محطات الإنابة..
إن الخطوة الأولى في مجال تقصي معالم السفر إلى الله عز وجل، أن نزيل من أنفسنا الخوف والرعب، ونكون واقعيين.. فالإنسان المؤمن إنسان واقعي، ومن هنا ليس الحل هو الفرار، وإنما الحل بالمواجهة.. وليس بالتناسي، إنما بالتفكر الفاعل.. وبحمد الله -تعالى- هناك مجال في الحياة الدنيوية للتعويض: استغفاراً بين يدي الله عز وجل، واستحلالاً من العباد، وتعويضاً.. وخاصة أن الله -عز وجل- جعل لنا محطات كبرى للإنابة إليه، منها:
– ليالي القدر: فليلة القدر هي خير من ألف شهر، لذا المؤمن طوال السنة يهيئ نفسه، ويستعد لها.. حيث أنه يستحب أن يقرأ المصلي في كل فريضة بعد سورة الحمد ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾.. نحن في كل يوم نذكّر أنفسنا بليلة القدر، لأننا سنكسب الأبدية والخلود في الآخرة في مقابل ليلة القدر.. فحياة الإنسان كلها في جانب، وليلة القدر في جانب.. ومن هنا ينتاب الإنسان العجب، ممن لا يعد العدة لمثل تلك الليلة.
– موسم الحج: هنالك لافتة في مدخل مكة كتب عليها هذا الحديث: (مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ؛ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ).. والحج أيام معدودات ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾، حيث أن البعض يذهب للحج في خمسة أيام من اليوم السابع إلى اليوم الثاني عشر، وإذا بهذه الأيام تزيح عنه ذنوب العمر.. فإذن، إن الفرصة مؤاتية جداً، فلابد أن نغتنمها.. يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (ما مضى فات، وما يأتي فأين؟.. قم واغتنم الفرصة بين العدمين)!.. هنالك عدم قبل الولادة، وهنالك عدم الموت.. فاغتنم هذه الفرصة!..
توصيات السفر إلى الله عز وجل..
أولاً: من دعاء مكارم الأخلاق للإمام السجاد (عليه السلام): (وعمرني ما كان عمري بذلة في طاعتك، فإذا كان عمري مرتعاً للشيطان؛ فاقبضني إليك).. هذا الدعاء -بحسب الظاهر- دعاء غريب، والبعض قد لا يرتاح له، ولكن الإمام (عليه السلام) ذكره، ومضمونه مقبول جداً.. نعم، الحياة جميلة، ولكن بشرط أن يكون الإنسان في الجادة الصحيحة.. أما عندما يصبح مرتعاً للشيطان، فإن الموت أفضل لبني آدم!.. لأن الشيطان يلعب في الإنسان في كل مجال: في علاقاته العائلية، ومع الناس، ومع نفسه؛ فالعلاقات كلها علاقات إبليسية.. مضمون الدعاء فيه دعاء على النفس، ولكنه دعاء بليغ؛ لأن من سعادة المرء ومن سعادة المؤمن، أن يتوفاه رب العالمين وهو في أفضل حالة.. مع الأسف هناك البعض من كبار السن، ممن يترحم على أيام شبابه!.. بينما يُفترض بالمؤمن أن يكون في حركة تقدمية، وفي حركة تكاملية!..
ثانياً: يقول الإمام علي (عليه السلام): (من تساوى يوماه؛ فهو مغبون)؛ أي هذا الإنسان خاسر؛ فكيف إذا كان الإنسان في عد تنازلي؟!.. ولهذا المؤمن يقول: يا رب، أنت أعلم بحالي!.. -أنت تعلم بالرسم البياني- إذا وصلت إلى الذروة في القرب إليك، خذني إليك، حتى لو كنت في ريعان شبابي.. فالإنسان لا يعشق العمر بما هو عمر، إنما يعشق العمر بمعنى أن هذا العمر مزرعة.. ولهذا الذي يريد أن يبيع مزرعة فاكهة -مثلاً- فإنه يبيعها في الربيع، عندما تكون الأشجار مثمرة، والأغصان متدلية، في هذا الوقت يرغب المشتري في هذه الأرض.. أما بعد أن تصبح أرضاً قاحلة يابسة، فلا أحد يقدم على شرائها!.. ومن هنا المؤمن يقول: يا رب، عندما أصل إلى مرحلة الإثمار الكامل، خذ مني مزرعتي هذه، وحولها إلى حساب الآخرة.
