- ThePlus Audio
كيف نعالج سوء الظن بالآخرين؟
بسم الله الرحمن الرحيم
وأفضل الصلاة وأتم السلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين محمد المصطفى وآله الطيبين الطاهرين.
حدود الإنسان ومحاولات إبليس للنفوذ إليه
للإنسان حدود هي بمثابة حدود البلاد، ولو وجد ثغر واحد في هذه الحدود لنفذ من خلاله الشيطان وتغلغل إلى أعماق الإنسان، وينبغي للمؤمن أن يكون حذرا مرابطا على هذه الثغور ولا يغتر بنفسه إن تمكن من سد بعض الثغرات فقد ينفذ الشيطان إلى نفسه من غيرها، فلو رأى أنه مبرئ من الحسد والبخل وسوء الظن والغضب فليحمد الله على ذلك، ولكن ليحذر سائر الثغرات، فتكفي ثغرة واحدة ينفذ من خلالها الشيطان لتقلب مسيرة الإنسان رأسا على عقب.
ولعلة واحدة استحال إبليس من أعبد العابدين إلى شيطان رجيم وإلى أسوأ مخلوق على وجه الأرض وهي التكبر، مع ما كان عليه من حسن العبادة وطول الركوع والسجود قبل أن يخلق آدم ونرى ذلك واضح في الروايات، فلم ينقل إلينا أن الشيطان كان بخيلا أو غضوبا أو شهوانيا، بل كان متكبرا وكان ذلك كافيا لأن يتردى ويسقط في الامتحان.
إن الله قد خلق الإنسان وله ضعف في جانب من الجوانب يختبره الله عز وجل به، فواحد يميل إلى الشهوات، وآخر سريع الغضب وعندما تسأله عن العلة يقول هكذا خلقت، وآخر مبتلى بداء الحسد منذ نعومة أظفاره، فيشاكس الأطفال في عمره حسدا وحبا للاستئثار والتملك لما بين يديه من الألعاب البسيطة، فلابد من اكتشاف هذه الثغرات ومعالجتها قبل الاستفحال وقبل التعرض للفتن.
سوء الظن بالآخرين وتأثيره على عبادة الإنسان
إن سوء الظن من الأمور التي لا تدع للإنسان جوا هادئا ولا نفس مطمئنة، فهو دائم التوتر مع الأهل والأجانب ويعيش عدم التوازن الاجتماعي مع الغير وهو مشوش مضطرب في صلاته وصومه وحجه وطوافه وسعيه وليالي قدره، فلا يكاد يعيش حالة الروحانية حتى تأتيه الخواطر لتخرجه مما هو فيه، وخاصة في الصلاة التي هي اللقاء الوحيد الرسمي بين العبد وبين ربه في اليوم خمس مرات، فإذا صرفتنا الشواغل الذهنية والنفسية والتوتر الذي نعيشه مع الخلق عن هذه الدقائق المعدودة فماذا يبقى لنا من صلواتنا؟ وقد ورد في الروايات الشريفة عن النبي الأكرم (ص) أنه قال: (أَنَّ اَلْعَبْدَ إِذَا اِشْتَغَلَ بِالصَّلاَةِ جَاءَهُ اَلشَّيْطَانُ وَقَالَ لَهُ اُذْكُرْ كَذَا اُذْكُرْ كَذَا حَتَّى يُضِلَّ اَلرَّجُلَ أَنْ يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى)[١].
لا يجوز هجر المؤمن فوق ثلاث..!
ولهذا تؤكد الروايات كثيرا على عدم التباغض وعلى تصفية العلاقات مع الآخرين، وهناك ذم شديد بالنسبة للمتخاصمين من المؤمنين، فقد ورد عن الباقر (ع): (مَا مِنْ مُؤْمِنَيْنِ اِهْتَجَرَا فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ وَبَرِئْتُ مِنْهُمَا فِي اَلثَّالِثَةِ فَقِيلَ لَهُ يَا اِبْنَ رَسُولِ اَللَّهِ هَذَا حَالُ اَلظَّالِمِ فَمَا بَالُ اَلْمَظْلُومِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مَا بَالُ اَلْمَظْلُومِ لاَ يَصِيرُ إِلَى اَلظَّالِمِ فَيَقُولُ أَنَا اَلظَّالِمُ حَتَّى يَصْطَلِحَا)[٢].
سوء الظن والخلافات الزوجية
ومن أسوأ حالات التباغض والتهاجر ما يكون بين الزوجين، فالذي لا يحاول تصفية الخلافات الأسرية؛ يرجع إلى المنزل قلقا مضطربا، وقد تتراكم هذه الخلافات لتصبح كالألغام الموقوتة التي تنفجر يوما ما، ولا يمكن للإنسان الذي يعيشه في هذه الأجواء أن يتقدم في سيره إلى الله عز وجل، أو أن يرتقي حتى في الكمالات الاجتماعية الظاهرية، ومن أهم مناشئ الاختلاف بين الزوجين سوء الظن بينهما.
