س١/ في الوصية ورد ذكر تشبيه جميل للدنيا، يبين حقيقتها وواقع الحياة فيها.. نرجو توضيح هذا التشبيه؟..
إن هذا التشبيه مأخوذ من روايات أهل البيت (ع).. وروايات أهل البيت (ع) مليئة بمثل هذه التشبيهات، التي تبين واقع الحياة الدنيا، ومتاعها الزائل.. وقد ورد عن النبي الأكرم (ص) أنه يشبه الإنسان في هذه الدنيا، بمثابة إنسان استظل تحت ظل شجرة ساعة، ثم رحل عنها.. دخل عمر على رسول الله (ص)، وهو على حصير، قد أثّر في جنبيه، فقال: يا نبي الله!.. لو اتخذت فراشا.. فقال: (ما لي وللدنيا، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظلّ تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها).
إن الإنسان مثله في هذه الدنيا، كمسافر أقام في مكان مدة قصيرة، ثم ما يلبث أن يعود إلى وطنه.. لو أن إنسانا سافر للعمرة أو للزيارة، واستقر في سكن يقيم فيه مدة سفره.. لو رأيت هذا الإنسان متشاغلا بتزيين هذا السكن وصبغه، ماذا تحكم عليه؟!.. ألا تتهمه بفقد العقل؟!.. هو جاء لهذا المكان، لهدف يقوم به، والمدة قصيرة، يوم أو يومان، فكيف يضيع وقته في مثل هذا؟!.. وترى أصحابه يذهبون للطواف والزيارة، وهو لا يخرج من المكان الذي هو فيه، لأنه يريد أن يجمل مكانه!.. إن مثل هذا الإنسان، ألا يقال له: إن هذا سكن استراحة وتزود، لا سكن تمتع!.. وأنت إنما جئت لهذا المكان، لأداء مهمة، فأين أنت عن ما جئت لأجله؟!..
وعليه، لا ينبغي للمؤمن الانشغال بهذه الدار عن دار القرار، فإن (المؤمن يتزود، والكافر يتمتع).. وإن الذي ينظر إلى الحياة الدنيا بهذا المنظار، بأنها محطة استراحة وتزود؛ وأنها مزرعة للآخرة، وأن الإنسان لا يجمل مزرعته، بمقدار ما يتزود منها؛ إن الذي يرى هذا المثال في حياته واضحا، فإنه يتحول تلقائيا إلى إنسان مثابر، ومستعد لآخرته.
ومن المناسب التأمل في هذه الآية: {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}؛ فإنها تزعزع الإنسان من الأعماق!.. ولتوضيح معنى هذه الآية، يمكن تشبيه عمل الإنسان في الدنيا، بمثابة إنسان يمشي في الطريق، وبيده كيس فيه بذور، ويرمي هذه البذور خلفه.. فهذه البذور إذا نبتت لن تنفعه شيئا، لأنه تجاوز عنها.. ولكن لو أنه بعث البذور للأمام لتزرع، فإنه إذا وصل إليها سيجدها وقد صارت أشجارا، ينتفع بها.. هلا تأملنا هذا المعنى!.. إن هذا معنى التقديم لغد!..
ولكن بعض الناس حركته حركة تأخير، لا حركة تقديم!.. فالإنسان الذي يعمل للدنيا، ثم يترك إرثه للغير، كأن هذا الإنسان ترك البذور خلفه.. فهو لما يكون في عالم البرزخ، فإن أمواله تكون في عالم الدنيا، والدنيا هي خلف البرزخ، وأنى به حينئذ الانتفاع بها؟..
بينما المؤمن عندما يذهب للبرزخ، فإنه يلتقي بأعماله الصالحة؛ وكأن الذي كان بيده في الدنيا رماه للأمام، وعندما وصل رآه أمامه حاضرا.. فالمؤمن يعمل بسياسة التقديم، لا بسياسة التأخير، وإن العاقل من يقدم ما يريد أمامه!..
فمن يستوعب حقيقة هذا المثال، فمن الطبيعي أن لا يتعامل مع الدنيا إلا بهذا المضمون الروائي: (الدنيا دار ممر لا دار مقر، فخذوا من ممرها إلى مقرها).
س٢/ إن الإنسان في هذه الحياة الدنيا، مجبور ومجبول على التعامل مع عناصرها المختلفة.. فكيف يضمن المؤمن التعامل معها، بدون الالتهاء بها؟..
