- ThePlus Audio
دروس من سيرة الإمام الصادق (ع)
بسم الله الرحمن الرحيم
عظمة شخصية الإمام الصادق (عليه السلام) وعالميته
لا يمكن أن نعطي الإمام الصادق (ع) حقه مهما طال الحديث عنه، وهو الشخصية التي تناولتها عشرات الأقلام من المؤالفين والمخالفين وحتى غير المسلمين تناولوا سيرته بكل إعظام وإكبار. ولا ينبغي أن نقرأ سيرته وسيرة الأئمة على أنهم عظماء نستمع في قراءة سيرتهم دون العزم على التأسي بصفاتهم وأخلاقهم. وقد ورد في القرآن التأسي برسول الله (ص) حيث قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[١] وهم الامتداد الطبيعي لرسول الله (ص) ومنه يستمدون علمهم. بل ذكرت الروايات الشريفة أن المؤمن ينبغي أن يتخلق بأخلاق الله عز وجل؛ فالله كريم ويحب الكريم وجميل ويحب الجمال.
من وصايا الإمام (عليه السلام) قبيل وفاته
ومن الملفت والغريب في سيرة الإمام الصادق (ع) أنه قام بأمرين قبيل وفاته؛ ومن الطبيعي أن يذهل الإنسان عن كل شيء عند انتقاله إلى الدار الآخرة ولكن الأئمة (ع) يردون على الله عز وجل بكل اطمئنان. وكان السم قد أخذ من الإمام (ع) كل مأخذ حتى وصفه فضيل بن يسار بقوله: (دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فِي مَرْضَةٍ مَرِضَهَا لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلاَّ رَأْسُهُ)[٢] ومع ذلك تقول جارية له: (كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ حِينَ حَضَرَتْهُ اَلْوَفَاةُ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ أَعْطُوا اَلْحَسَنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ وَهُوَ اَلْأَفْطَسُ سَبْعِينَ دِينَاراً وَأَعْطُوا فُلاَناً كَذَا وَفُلاَناً كَذَا – فَقُلْتُ أَ تُعْطِي رَجُلاً حَمَلَ عَلَيْكَ بِالشَّفْرَةِ فَقَالَ وَيْحَكِ أَ مَا تَقْرَأينَ اَلْقُرْآنَ قُلْتُ بَلَى قَالَ أَ مَا سَمِعْتَ قَوْلَ اَللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ – وَاَلَّذِينَ يَصِلُونَ مٰا أَمَرَ اَللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخٰافُونَ سُوءَ اَلْحِسٰابِ)[٣].
والإمام (ع) في أخريات حياته الشريفة يعطي من ماله لا للصالحين؛ بل لمن حمل عليه بالشفرة كناية عمن هم بقتله. وقد أراد (ع) أن يعطينا درسا في صلة الأرحام حتى أولئك الذين أرادوا لنا سوء في يوم من الأيام. وقد عفى يوسف (ع) عمن هم بقتله وقال لهم: (قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[٤].
والأمر الآخر هو ما نقله أبو بصير حيث قال: (دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَمِيدَةَ أُعَزِّيهَا بِأَبِي عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَبَكَتْ وَبَكَيْتُ لِبُكَائِهَا ثُمَّ قَالَتْ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ لَوْ رَأَيْتَ أَبَا عَبْدِ اَللَّهِ عِنْدَ اَلْمَوْتِ لَرَأَيْتَ عَجَباً فَتَحَ عَيْنَهُ ثُمَّ قَالَ اِجْمَعُوا لِي كُلَّ مَنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ قَالَتْ فَلَمْ نَتْرُكْ أَحَداً إِلاَّ جَمَعْنَاهُ قَالَ فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ إِنَّ شَفَاعَتَنَا لاَ تَنَالُ مُسْتَخِفّاً بِالصَّلاَةِ)[٥]. وقد بين الإمام (ع) أن هذه الشفاعة المستمدة من رحمة الله رغم عظمتها لا تنال مستخفا بالصلاة. وإذا أراد الموالي أن يتبع إمامه في كل أقواله وأفعاله؛ عليه أن يأخذ بعين الاعتبار كلما ما صدر منهم.
