ آنِفاً فِي حَاجَةٍ فَتَعَرَّضَ لِي بَعْضُ سُودَانِ اَلْمَدِينَةِ فَهَتَفَ بِي لَبَّيْكَ يَا جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ لَبَّيْكَ فَرَجَعْتُ عَوْدِي عَلَى بَدْئِي إِلَى مَنْزِلِي خَائِفاً ذَعِراً مِمَّا قَالَ حَتَّى سَجَدْتُ فِي مَسْجِدِي لِرَبِّي وَعَفَّرْتُ لَهُ وَجْهِي وَذَلَّلْتُ لَهُ نَفْسِي وَبَرِئْتُ إِلَيْهِ مِمَّا هَتَفَ بِي)[٣]. وهذا هو منطق أئمتنا جميعا، فلو تقول أحد عليهم ممن لا يتولاهم بما لا يناسب ما ذكرنا فاضربوا به عرض الجدار كما فعلوا هم (ع)، فالإمام (ع) يغضب أن يخاطب بكلمة يخاطب بها الله تعالى.
ثُمَّ قَال: (لَعَنَ اَللَّهُ أَبَا اَلْخَطَّابِ وَقَتَلَهُ بِالْحَدِيدِ)[٤]. وهذا الرجل كان من أصحابه ولكنه انحرف واتخذ طريق الغلو وأشاع ذلك بين أصحاب الإمام (ع).
حمل الأئمة (عليهم السلام) لهموم الرسالة
والسمة الثانية في حياة أئمة أهل البيت (ع) حملهم لهموم الرسالة. فهم في ذلك كجدهم المصطفى (ص) الذين كان يقول: (لِي مَعَ اَللَّهِ وَقْتٌ لاَ يَسَعُهُ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلاَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ)[٥] ولكنه كان ينزل بنفسه إلى الساحات ولم يكن له هم إلا دعوة الناس وهو القائل في مستهل دعوته: (يَا عَمُّ، وَاَللَّهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ، أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ، مَا تَرَكْتُهُ)[٦].
ولقد استلم أمير المؤمنين (ع) بعد طول انتظار لا منه بل من الأمة لقيادته الحكيمة العادلة، ثم يطلب منه أن يرضي بعض الوجهاء والرؤوس ممن أكلوا دهرا من كنوز بيت المال بشيء من المال، ولكنه رفض ذلك، فلم يكن ليؤسس حكمه على الممالأة وإعطاء الرشوة أو إعطاء الحق لغير أهله. ولذلك قال (ع): (لَوْ لاَ اَلتُّقَى لَكُنْتُ أَدْهَى اَلْعَرَبِ)[٧]، فلم تكن تنقصه الحنكة السياسية ولكن كان يمنعه التقوى من ذلك.
وكان الإمام الحسين (ع) في أرض كربلاء معرض للشهادة ومعه الذرية الطاهرة وحرائر الوحي وبنات الرسالة وكان يكفي منه أن يتراجع عن موقفه ويرجع إلى المدينة سالما غانما؛ بل باعتقادي لو نطق الإمام (ع) بكلمة فيها تأييد لحكم يزيد لما رجع إلى المدينة سالما فحسب، بل كان يعطى بعض الولايات إن كان وجوده مما يدعم الحكم الأموي وحكم يزيد ولكنه أبى التنازل عن رسالته.
وأما الإمام الرضا (ع) يؤتى به من المدينة إلى بلاد طوس المضيعة ويكون فيها غريبا، تلك المدينة التي أصبحت لها شأن لدفن الإمام (ع) فيها، وإلا فأين الإمام (ع) من عاصمة مأمون. ثم يطلب منه (ع) أن يولي الولاة ويعزل من شاء وأن يكون له الحكم ولكنه لم يكن ليحيد عن خط آبائه، ولم يتدخل في الحكم حتى وصل به الأمر أن يطلب من الله التعجيل بوفاته إن كان فرجه في ذلك وخلاصه من تلك الفتنة التي عمت البلاد.