ثالثاً: قال الإمام العسكري (عليه السلام): (جاء رجلٌ إلى الصادق (عليه السلام) فقال: قد سئمت الدنيا فأتمنّى على الله الموت، فقال: تمنّ الحياة لتطيع لا لتعصي.. فلئن تعيش فتطيع؛ خيرٌ لك من أن تموت: فلا تعصي، ولا تطيع).. أيضاً هذه حالة يرثى لها: بعض الناس في تقدم العمر يصل إلى مرحلة يقول: يا رب، خذني إليك، سئمت الحياة.. هذا التعبير لا يليق بالمؤمن!.. هذه الأيام علماؤنا أعمارهم بين التسعين والمائة، هذه أعمار مباركة، رب العالمين بارك في هؤلاء، ومنحهم هذا العمر.. حتى أن بعض المراجع قبيل الموت، كان يفكر في تنقيح مسألة شرعية، يموت وهو يفكر في مسألة شرعية جزئية؛ يا لها من التفاتة، ومن استعداد للورود على رب العالمين!..
فإذن، تمني الموت أمر مرفوض.. ولكن بالنحو الذي علمنا الإمام زين العابدين (عليه السلام)؛ فهو أمر مطلوب!..
عدم التعجب من الأجر الجزيل:
إن أعمالنا في هذه الحياة الدنيا، تصبح لها صورة برزخية.. فالبرزخ مساحة كبيرة، أشبه ما يكون بالجهاز الذي يسمى بـ”بالبروجكتر”: توضع فيه صورة صغيرة، ولكنها تظهر على شاشة عملاقة.. ومن هنا عندما نسمع الثواب الجزيل على عمل بسيط، اعلم أن هذا العمل عندما ينعكس في عالم البرزخ يتسع مداه، فلا غرابة في البين!.. عن الزهراء (عليها السلام) قالت: (دخل عليّ رسول الله (ص) وقد افترشت فراشي للنوم، فقال: يا فاطمة، لا تنامي إلاّ وقد عملت أربعة: ختمت القرآن، وجعلت الأنبياء شفعاءَك، وأرضيت المؤمنين عن نفسك، وحججت واعتمرت.. قال هذا وأخذ في الصلاة، فصبرت حتّى أتمّ صلاته، قلت: يا رسول الله، إنّك أمرت بأربعة لا أقدر عليها في هذا الحال!.. فتبسَّم (ص) وقال: إذا قرأت ﴿قل هو الله أحد﴾ ثلاث مرّات؛ فكأنَّك ختمت القرآن.. وإذا صلّيت عليَّ وعلى الأنبياءِ قبلي؛ كُنّا شفعاءَك يوم القيامة.. وإذا استغفرت للمؤمنين؛ رضوا كلُّهم عنك.. وإذا قلت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر؛ فقد حججت واعتمرت).