إن التعامل مع الدنيا بدون التهاء، أمر في غاية الصعوبة!.. إن الإنسان مثله في التعامل مع الدنيا، مثل الناظر إلى المرآة المزينة بالنقوش الجملية؛ إذ يلتهي بالنظر إليها، عن مقصوده بالنظر بها.. فرب العالمين أراد منا، أن ننظر بالدنيا، لا أن ننظر إلى الدنيا.. وإن الأمر يحتاج إلى التفات، وإلى مراقبة دقيقة، وأن يتعامل الإنسان مع الدنيا على نحو الآلة الموصلة للمقصود، لا على نحو الهدف..
مثلا: إن الطعام لابد منه للإنسان، فإذا هو لم يأكل لن يعيش.. ومن المعلوم أن ساعات الجلوس على المائدة، هي ساعات كثيرة من العمر.. فلو جعلنا في اليوم ساعتين للطعام، لكانت هناك نسبة معتد بها، فجزء من اثني عشر جزء من أجزاء اليوم، وأنت في حال الأكل طوال العمر!..
فمن المناسب عندما يجلس الإنسان على المائدة ليأكل، أن يستحضر هذه النية، يقول: يا رب!.. أنا لست في مقام الالتهاء بالطعام، كالتهاء البهائم، لست كهؤلاء الذين ألحقتهم بذمك، إذ قلت: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ}.. أنا في مقام التقوي على عبادتك، فلولا الأكل، لما قدرت على أن أعبدك.. وكذلك لما يريد أن ينام، يقول: يا رب!.. لولا النوم هذه الليلة، لما أمكنني قيام الليل في ساعة السحر.. وهكذا المؤمن في كل حركة يقوم بها، يحاول أن يربطها بهدف مرضاة الله تعالى، ولا يقصدها لذاتها.. فالمؤمن ينظر إلى كل هذه العناصر الدنيوية، على أنها عناصر مساعدة لنيل المآرب الأخروية.
س٣/ هل أن التنوع في المتاعات الدنيوية، والانشغال والتعلق الزائد بها، له تأثير في عدم تحقيق التكامل؟..
بلا شك!.. ولهذا نلاحظ أن المتميزين في هذا العصر قليلون، قياسا للسنوات السابقة.. فقبل قرون-كما نلاحظ- هنالك فطاحل، سواء في عالم التزكية، أو في عالم التعليم.. إن سعة الدنيا في هذه الأيام، وتنوع المتاع الدنيوي: في المأكول، والمشروب، والملبوس، والسكن، ووسائل الاتصال، ووسائل النقل؛ بالتأكيد إن لذلك التأثير البالغ، ومن موجبات عدم التميز.. إن هذه الأيام كل شيء في مد وفي تكامل مادي، والذي يلتهي بعناصر الدنيا، لابد أن يختلف عن الذي كان يعيش في القرى، حيث بساطة العيش قبل عشرات السنين.. ويلاحظ هذا الفرق، من يذهب إلى بعض القرى النائية، في أعالي الجبال، أو في بعض البلدان الفقيرة، حيث يستشعر شيئا من التحرر من وسائل المعيشة المتعارفة الآن.
ولهذا من المناسب أن يعود الإنسان نفسه على شيء من الخشونة والبساطة في العيش، ويبتعد عن الترف والرفاهية الزائدة، وإن كان متمكنا من امتلاك النعيم.. نلاحظ أن بعض المؤمنين لا تقل ثروته عن كبار أهل الدنيا، ولكنه مع ذلك يحب أن يعيش البساطة في العيش، ولا يريد أن تكون له حالة البذخ، أو كما يعبر عنه بالحالة القارونية..
ثم إن الإنسان الذي يخفف من العناصر الدنيوية في حياته، لا شك أنه يريح نفسه من كثير من التعلقات، ويقوى عنده التركيز.. ولهذا تلاحظ هناك فرقا بين الصلاة في الأماكن الفاخرة، والصلاة في غرفة صغيرة، خالية من الأثاث والزينة.. فقلة العناصر، من موجبات التركيز، وحتى في عالم التفكير، ينصح الذي يريد أن يؤلف كتابا، أو يقدم رسالة علمية، أن يذهب إلى مكان خال من عناصر مشوشة من الزينة وغيرها.
فإذن، إن من موجبات التميز وسرعة السير، التخفف من متاع الدنيا، ليتخلص المؤمن من أنواع الملهيات، التي تصده عن الله تعالى.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.