فلم يكن لهم (ع) هم إلا الدعوة إلى الله عز وجل. ولذلك عندما طلب منه الدعاء على العرب الذين لم يقبلوا دعوته قال: (اَللَّهُمَّ اِهْدِ قومي)[٨]، فقد أراد أن يبقى هؤلاء على فسقهم وشركهم ليخرج منها تلك الثلة التي تفتح الآفاق والأنفس.
مشاركة الأمة همومها
والسمة الثالثة من سماتهم؛ مشاركة الأمة همومها. فكثيرا ما يدعي البعض أنهم يحملون هموم الأمة ولكنهم يعيشون في أبراجهم العاجية لا يشعرون بالمستضعفين والمساكين والمظلومين على وجه الأرض. ولكن الأئمة (ع) كانوا يعيشون أدق التفاصيل في حياة الأمة. من الأحاديث التي تبين ذلك ما روي عن بشار المكاري أنه حدث الإمام الصادق (ع) بقصة امرأة ألقي القبض عليها لأنها كانت تمشي فعثرت فقالت: لعن الله ظالميك يا فاطمة. وهي تنادي: المستغاث بالله ورسوله ولا يغيثها أحد. يقول بشار: (لَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى اِبْتَلَّ مِنْدِيلُهُ وَلِحْيَتُهُ وَصَدْرُهُ بِالدُّمُوعِ ثُمَّ قَالَ يَا بَشَّارُ قُمْ بِنَا إِلَى مَسْجِدِ اَلسَّهْلَةِ فَنَدْعُوَ اَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَ نَسْأَلَهُ خَلاَصَ هَذِهِ اَلْمَرْأَةِ قَالَ وَوَجَّهَ بَعْضَ اَلشِّيعَةِ إِلَى بَابِ اَلسُّلْطَانِ وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ بِأَنْ لاَ يَبْرَحَ إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُ رَسُولُهُ)[٩]، لم تكن السلطة في يد الإمام (ع) ولم يكن يملك لتلك المرأة إلا الدعاء وهذا ما فعله.
وقد أطلق سراحها ببركة الإمام (ع) فبعث لها الإمام (ع) مبلغا من المال بيد أحد أصحابه وقال: (اِذْهَبْ أَنْتَ بِهَذِهِ إِلَى مَنْزِلِهَا فَأَقْرِئْهَا مِنِّي اَلسَّلاَمَ وَاِدْفَعْ إِلَيْهَا هَذِهِ اَلدَّنَانِيرَ قَالَ فَذَهَبْنَا جَمِيعاً فَأَقْرَأْنَاهَا مِنْهُ اَلسَّلاَمَ فَقَالَتْ بِاللَّهِ أَقْرَأَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ اَلسَّلاَمَ فَقُلْتُ لَهَا رَحِمَكِ اَللَّهُ وَاَللَّهِ إِنَّ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ أَقْرَأَكِ اَلسَّلاَمَ فَشَقَّتْ جَيْبَهَا وَوَقَعَتْ مَغْشِيَّةً عَلَيْهَا قَالَ فَصَبَرْنَا حَتَّى أَفَاقَتْ وَقَالَتْ أَعِدْهَا عَلَيَّ فَأَعَدْنَاهَا عَلَيْهَا حَتَّى فَعَلَتْ ذَلِكَ ثَلاَثاً ثُمَّ قُلْنَا لَهَا خُذِي هَذَا مَا أَرْسَلَ بِهِ إِلَيْكِ وَأَبْشِرِي بِذَلِكِ فَأَخَذَتْهُ مِنَّا وَقَالَتْ – سَلُوهُ أَنْ يَسْتَوْهِبَ أَمَتَهُ مِنَ اَللَّهِ فَمَا أَعْرِفُ أَحَداً تُوُسِّلَ بِهِ إِلَى اَللَّهِ أَكْثَرَ مِنْهُ وَمِنْ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ)[١٠]. وهكذا كان الإمام (ع) يغيث من يغوث[١١] فلا يغاث.