إن المؤمن إذا أراد أن يلهج بشيء في شهر رمضان، فليلهج بسورة “التوحيد”؛ لأن قراءة سورة “التوحيد” ثلاث مرات في حكم ختمة، وفي شهر رمضان كل آية في حكم ختمة للقرآن الكريم، فانظروا إلى الحساب التصاعدي المذهل!.. البعض فقط في شهر رمضان يرى العبادة في النوم؛ لأن “نومكم فيه عبادة”!.. ولكن المؤمن ينام بالمقدار اللازم، ولا ينسى أيضاً أن يعمل ما هو خير من تلك العبادة.. فالنوم عبادة؛ ولكن ليست هي العبادة المنحصرة.. والذي يستغرب الأجور الكبيرة على الأعمال البسيطة، عنده خلل في أحد أمرين: إما يشك في قدرة الله عز وجل، أو في كرم الله عز وجل.. فإن كان رب العالمين كريماً وقادراً، والباب باب هبة وعطاء؛ فلمَ الغرابة؟!.. هذه الأيام بعض المتاجر تقدم جوائز بلا مقابل: كأن يشتري الإنسان سلعة بدرهم أو بدينار واحد، فيدخل السحب الكبير، وإذا به يربح الملايين!.. فإذا كنا نحن البشر نعطي هدايا بلا حساب وبلا مقابل، ويكون الأمر منطقياً؛ فكيف برب العالمين، أ ليس له هذا الأمر؟..
لذا، فإن الإنسان كلما سمع ثوابًا بليغاً على أمر، فليتذكر هذه المقولة لأحد العلماء، حيث يقول: القدرة الإلهية -من باب التقريب- في عالم التكوين، كقدرة الإنسان في عالم الخيال على خلق الصور.. مثلاً: عندما يُطلب من الإنسان أن يتصور هذا المنبر قطعة من الذهب، فإنه ينظر إليه لا على أنه منبر مجلل بالسواد، بل على أن هذا قطعة من الذهب!.. فهذا التصور كم كلفه؟!.. القضية: كن!.. فيكون!.. وكذلك بالنسبة إلى عالم التكوين، الأمر شبيه، بل عند الله -عز وجل- الأمر أعظم!..
فإذن، بالنسبة إلى رب العالمين، أن يعطي الإنسان كوخاً في الجنة، أو يعطيه قصراً، أو يعطيه بلدة بمساحة المجموعة الشمسية، أو يعطيه قصوراً بمساحة درب التبانة؛ الأمر واحد.. فالكوخ عند الله -عز وجل- خلقته كخلق قصور ملء السماوات والأراضين ﴿وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾.
وعليه، فإن المؤمن في هذا المجال يستوعب هذا الأمر، ولا يسارع إلى الإنكار.. وبشكل عام هذا القانون قانون منطقي وعقلاني، عكسه أحد الفلاسفة، يقول ابن سينا: (كلما قرع سمعك من العجائب، فذره في بقعة الإمكان؛ حتى يذوذك عنه قاطع البرهان).. أي لا تعجل في الإنكار، ولا في الإثبات.. إذا كان هناك أمر غريب، أو رواية غريبة، أو فضيلة في فضائل أهل البيت (عليهم السلام)، أو في مناقب النبي المصطفى (ص)، لا تقل: عقلي لا يتحمل ذلك!.. القضية تارة يكون فيها تناقض، ومصادمة لأمر مسلم، أما إذا كان الأمر ممكناً -كما قال ابن سينا- فذره في بقعة الإمكان.. العاقل هكذا يتعامل مع الأمور، والرواية المبهمة التي لا يستوعبها يردها إلى أهلها.
إن مسألة عدم التعجب مما يعطى المؤمن في عالم البرزخ والقيامة، أيضاً من الأمور التي ينبغي أن نهتم بها ولا نستهين بها.. والدليل على ذلك سورة القدر، هذه سورة في القرآن، ولا خلاف في ذلك، بل من أعظم سور القرآن الكريم ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾.. البعض يقول: ليلة القدر تساوي ألف شهر، أي أكثر من ثمانين سنة.. ولكن الآية تقول: ﴿خَيْر﴾، القدر المتقين ألف شهر، ومن الممكن أن تكون ليلة القدر للبعض أرقى من ألف شهر؛ لأنه أتقن إحياء تلك الليلة.. فكما أن ليلة تساوي ألف شهر، كذلك زيارة لبيت الله الحرام في خمسة أيام، تساوي الخروج من الذنوب كيوم ولد.. وبالتالي، فإن الإنسان لا يستغرب هذا الأمر، بل عليه أن يسارع إلى اغتنام الفرص، ويحاول أن يملأ يومه ونهاره بما يحرز له الدرجات العليا في عرصات القيامة.