فالمؤمن يقيم مجالس أهل البيت (ع) ويبكي عليهم ولكن لا على حساب الصلاة. ولم يقل الإمام (ع): تاركا للصلاة وإنما قال: مستخفا بها؛ أي لا يقيم لها وزنا ويعتبرها حركة عادية وقد فسر الأئمة (ع) السكر المذكور في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى)[٦]؛ بسكر النوم والغفلة والذهول في أثناء الصلاة.
علم الإمام الصادق (عليه السلام) ومناظرته أبا حنيفة
وأما مدرسته العلمية فغنية عن التعريف وقد طبق الآفاق ذكرها وقصته مع أبي حنيفة صاحب المذهب المعروف قصة معروفة، ويبدو أنه كان نوع تحد بينه وبين الإمام (ع). فعن الحسن بن زياد قال: (سَمِعْتُ أَبَا حَنِيفَةَ وَقَدْ سُئِلَ مَنْ أَفْقَهُ مَنْ رَأَيْتَ فَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ لَمَّا أَقْدَمَهُ اَلْمَنْصُورُ بَعَثَ إِلَيَّ فَقَالَ يَا أَبَا حَنِيفَةَ إِنَّ اَلنَّاسَ قَدْ فُتِنُوا بِجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ)[٧]؛ وهذه العبارة على صغرها تعني الكثير؛ فلم يقل الشيعة أو أهل المدينة وإنما قال: الناس فتنوا به.
ثم تقول الرواية: (فَهَيِّءْ لَهُ مِنْ مَسَائِلِكَ اَلشِّدَادِ فَهَيَّأْتُ لَهُ أَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً ثُمَّ بَعَثَ إِلَيَّ أَبُو جَعْفَرٍ وَهُوَ بِالْحِيرَةِ فَأَتَيْتُهُ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَجَعْفَرٌ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِهِ فَلَمَّا بَصُرْتُ بِهِ دَخَلَنِي مِنَ اَلْهَيْبَةِ لِجَعْفَرٍ مَا لَمْ يَدْخُلْنِي لِأَبِي جَعْفَرٍ)[٨]؛ وهكذا هم أئمتنا (ع) لهم هيبة عجيبة وإشراق وهيمنة على النفوس جميعها لا الشيعة فقط. ثم قال أبو حنيفة في نهاية المطاف: (أَ لَيْسَ أَنَّ أَعْلَمَ اَلنَّاسِ أَعْلَمُهُمْ بِاخْتِلاَفِ اَلنَّاسِ)[٩]. وينبغي للمؤمن أن يفتخر بهؤلاء القادة؛ فنحن نستمد فقهنا وتاريخنا وسيرتنا وفلسفتنا وسنتنا من هذه الوجودات الطاهرة.
حلم الإمام (عليه السلام) ورأفته مع الخلق
وأما من مواقفه في تعامله مع الخلق، فقد روي عن حماد اللحام أنه قال: (أَتَى رَجُلٌ أَبَا عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)[١٠]؛ إنها كنية الإمام الصادق (ع) وكنية الحسين (ع) إلا أنه إذا قيل: أبوعبدالله من دون بيان فيقصد منه الصادق (ع). (فَقَالَ إِنَّ فُلاَناً اِبْنَ عَمِّكَ ذَكَرَكَ فَمَا تَرَكَ شَيْئاً مِنَ اَلْوَقِيعَةِ وَاَلشَّتِيمَةِ إِلاَّ قَالَهُ فِيكَ)[١١]؛ وهي عبارة في الحقيقية يهتز منها بدن المؤمن والرجل الذي يشتم إمام زمانه يخرج من الإسلام ولكن الإمام الصادق (ع) وهو صاحب الأمر كان له شأنا آخر. (فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اَللَّهِ لِلْجَارِيَةِ اِيتِينِي بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ وَدَخَلَ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي يَدْعُو عَلَيْهِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ يَا رَبِّ هُوَ حَقِّي قَدْ وَهَبْتُهُ وَأَنْتَ أَجْوَدُ مِنِّي وَأَكْرَمُ فَهَبْهُ لِي وَلاَ تُؤَاخِذْهُ بِي وَلاَ تُقَايِسْهُ ثُمَّ رَقَّ فَلَمْ يَزَلْ يَدْعُو فَجَعَلْتُ أَتَعَجَّبُ)[١٢].