الانتساب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)
من سماتهم (ع) حفظ الحدود مع النبي (ص) والتأكيد على انتسابهم إليه. فقد كانوا (ع) يؤكدون من خلال رواياتهم أن ما عندهم مقتبس من علم النبي (ص) المتصل بعالم الغيب. وكان أمير المؤمنين (ع) يفتخر بأنه باب من أبواب مدينة علم النبي (ص). فمن ادعى من المخالفين خلاف ذلك فهو غير مطلع على تراث الأئمة (ع). ومما يؤكد ذلك ما روي عن أبي هارون قال: (كُنْتُ جَلِيساً لِأَبِي عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بِالْمَدِينَةِ فَفَقَدَنِي أَيَّاماً ثُمَّ إِنِّي جِئْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ لِي لَمْ أَرَكَ مُنْذُ أَيَّامٍ يَا أَبَا هَارُونَ فَقُلْتُ وُلِدَ لِي غُلاَمٌ فَقَالَ بَارَكَ اَللَّهُ فِيهِ فَمَا سَمَّيْتَهُ قُلْتُ سَمَّيْتُهُ مُحَمَّداً قَالَ فَأَقْبَلَ بِخَدِّهِ نَحْوَ اَلْأَرْضِ وَهُوَ يَقُولُ مُحَمَّدٌ مُحَمَّدٌ مُحَمَّدٌ حَتَّى كَادَ يَلْصَقُ خَدُّهُ بِالْأَرْضِ ثُمَّ قَالَ بِنَفْسِي وَبِوُلْدِي وَبِأَهْلِي وَبِأَبَوَيَّ وَبِأَهْلِ اَلْأَرْضِ كُلِّهِمْ جَمِيعاً اَلْفِدَاءُ لِرَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لاَ تَسُبَّهُ وَلاَ تَضْرِبْهُ وَلاَ تُسِئْ إِلَيْهِ وَاِعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي اَلْأَرْضِ دَارٌ فِيهَا اِسْمُ مُحَمَّدٍ إِلاَّ وَهِيَ تُقَدَّسُ كُلَّ يَوْمٍ)[١٢].
ثم يأتي بعد هذا إنسان متعنت أو مغرض أو جاهل يتهم أتباع أهل البيت (ع) بأنهم يقدمون أئمتهم على النبي (ص) وما ذلك إلا لقلة إنصافهم وخيانة للتاريخ الذي هو في متناول في أيديهم. ثم هم لا يكلفون أنفسهم الحضور في عشرات المساجد التي نصلي فيها ليتأكدوا من زيف وسخف ادعائهم أننا نقول: خان الأمين.
كرامات الأئمة (عليهم السلام)
ونحن لا ننكر ما للأئمة (ع) من كرامات وأنهم قاموا بأمور خارقة للطبيعة لإثبت حقانيتهم ولتثبيت قلوب شيعتهم – هي تختلف عن المعجزة التي يقوم بها الأنبياء في مقام التحدي وتبليغ الرسالة – ولكنها ليست السمة الغالبة عليهم، حتى نحصر مقامهم بهذه الكرمات ونرتبط بهم لأجل الشفاء وقضاء الحاجات؛ كمن يرجع من زيارة مشهد من المشاهد ويعتب على الإمام أنه لم يقض له حاجاته وكأن الإمام (ع) قد خلق لشفاء المرضى وقضاء الديون ولم يخلق لما هو أعظم وأرقى وأكمل وأشمل وهي الخلافة الإلهية في الأرض واستمرار للدعوة وتراجمة للقرآن الكريم والذين سيملأون الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا. وقد يرى البعض في الرؤيا إماما أو وليا صالحا ويقول له كلمة ما، فيركن إلى تلك الكلمة مع وجود انحراف في سلوكه ولا يسعى إلى التغيير واقعه وهذا سلوك مرفوض البتة.