محطات التزود..
– التميز: الإنسان الطموح لا يقنع في أن يكون مؤمناً عادياً، فالقرآن الكريم يقول: ﴿اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾!.. لذا على الإنسان أن يسعى لأن يكون الأرقى في عالم الوجود، كما جاء في هذه الفقرة من دعاء أمير المؤمنين: (وَاجْعَلْني مِنْ أَحْسَنِ عَبيدِكَ نَصيباً عِنْدَكَ، وَأقْرَبِهِمْ مَنْزِلَةً مِنْكَ، وَأَخَصِّهِمْ زُلْفَةً لَدَيْكَ)؛ يا له من طمع وطموح!.. هذا الطمع مبارك!.. وبعبارة أخرى: المؤمن يقول: يا رب، اجعلني خير من على وجه الأرض -طبعاً بعد الإمام المهدي (عج)-.
وبالتالي، فإن من هموم المؤمن الكبرى، أن يذهب من هذه الدنيا وهو متميز في إيمانه.. فلمَ الاقتناع بالأقل الأدنى، وهو مقدم على الأبدية؟.. بعض المؤمنين على ما يبدو يدخل الجنة بحسنة بسيطة ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾؛ ولكنه يكون ضيفاً على أهل الجنة!.. قال الصادق (عليه السلام): (من لم يأت قبر الحسين (عليه السلام) وهو يزعم أنه لنا شيعة حتى يموت؛ فليس هو لنا بشيعة.. وإن كان من أهل الجنة، فهو من ضيفان أهل الجنة).. وفي حديث للنبي الأكرم (ص): (أنا زعيمٌ ببيت في ربض (أي أسفل) الجنة، وبيت في وسط الجنة، وبيت في أعلى الجنة: لمن ترك المراء وإن كان محقاً، ولمن ترك الكذب وإن كان هازلاً، ولمن حسن خُلقه).. فإذن، هنالك تفاوت ودرجات، والطرق إلى الله -عز وجل- بعدد أنفاس الخلائق.. درجات الجنة درجات مذهلة، درجات لا تعد ولا تحصى، بحسب ما للعبد من منزلة عند الله عز وجل.
– الصدقة الجارية: كذلك من الأمور التي يحرص عليها المؤمن في الحياة الدنيا: الصدقات الجارية.. هنالك صدقات جارية: كالمساجد، والمستشفيات، وغير ذلك؛ ولكن هنالك صدقة جارية من عالم الملائكة.. بعض الأوقات الإنسان يعمل عملاً، رب العالمين يرتضي ذلك العمل، فيخلق له ملكًا من ملائكته، هذا الملك يعبد نيابة عنه.. يا لها من جائزة كبرى!.. إنسان نائم في فراشه، أو ربما في قبره، وهنالك من يعمل نيابة عنه؛ هذا توفيق عظيم!.. عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: (كان فيما ناجى به موسى ربه، أن قال: يا رب، ما بلغ من عيادة المريض من الأجر؟.. فقال الله عز وجل: أوكل به ملكاً يعوده في قبره إلى محشره).
– إدخال السرور على القلوب المنكسرة: إن من أفضل القربات إلى الله عز وجل، أن يدخل الإنسان السرور على القلوب المنكسرة: سأل موسى ربه: (يا رب أين أجدك؟.. قال رب العزة: عند المنكسرة قلوبهم).. مثلاً: المريض الذي على فراش المرض، مكسور الفؤاد، عندما يزوره أحدٌ، يدخل عليه سروراً؛ يعلم الله -تعالى- ما يأتيه من روح وريحان في ذلك العالم، وخاصة كلما زاد قرب المريض إلى الله عز وجل.. لذا، فليغتنم الإنسان هذه الفرص!.. إذا رأى عالماً مريضاً، أو مؤمناً تقياً في درجة عالية من المرض؛ هذا الإنسان زيارته ليس كباقي الناس، أن يرفع عنه همّاً وغمّاً، هذا أمر متميز، فكيف إن قدم له مساعدة؟!.. لذا المؤمن يبحث عن ولي من أولياء الله -عز وجل- له قرب متميز، فالإحسان إلى هؤلاء ليس كالإحسان إلى فسقة الناس، حتى المحتاجين منهم.