ومن حلمه (ع) أنه روي أنه: (دَخَلَ سُفْيَانُ اَلثَّوْرِيُّ عَلَى اَلصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَرَآهُ مُتَغَيِّرَ اَللَّوْنِ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ كُنْتُ نَهَيْتُ أَنْ يَصْعَدُوا فَوْقَ اَلْبَيْتِ فَدَخَلْتُ فَإِذَا جَارِيَةٌ مِنْ جَوَارِيَّ مِمَّنْ تُرَبِّي بَعْضَ وُلْدِي قَدْ صَعِدَتْ فِي سُلَّمٍ وَاَلصَّبِيُّ مَعَهَا فَلَمَّا بَصُرَتْ بِي اِرْتَعَدَتْ وَتَحَيَّرَتْ وَسَقَطَ اَلصَّبِيُّ إِلَى اَلْأَرْضِ فَمَاتَ فَمَا تَغَيَّرَ لَوْنِي لِمَوْتِ اَلصَّبِيِّ وَإِنَّمَا تَغَيَّرَ لَوْنِي لِمَا أَدْخَلْتُ عَلَيْهَا مِنَ اَلرُّعْبِ وَقَالَ لَهَا أَنْتِ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اَللَّهِ وَلاَ بَأْسَ عَلَيْكِ مَرَّتَيْنِ)[١٣]. وما أعظم انضباط النفس هذا. فقد يعيش الرجل مع أخيه النسبي أو السببي دهرا حتى إذا ما رأى منه زلة نسي الفضل بينهما والإحسان وبادر إلى الانتقام. أو تاجر في السوق أخطأ معه أخيه في المحاسبة أو تأخر عليه في تسديد ديونه سرعان ما يشتكيه للقاضي وهو ناس لقوله تعالى: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ)[١٤] والحال أنه لو حسب ما ربحه من وراء أخيه أو شريكه هذا من الأموال لوجد أنها الألوف من الدراهم والدنانير؛ فأين هذه الأخلاق من أخلاق مولانا الصادق (ع)؟
كد الإمام (عليه السلام) في طلب الرزق
وكان الإمام الصادق (ع) يمثل الإسلام في زمانه ولكنه مع ذلك كان يعمل بيده. فقد روي عن أحد أصحابه أنه قال: (رَأَيْتُ أَبَا عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَبِيَدِهِ مِسْحَاةٌ وَعَلَيْهِ إِزَارٌ غَلِيظٌ يَعْمَلُ فِي حَائِطٍ لَهُ وَاَلْعَرَقُ يَتَصَابُّ عَنْ ظَهْرِهِ فَقُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ أَعْطِنِي أَكْفِكَ فَقَالَ لِي إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَتَأَذَّى اَلرَّجُلُ بِحَرِّ اَلشَّمْسِ فِي طَلَبِ اَلْمَعِيشَةِ)[١٥]. وقد روي عنهم أن الكاسب حبيب الله عز وجل. وفي هذه الرواية درس للكادحين والعمال الذين يكدون في طلب الرزق؛ أن لا منافاة بين أن يكون الإنسان في قمة التقوى والنزاهة والقرب من الله عز وجل وبين كده للاستغناء عن لئام الناس.