ولا ينبغي للمؤمن أن يكتفي بالأشعار والكرامات وما شابه ذلك ثم يغفل عن الهدف الأساسي في الحياة، من الرقي والتكامل والتأسي بهم (ع) في جميع صفاتهم وأفعالهم مهما أمكننا.
ومما لا شك فيه أن الأئمة (ع) قد صدرت منهم كرامات عديدة لا خلاف في ذلك وإنما قد يكون الخلاف في بعض المصاديق، فيمكن مناقشة هذه الكرامات واحدة واحدة دون إنكار إمكانية صدور الكرامات منهم. ولم يكن الأئمة (ع) يستعملون هذا السلاح إلا عند الحاجة وبحكمة. فمن ذلك ما قطع الإمام الصادق (ع) بها حجة الإسماعيلية الذين ادعوا أن إسماعيل ابن الإمام الصادق (ع) حي وبين لهم كذب ادعاء من نسب نفسه إلى إسماعيل، وكشف من خلال كرامة من كراماته زيف وكذب وخداع الرجل المنحرف الذي كانت تمطر السماء كلما رفع يده وتبين أن في يده أثر من آثار الأنبياء لكيلا تبتلى الأمة بالانحراف.
وهناك البعض ممن يبحث وراء الأمور الغيبية ويحب أن يعلم ما في النفوس ويمارس بعض العلوم الغريبة وهذه الأمور بعيدة عن اجواء العبودية التي هي هدف الخلق كما قال سبحانه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[١٣]. ينبغي أن يطيع المؤمن ربه ويأتمر بما أمر وينتهي عما نهى عنه من دون أن يتوقع شيئا ولكن إذا أعطاه سبحانه هبة كما أعطى آصفا فبخ بخ. ولا بأس أن يفرح المؤمن بهذه الهبات، فقد يجعل الله سبحانه خاصية في أقوال البعض تكون أدعيتهم مستجابة في شفاء المرضى. والأمر في هذه الهبات راجع إلى الله سبحانه فقد يمنح كافرا في الهند يقوم بالأعاجيب من الأفعال ما لا يمنح الكمل من عباده الصالحين..!
ولا يعني ذلك الإسراع في إنكار كراماتهم التي لا تتحملها العقول ولكن ينبغي أن يكون كما قال ابن سينا الفيلسوف العظيم: (كلما قرع سمعك من العجائب فذره في بقعة الإمكان حتى يذودك عنه قاطع البرهان)[١٤]. فلا يثبتها قطعا ولا ينفيها قطعا.
لمحات من سيرة الإمام الباقر (عليه السلام)
لقد ولد الإمام الباقر (ع) في زمن محنة الإمام الحسين (ع) ومحنة الإمام السجاد (ع). وإن الإمام (ع) وإن لم يتسنى له الحكم على الأبدان من خلال الخلافة الظاهرية إلا أنه حكم على الأرواح واستولى على القلوب هو وولده الصادق (ع) من خلال كلماته ومن خلال مدرسته العلمية والفقهية الواسعة التي أسسها في المدينة. وقد سمي بالباقر لأنه كان يشق العلوم شقا وكشف عن العلم المطمور في زمن آبائه (ع) والذين لم تتح لهم الفرصة لإظهار الكثير منه.