– إهداء ثواب الأعمال لملك الموت: إن المؤمن وهو في ريعان شبابه، لديه حالة ترقب، فلا يفاجأ بأهوال القيامة والقبر.. نحن غافلون عن ملك الموت، ولكنه يتصفح الوجوه كل يوم خمس مرات، بعدد الفرائض؛ ليرى هل هذا الإنسان هو المرشح للموت أم لا؟!.. فقد روي عن رسول الله (ص) أنه قال: (ما من بيت إلاّ وملك الموت يقف على بابه كلّ يوم خمس مرات، فإذا وجد الإنسان قد نفد أجله وانقطع أكله؛ ألقى عليه الموت فغشيته كرباته، وغمرته غمراته، فمن أهل بيته الناشرة شعرها، والضاربة وجهها، الصارخة بويلها، الباكية بشجوها.. فيقول مَلَك الموت: ويلكم!.. ممّ الجزع؟.. وفيمَ الفزع؟.. والله ما أذهبت لأحد منكم مالاً، ولا قرّبت له أجلاً، ولا أتيته حتى أُمرت، ولا قبضت روحه حتى استُأمرت، وإنّ لي إليكم عودة ثم عودة، حتى لا أُبقي منكم أحداً.. ثم قال رسول الله (ص): والذي نفسي بيده!.. لو يرون مكانه، ويسمعون كلامه، لذهلوا عن ميّتهم، وبكوا على نفوسهم، حتى إذا حُمل الميّت على نعشه، رفرف روحه فوق النعش وهو ينادي: يا أهلي وولدي!.. لا تلعبنّ بكم الدنيا كما لعبت بي، جمعته من حلّه ومن غير حلّه وخلّفته لغيري، والمهنّأ له والتّبعات عليّ، فاحذروا من مِثْل ما نزل).. ولهذا بعض الأبرار من علمائنا، يقوم بحركات لطيفة، حركات مطابقة للقواعد العامة: كالطواف، والزيارة، و..الخ؛ ويهدي ثواب ذلك إلى عزرائيل (عليه السلام).. يقول: يا ملك الموت، ارفق بي، أنا أذكرك في حياتي الدنيا، على أمل أن تذكرني ساعة قبض الروح.. هذه حركة مشكورة، فعزرائيل ملك من ملائكة الله المقربين، يرفق بالمؤمن أيما رفق!..
إن الإمام الذي ورث علم جده المصطفى (ص)، والذي تربى على يده العلماء وبعض أئمة المذاهب، كان يناجي ربه في جوف الليل قائلاً: (اللهم!.. أعني على هول المطلع)!.. لذا، عندما تدخل الجنازة في القبر، يجب أن تنقل بشكل تدريجي، حتى يتهيأ للسؤال.. صحيح النفس الحيوانية ماتت، ولكن النفس الإنسانية باقية؛ هذه الجوهرة التي جاءت للإنسان وهو جنين في بطن أمه في الشهر الرابع -مثلاً- ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ هذه سترجع، وهي التي سترى الأهوال العظيمة!..