معاملته العصاة
قد يسمع المؤمن بزلة أو معصية تصدر من أخيه المؤمن؛ لا ينبغي أن يسقطه بها عن الاعتبار، وقد تكون امرأة مؤمنة مصلية متصدقة ولكن هناك خلل في حجابها فلا ينبغي طردها من دائرة المؤمنين. ولقد كان الإمام الصادق رؤوفا بعصاة الأمة، فقد روي عن أبي بصير أنه قال: (كَانَ لِي جَارٌ يَتَّبِعُ اَلسُّلْطَانَ فَأَصَابَ مَالاً فَاتَّخَذَ قِيَاناً وَكَانَ يَجْمَعُ اَلْجُمُوعَ وَيَشْرَبُ اَلْمُسْكِرَ وَيُؤْذِينِي فَشَكَوْتُهُ إِلَى نَفْسِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ فَلَمْ يَنْتَهِ فَلَمَّا أَلْحَحْتُ عَلَيْهِ قَالَ يَا هَذَا أَنَا رَجُلٌ مُبْتَلًى وَأَنْتَ رَجُلٌ مُعَافًى فَلَوْ عَرَّفْتَنِي لِصَاحِبِكَ رَجَوْتُ أَنْ يَسْتَنْقِذَنِيَ اَللَّهُ بِكَ)[١٦]؛ لقد كان جاره عاصيا ولكن لم تنقطع صلته العاطفية بإمام زمانه، فقد طلب من أبي بصير أن يطلب له من الإمام الصادق (ع) أن يدعو له.
يقول أبو بصير: (فَوَقَعَ ذَلِكَ فِي قَلْبِي فَلَمَّا صِرْتُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ذَكَرْتُ لَهُ حَالَهُ فَقَالَ لِي إِذَا رَجَعْتَ إِلَى اَلْكُوفَةِ فَإِنَّهُ سَيَأْتِيكَ فَقُلْ لَهُ يَقُولُ لَكَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ دَعْ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ وَأَضْمَنُ لَكَ عَلَى اَللَّهِ اَلْجَنَّةَ قَالَ فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى اَلْكُوفَةِ أَتَانِي فِيمَنْ أَتَى فَاحْتَبَسْتُهُ حَتَّى خَلاَ مَنْزِلِي فَقُلْتُ يَا هَذَا إِنِّي ذَكَرْتُكَ لِأَبِي عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَقَالَ أَقْرِئْهُ اَلسَّلاَمَ وَقُلْ لَهُ يَتْرُكُ مَا هُوَ عَلَيْهِ وَأَضْمَنُ لَهُ عَلَى اَللَّهِ اَلْجَنَّةَ فَبَكَى ثُمَّ قَالَ اَللَّهَ قَالَ لَكَ جَعْفَرٌ عَلَيْهِ السَّلاَمُ هَذَا قَالَ فَحَلَفْتُ لَهُ أَنَّهُ قَالَ لِي مَا قُلْتُ لَكَ فَقَالَ لِي حَسْبُكَ وَمَضَى)[١٧]؛ فقد أخذ الرجل قراره الحاسم.