وكان للأئمة (ع) الكلمة الفصل في كل مجال رغم اختصار تلكم الكلمات، فقد كانوا يفتحون أمام الإنسان آفاقا فسيحة من العلم والمعرفة بتلكم الكلمات. وهذا الجاحظ وهو من كبار الشخصيات العلمية والذي لم يكن من الموالين لأهل البيت (ع) يبدي انبهاره بكلمة من كلمات الإمام الباقر (ع) في كتابه البيان والتبيين حيث يقول: قد جمع محمد بن علي بن الحسين (ع) صلاح حال الدنيا بحذافيرها في كلمتين صلاح شأن جميع المعائش والتعاشر ملؤ مكيال ثلثاه فطنة وثلث تغافل. فالمؤمن كيس فطن، يعلم ويحلل ويكتشف الآثار ويربط الأمور ببعضها ولكنه يتغافل أحيانا ولا يدخل في كل صغيرة وكبيرة ويعالج الأمور بكل هدوء. يعرف امرأته جيدا ويحللها تحليلا دقيقا أفضل من تحليلها لنفسها ولكنه لا يظهر ذلك؛ بل يحاول تغييرها من غير أن تشعر هي بذلك. وكما يقول الشاعر:
ولقد أمُرُّ على اللئيم يسُبني
فَمَضَيتُ ثُمَّت قلتُ لايَعنيني
ولو طبقنا هذه القاعدة في حياتنا لتجنبنا الكثير من المشاكل مع أرحامنا وأصدقائنا.
ورغم سعة علمه كما ذكرنا إلا أنه كان في منتهى الرقة والأنس بربه، فقد روي عن الإمام الصادق أنه قال: (كَانَ أَبِي كَثِيرَ اَلذِّكْرِ لَقَدْ كُنْتُ أَمْشِي مَعَهُ وَإِنَّهُ لَيَذْكُرُ اَللَّهَ وَآكُلُ مَعَهُ اَلطَّعَامَ وَإِنَّهُ لَيَذْكُرُ اَللَّهَ وَلَوْ كَانَ يُحَدِّثُ اَلْقَوْمَ مَا يَشْغَلُهُ ذَلِكَ عَنْ ذِكْرِ اَللَّهِ وَكُنْتُ أَرَى لِسَانَهُ لاَصِقاً بِحَنَكِهِ يَقُولُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ)[١٥].
فإذا أردنا أن نسير على نهجهم ونتبع سنتهم، علينا أن نكون بهذه الشمولية التي كانوا عليها حيث لا يمنعنا الانشغال بالدعاء عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا نفرط في التعامل مع الناس على حساب الخلوة برب العالمين وكلما يقوم به المؤمن لا يهدف من ورائه إلا كسب رضا الله تعالى كما كان الأئمة (ع) كذلك في كل ما يقومون به.
[٢] وسائل الشیعة ج٢٢ ص٤٠١.
[٣] الکافي ج٨ ص٢٢٥.
[٤] الکافي ج٨ ص٢٢٥.
[٥] بحار الأنوار ج١٨ ص٣٦٠.
[٦] سيرة ابن هشام ج١ ص٢٦٦.
[٧] مجموعة ورّام ج٢ ص٣٩.
[٨] إعلام الوری ج١ ص١٧٩.
[٩] بحار الأنوار ج٤٧ ص٣٧٨.
[١٠] بحار الأنوار ج٤٧ ص٣٧٨.
[١١] غَوَّثَ الرجلُ: قال: واغوثاه.
[١٢] الكافي ج٦ ص٣٩.
[١٣] سورة الذاريات: ٥٦.
[١٤] الشيخ الرئيس ابن سينا.
[١٥] عدة الداعي ج١ ص٢٤٨.
هاشتاغ
خلاصة المحاضرة
- لقد استلم أمير المؤمنين (ع) بعد طول انتظار لا منه بل من الأمة لقيادته الحكيمة العادلة، ثم يطلب منه أن يرضي بعض الوجهاء والرؤوس ممن أكلوا دهرا من كنوز بيت المال بشيء من المال، ولكنه رفض ذلك، فلم يكن ليؤسس حكمه على الممالأة وإعطاء الرشوة أو إعطاء الحق لغير أهله.
- كان الإمام الحسين (ع) في أرض كربلاء معرضا للشهادة ومعه الذرية الطاهرة، ولو تراجع عن موقفه لرجع إلى المدينة سالما بل لو نطق الإمام بكلمة فيها تأييد ليزيد لما رجع إلى المدينة سالما فحسب، بل كان يعطى بعض الولايات إن كان وجوده مما يدعم الحكم الأموي ولكنه أبى التنازل عن رسالته.