لا تخلق لنفسك عدوا وهميا..!
لا ينبغي للإنسان أن يصنع لنفسه عدوا لا وجود له في الخارج، أن يعيش الإنسان مشكلة مع عدو مشاكس أو مراقب أو منافس في العمل أو أي شخص مزعج آخر لا يؤرق الإنسان بقدر ما يؤرقه ويزعجه الوجود الذهني الذي يصنعه الإنسان بسوء تصرفه، فقد يبعد هذا العدو الذهني عن الإنسان آلاف الكيلومترات ولكن انشغاله الذهني بهذا العدو يوقعه في الأزمات النفسية، وقد تكون المخاطر أقل بكثير مما يتصوره الإنسان في ذهنه، وقد يكون الإنسان جالسا في منزله مع عائلته جلسة مريحة وإذا بهذه الخيالات والأوهام التي قد تكون بعضها خيالات وأوهام قديمة أو العدو المفترض في ذهن الإنسان قد يعيش في دولة بعيدة أو قد أصبح في عداد الموتى ولكنه يكدر عليه صفو جلسته تلك.
لا تأخذ بأقوال الناس في أخيك المؤمن..!
وقد ورد في الأثر عن أحد أصحاب الإمام الكاظم (ع) يقول: (قُلْتُ لَهُ جُعِلْتُ فِدَاكَ اَلرَّجُلُ مِنْ إِخْوَانِي يَبْلُغُنِي عَنْهُ اَلشَّيْءُ اَلَّذِي أَكْرَهُهُ فَأَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ فَيُنْكِرُ ذَلِكَ وَقَدْ أَخْبَرَنِي عَنْهُ قَوْمٌ ثِقَاتٌ فَقَالَ لِي يَا مُحَمَّدُ كَذِّبْ سَمْعَكَ وَبَصَرَكَ عَنْ أَخِيكَ فَإِنْ شَهِدَ عِنْدَكَ خَمْسُونَ قَسَامَةً وَقَالَ لَكَ قَوْلاً فَصَدِّقْهُ وَكَذِّبْهُمْ لاَ تُذِيعَنَّ عَلَيْهِ شَيْئاً تَشِينُهُ بِهِ وَتَهْدِمُ بِهِ مُرُوءَتَهُ فَتَكُونَ مِنَ اَلَّذِينَ قَالَ اَللَّهُ فِي كِتَابِهِ: «إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ اَلْفٰاحِشَةُ فِي اَلَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ »)[٣].
وهناك الكثير من الروايات التي يتبين منها أن الفساد إذا غلب على الزمان، وكثر المكر والخديعة وانتقضت العهود، فعلى المؤمن أن يحذر، ولا بأس بأن يتداين المؤمنون وتجرى بينهم العقود والمعاملات ولكن عليهم أن يلتزموا بما أوصى القرآن به في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ)[٤] حتى لا تقع بينهم نزاعات في المستقبل، ولا يتنافى ذلك مع حسن الظن بالآخرين، وقد ورد في الروايات عن النبي (ص): (اَلْمُؤْمِنُ كَيِّسٌ فَطِنٌ حَذِرٌ)[٥]، وما ورد عن الرضا (ع): (فَاتَّقُوا فِرَاسَةَ اَلْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اَللَّهِ)[٦]، و(اَلْعَالِمُ بِزَمَانِهِ لاَ تَهْجُمُ عَلَيْهِ اَللَّوَابِسُ)[٧]؛ فيتوقع الأحداث قبل وقوعها.
وللشهيد الأول أو الثاني كلام جميل في هذا المجال، يقول: إذا حذرك العادل المؤمن من مؤمن آخر وأبدى لك ما يضمره من مشاعر سلبية تجاهه؛ إياك أن تصدقه في قوله قبل أن تنظر إلى خلفياته النفسية ولعل في نفسه حزازة منه أو مشكلة قائمة بينهما جره إلى أن يقول ذلك عنه ويقف منه هذا الموقف.
ما هي الموارد التي يجوز فيها التجسس؟
وقد يلجأ البعض إلى أساليب غير شرعية في معرفة الطرف المقابل من قبيل التجسس وما شابه ذلك، والبحث عن خفايا المؤمن وأسراره له حالات محددة، كأن يسألك أحدهم عن الرجل يريد بذلك تزويجه ابنته وأنت تعلم أن الزواج فاشل من أساسه فلابد أن تمحضه النصيحة وتحذره، أو يسألك عن أحدهم يريد أن يشاركه في التجارة، فلابد أن تصدقه وتبين له إن كان هناك ما يحذره، أما أن يفتح ملف أخيه المؤمن دونما مبرر وعندما تنكر عليه ذلك يقول لك إنما أتحدث عن واقع يعرفه الجميع، فنقول: إن كان يكشف الواقع فهو يغتابه وإن كان غير الواقع فهو يتهمه، والتهمة أعظم من الغيبة، لأنه يذكر أخاه بما ليس فيه.