ثم يقول أبو بصير: (فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ بَعَثَ إِلَيَّ وَدَعَانِي فَإِذَا هُوَ خَلْفَ بَابِ دَارِهِ عُرْيَانٌ فَقَالَ يَا أَبَا بَصِيرٍ مَا بَقِيَ فِي مَنْزِلِي شَيْءٌ إِلاَّ وَخَرَجْتُ عَنْهُ وَأَنَا كَمَا تَرَى)[١٨]؛ فقد تخلص من أمواله التي اكتسبها بالحرام. يقول أبو بصير: (فَمَشَيْتُ إِلَى إِخْوَانِي فَجَمَعْتُ لَهُ مَا كَسَوْتُهُ بِهِ ثُمَّ لَمْ يَأْتِ عَلَيْهِ إِلاَّ أَيَّامٌ يَسِيرَةٌ حَتَّى بَعَثَ إِلَيَّ أَنِّي عَلِيلٌ فَأْتِنِي فَجَعَلْتُ أَخْتَلِفُ إِلَيْهِ وَ أُعَالِجُهُ حَتَّى نَزَلَ بِهِ اَلْمَوْتُ – فَكُنْتُ عِنْدَهُ جَالِساً وَ هُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ غُشِيَ عَلَيْهِ غَشْيَةً ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ يَا أَبَا بَصِيرٍ قَدْ وَفَى صَاحِبُكَ لَنَا ثُمَّ مَاتَ فَحَجَجْتُ فَأَتَيْتُ أَبَا عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ فَلَمَّا دَخَلْتُ قَالَ مُبْتَدِئاً مِنْ دَاخِلِ اَلْبَيْتِ وَ إِحْدَى رِجْلَيَّ فِي اَلصَّحْنِ وَ اَلْأُخْرَى فِي دِهْلِيزِ دَارِهِ يَا أَبَا بَصِيرٍ قَدْ وَفَيْنَا لِصَاحِبِكَ)[١٩].
التحدث إلى المعصومين (عليهم السلام) في كل وقت وزمان
والدرس البيغ من هذه القصة؛ أن للأئمة (ع) هيمنة على النفوس أحياء كانوا أو أمواتا. إن الله سبحانه يقول عن الشهداء أنهم أحياء عند ربهم يرزقون فكيف بنبي الشهداء وأئمتهم؟ ولذلك ورد في قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا)[٢٠] وهذه الآية لا تختص بحياة النبي (ص). فبإمكان العبد أن يتوجه إلى أئمته (ع) أينما كانوا في الليل أو النهار بقلبه ويتحدث إليهم ويبثهم ذات نفسه. وقد تمسح فطرس الملك بمهد الحسين (ع) فعادت إليه أجنحته وضمن أن يبلغ سلام المؤمنين للحسين (ع) بشكل مباشر.
ومن المواقف الملفتة في سيرة الإمام الصادق (ع) – وهي رواية ينبغي للمرأة التي تؤذي زوجها أن تتأملها جيدا –، ما روي عن الحسين بن أبي العلاء قال: (كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ أَوْ مَوْلًى لَهُ يَشْكُو زَوْجَتَهُ وَسُوءَ خُلْقِهَا قَالَ فَأْتِنِي بِهَا فَقَالَ لَهَا مَا لِزَوْجِكِ قَالَتْ فَعَلَ اَللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ فَقَالَ لَهَا إِنْ ثَبَتِّ عَلَى هَذَا لَمْ تَعِيشِي إِلاَّ ثَلاَثَةَ أَيَّامِ قَالَتْ مَا أُبَالِي أَنْ لاَ أَرَهُ أَبَداً فَقَالَ لَهُ خُذْ بِيَدِ زَوْجَتِكَ فَلَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَلَمَّا كَانَ اَلْيَوْمُ اَلثَّالِثُ دَخَلَ عَلَيْهِ اَلرَّجُلُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مَا فَعَلَتْ زَوْجَتُكَ قَالَ قَدْ وَاَللَّهِ دَفَنْتُهَا اَلسَّاعَةَ قُلْتُ مَا كَانَ حَالُهَا قَالَ كَانَتْ مُتَعَدِّيَةً فَبَتَرَ اَللَّهُ عُمُرَهَا وَأَرَاحَهُ مِنْهَا)[٢١]. وهذه المرأة بدل أن تدافع عن نفسها دعت على زوجها أمام الإمام (ع) وقد كانت طويلة اللسان أمامه (ع).