لا تتسرع في الحكم على الآخرين!
ولابد أن يلتفت المؤمن إلى الفرق بين الحالة العرضية والحالة المتأصلة في وجود الإنسان، فقد تبرز من المؤمن الهفوة أو تعرض له زلة في قول أو كلمة، وعلى سبيل المثال قد يدخل رجل شريف أو سيد إلى مجلس فيقوم الجميع إجلالا له إلا رجل واحد يكون في زاوية من المجلس يتكاسل عن القيام؛ فهنا لابد أن نرى هل موقفه هذا موقف يتكرر دائما أم أنه حالة نادرة نتج عن غفلة أو سوء أدب، فلا يرمى بالكبر لموقف واحد، أما إذا تكرر هذا الموقف قد يمكن وصفه بهذا الداء، ولا يتسرع المؤمن في الحكم على أخيه المؤمن إذا تجاهله مرة أو فتر في إلقاء التحية عليه أو لم يرد عليه التحية بأحسن منها، فقد يعيش الرجل أزمة نفسية أو مشكلة معينة أذهلته عن رد التحية وما شابه ذاك، والأمر كذلك في الحياة الزوجية والحالات التي يمر بها الزوجان تختلف من حين لآخر إقبالا وإدبارا.
ومن الأمور التي يجب الالتفات إليها أن الذي يعيش حالة التوتر مع زوجته وأولاده وأرحامه يفقد التأثير عليهم إن رأى منهم منكرا يحتاج إلى تغيير، أو أراد أن يأمرهم بالمعروف إن بدى له ذلك يوما، لأنه قد حكم عليهم مسبقا ووقف منهم موقفا سلبيا وليست له محبوبية اجتماعية، فلا تأثير لكلامه وإن بادر إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
موقف المؤمن من الأمور السلبية التي تصدر من الآخرين
وينبغي للمؤمن أن يقف من الأمور السلبية التي يراها من الآخرين هذه المواقف الثلاث: أحدها، أن يبادر إلى موعظة أخيه سرا، وثانيها، أن يحمل فعله إن أمكنه على سبعين محمل كما أشارت إلى ذلك الروايات الشريفة: (لاَ تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ بَدَرَتْ مِنْ أَحَدٍ سُوءاً وَ أَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي اَلْخَيْرِ مُحْتَمِلاً)[٨].
ثالثها أن لا يجعل الموقف السلبي من أخيه المؤمن أو من زوجته أو من أي شخص في المجتمع يتغلغل إلى باطنه ويخلق له منه عدوا وهميا، وينبغي للمؤمن أن يقلص من حالة العداء للمجتمع من حوله وأن يقلل من الاشتغال بأمور الآخرين ومشاكلهم حتى يعيش هادئ البال مطمئن النفس، ولذلك تؤكد الروايات على أن يكون الجو بين المؤمنين جوا صافيا لا يشوبه كدر، وقد قال الشاعر:
ولقد أمر على اللئيم يسبني *** فمضيت ثمت قلت لا يعنيني[٩]
ولو عملنا بما ورد عن أئمة أهل البيت (ع) لانقلبت الكثير من الموازين الاجتماعية التي نعتمدها في حياتنا اليومية ولو عملنا فقط بقول النبي (ص): (صِلْ مَنْ قَطَعَكَ وَأَحْسِنْ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ)[١٠]، كم كنا لنكسب القلوب التي أضاعت منا لتفريطنا بهذه الكلمات الشريفة!
[٢] بحار الأنوار ج٧٢ ص١٨٨.
[٣] الکافي ج٨ ص١٤٧.
[٤] سورة البقرة: ٢٨٢.
[٥] بحار الأنوار ج٦٤ ص٣٠٧.
[٦] بحار الأنوار ج٦٤ ص٧٥.
[٧] بحار الأنوار ج٧٥ ص٢٦٩.
[٨] عیون الحکم ج١ ص٥٢٢.
[٩] قال البغدادي انه لرجل من بني سلول وهو أحد بيتين، ثانيهما قوله :
غضبان ممتلئا على إهابه *** إني وحقك سخطه يرضيني
[١٠] بحار الأنوار ج٧٤ ص١٧١.
خلاصة المحاضرة
- إن المؤمن دأبه التأني في إصدار الحكم على الآخرين فهو يلتزم بما ألزمه به أئمته من أهل البيت (ع) في ضرورة حمل ما يصدر من المؤمنين من التصرفات السلبية على خير المحامل..!
- لو عملنا بما ورد عن أهل البيت (ع) لانقلبت الكثير من الموازين الاجتماعية التي نعتمدها في حياتنا اليومية ولو عملنا فقط بقول النبي (ص): (صِلْ مَنْ قَطَعَكَ وَأَحْسِنْ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ) ، كم كنا نكسب القلوب التي أضاعت منا لتفريطنا بهذه الكلمات الشريفة!