ولا ينبغي أن يفرح الرجال بهذه الرواية فالقضية تجري عليهم أيضا؛ فيبتر الله عمر الرجل الذي يؤذي زوجته. فلا قرابة والعياذ بالله بينه وبين الرجال وهو القائل: (أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ)[٢٢].
معرفة الإمام (عليه السلام) بالوقت المناسب للقيام
ومما حدث في زمان الإمام الصادق (ع) وهو يشبه ما يتمناه البعض في زماننا هذا من تعجيل ظهور صاحب الأمر (عج) وهم غير مستعدون لذلك ولا للتضحية دونه حتى الموت، ما روي عن مأمون الرقي أنه قال: (كُنْتُ عِنْدَ سَيِّدِيَ اَلصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِذْ دَخَلَ سَهْلُ بْنُ حَسَنٍ اَلْخُرَاسَانِيُّ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ لَهُ يَا اِبْنَ رَسُولِ اَللَّهِ لَكُمُ اَلرَّأْفَةُ وَاَلرَّحْمَةُ وَأَنْتُمْ أَهْلُ بَيْتِ اَلْإِمَامَةِ مَا اَلَّذِي يَمْنَعُكَ أَنْ يَكُونَ لَكَ حَقٌّ تَقْعُدُ عَنْهُ وَأَنْتَ تَجِدُ مِنْ شِيعَتِكَ مِائَةَ أَلْفٍ يَضْرِبُونَ بَيْنَ يَدَيْكَ بِالسَّيْفِ فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ اِجْلِسْ يَا خُرَاسَانِيُّ رَعَى اَللَّهُ حَقَّكَ ثُمَّ قَالَ يَا حَنَفِيَّةُ اُسْجُرِي اَلتَّنُّورَ فَسَجَرَتْهُ حَتَّى صَارَ كَالْجَمْرَةِ وَاِبْيَضَّ عُلْوُهُ ثُمَّ قَالَ يَا خُرَاسَانِيٌّ قُمْ فَاجْلِسْ فِي اَلتَّنُّورِ فَقَالَ اَلْخُرَاسَانِيُّ يَا سَيِّدِي يَا اِبْنَ رَسُولِ اَللَّهِ لاَ تُعَذِّبْنِي بِالنَّارِ أَقِلْنِي أَقَالَكَ اَللَّهُ قَالَ قَدْ أَقَلْتُكَ فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَ هَارُونٌ اَلْمَكِّيُّ وَنَعْلُهُ فِي سَبَّابَتِهِ فَقَالَ اَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا اِبْنَ رَسُولِ اَللَّهِ فَقَالَ لَهُ اَلصَّادِقُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَلْقِ اَلنَّعْلَ مِنْ يَدِكَ وَاِجْلِسْ فِي اَلتَّنُّورِ قَالَ فَأَلْقَى اَلنَّعْلَ مِنْ سَبَّابَتِهِ ثُمَّ جَلَسَ فِي اَلتَّنُّورِ وَأَقْبَلَ اَلْإِمَامُ يُحَدِّثُ اَلْخُرَاسَانِيَّ حَدِيثَ خُرَاسَانَ حَتَّى كَأَنَّهُ شَاهِدٌ لَهَا ثُمَّ قَالَ قُمْ يَا خُرَاسَانِيُّ وَاُنْظُرْ مَا فِي اَلتَّنُّورِ قَالَ فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَرَأَيْتُهُ مُتَرَبِّعاً فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَسَلَّمَ عَلَيْنَا فَقَالَ لَهُ اَلْإِمَامُ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ كَمْ تَجِدُ بِخُرَاسَانَ مِثْلَ هَذَا فَقُلْتُ وَاَللَّهِ وَلاَ وَاحِداً فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لاَ واَللَّهِ وَلاَ وَاحِداً أَمَا إِنَّا لاَ نَخْرُجُ فِي زَمَانٍ لاَ نَجِدُ فِيهِ خَمْسَةً مُعَاضِدِينَ لَنَا نَحْنُ أَعْلَمُ بِالْوَقْتِ)[٢٣].
ولو كان بناء الإمام (ع) أن يخرج بالمعجزات لما انتظر هذه السنين الطويلة ولكان خرج في سنة مائتين وواحد وستين وأراح الناس من ملك بني العباس.
التأسي بأصحاب الإمام الصادق (عليه السلام)؛ أبان بن تغلب
وكان للإمام الصادق (ع) أصحاب مبرزون منهم أبان بن تغلب وكان عالما بالتفسير والحديث والفقه واللغة والنحو كان قارئا ومن الشخصيات العلمية المهمة في المدينة. وكان يقول له الإمام الباقر (ع): (اِجْلِسْ فِي مَسْجِدِ اَلْكُوفَةِ وَأَفْتِ اَلنَّاسَ، إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يُرَى فِي شِيعَتِي مِثْلُكَ)[٢٤]. وقد توفي في زمان الإمام الصادق (ع) وقال عنه الإمام: (أَمَا وَاَللَّهِ لَقَدْ أَوْجَعَ قَلْبِي مَوْتُ أَبَانٍ)[٢٥] لشدة الحب والمودة التي كانت بينه (ع) وبينه. وأنه كان أبان إذا قدم المدينة تقوضت إليه الحلق وأخليت له سارية النبي (ص).
[٢] الکافي ج٢ ص٢٤٦.
[٣] تهذيب الأحكام ج٩ ص٢٤٦.
[٤] سورة يوسف: ٩٢.
[٥] ثواب الأعمال و عقاب الأعمال ج١ ص٢٢٨.
[٦] سورة النساء: ٤٣.
[٧] بحار الأنوار ج٤٧ ص٢١٧
[٨] بحار الأنوار ج٤٧ ص٢١٧.
[٩] بحار الأنوار ج٤٧ ص٢١٧.
[١٠] بحار الأنوار ج٨٨ ص٣٨٥.
[١١] بحار الأنوار ج٨٨ ص٣٨٥.
[١٢] مشكاة الأنوار ج١ ص٢١٧.
[١٣] بحار الأنوار ج٤٧ ص٢٤.
[١٤] سورة البقرة: ٢٨٠.
[١٥] الکافي ج٥ ص٧٦.
[١٦] كشف الغمة ج٢ ص١٩٤.
[١٧] كشف الغمة ج٢ ص١٩٤.
[١٨] كشف الغمة ج٢ ص١٩٤.
[١٩] كشف الغمة ج٢ ص١٩٤.
[٢٠] سورة النساء: ٦٤.
[٢١] بحار الأنوار ج٤٧ ص٩٧.
[٢٢] سورة آل عمران: ١٩٥.
[٢٣] المناقب ج٤ ص٢٣٧.
[٢٤] الرجال (لابن داود) ج١ ص١٠.
[٢٥] رجال الکشی ج١ ص٣٣٠.
خلاصة المحاضرة
- من الملفت في سيرة الإمام الصادق (ع) وصاياه في آخر أيام حياته والتي منها؛ وصيته بأن يدفع من ماله شيء لابن عمه الذي هم في يوم من الأيام بقتله. ومنها ما أمر بجمع جميع أهل بيته ووصيته بعدم الاستخفاف بالصلاة وأن شفاعتهم لا تنال مستخفا بها.
- وكان الإمام الصادق (ع) يمثل الإسلام في زمانه ولكنه مع ذلك كان يعمل بيده. قال أحد أصحابه: رأيت أبا عبد الله عليه السلام وبيده مسحاة، وعليه إزار غليظ يعمل في حائط له، والعرق يتصاب عن ظهره، فقلت: جعلت فداك، أعطني أكفك. فقال لي: إنّي احبّ أن يتأذّى الرجل بحرّ الشمس في طلب المعيشة.