– صلاة الفجر: إن هذه الصلاة مظلومة -إن صح التعبير-.. فالأطباء عندما يصفون للمريض مضاداً حيوياً، فإن أول نصيحة للمريض هي الالتزام بالساعات، لأن هذا الدواء لا يؤثر أثره إلا إن التزم بتناوله في اليوم ثلاث أو أربع مرات.. والصلوات كذلك، فقد روي عن النبي الأكرم (ص) أنه قال: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟.. قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا).. فالصلاة بمثابة المعقم، والمضاد الحيوي: حيث إن تأثير صلاة الفجر إلى الزوال، وتأثير صلاة الظهرين إلى المغرب، وتأثير صلاة المغرب إلى منتصف الليل.. بعض الفقهاء يستشكل في ترك صلاة الفجر، ويعتبر أن هذا الأمر فيه وهن، وفيه شبهة الإعراض، وتعمد ترك الصلاة.. فالإنسان المحب للقاء ربه، حتى لو نام قبل الفجر بساعة؛ الحب الباطني يوقظه.. ولهذا العلماء يقولون: الذي لا يستيقظ للفجر، عليه أن: يقرأ آخر سورة الكهف، ويستعمل المنبه، ويخفف العشاء بالليل مثلاً، وينام مبكراً.. ولكن الحل الجامع الجوهري؛ الرغبة والحب الباطني.. فالذي عنده موعد في سفرة من سفرات العمر للزواج مثلاً، وكانت الرحلة فجراً؛ فإن حبه للسفر، ولمن ما بعد السفر، يشغله عن النوم.
– صلاة الليل: كذلك من المحطات التزودية للبرزخ وعرصات القيامة، هذا الأمر الذي كان يلتزم به النبي (ص)، حتى أنه كان ملزمًا بذلك، وكأن الأمر تجاوز مرحلة الاستحباب، ولعل الأمر كان هكذا بالنسبة إلى أهل البيت (عليهم السلام).. عندما يسمع البعض بصلاة الليل، فإنه يقول: هذا دأب الزهاد والعباد، أين نحن من هذا الأمر!.. صلاة الليل أيضاً لها درجات، فهنالك صلاة ليل النبي المصطفى (ص)؛ يا لها من صلاة!.. ﴿عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾.. وهنالك صلاة الإمام علي (عليه السلام) الذي كانت له خلواته في جوف الليل، وفي النهار أيضاً.. قال أبو الدرداء: (فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة، فحرّكته فلم يتحرّك، وزويته فلم ينزو، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، مات والله علي بن أبي طالب.. قال: فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم، فقالت فاطمة (عليها السلام): يا أبا الدرداء!.. ما كان من شأنه ومن قضيته؟.. فأخبرتها الخبر، فقالت: هي والله -يا أبا الدرداء- الغشية التي تأخذه من خشية الله.. ثم أتوه بماء فنضحوه على وجهه، فأفاق…).. في بعض الروايات: أنّه لمّا أُصيب (عليه السلام) في بعض الحروب بسهم في رجله، انتظروا ليقف إلى الصلاة، وأخرجوا السهم من رجله وهو في حال الصلاة، لأنه حينئذ لا يشعر بالألم.
إن الذي يلتزم بصلاة الفجر في أول الوقت، فليستيقظ قبل أذان الفجر بعشر دقائق، أو بخمس دقائق، كي يصلي الشفع والوتر، وإن لم يصلِّ النافلة؛ كي يتشبه بمقيمي الليل!.. في جوف الليل كم من العباد يناجون ربهم: (إلهي!.. تعرض لك في هذا الليل المتعرضون، وقصدك القاصدون، وأمَّل فضلك ومعروفك الطالبون.. ولك في هذا الليل نفحاتٌ وجوائزٌ وعطايا ومواهب، تمنُّ بها على من تشاء من عبادك، وتمنعها من لم تسبق له العناية منك.. وها أنا ذا عُبَيْدك الفقير إليك، المُؤَّمل فضلك ومعروفك.. فإن كنتَ يا مولاي تفضلتَ في هذه الليلة على أحد من خلقك، وعُدتَ عليه بعائدةٍ من عطفك؛ فصلِّ على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين الخيِّرين الفاضلين، وجُد عليّ بطولك ومعروفك يا رب العالمين!.. وصلى الله على محمد خاتم النبيين، وآله الطاهرين، وسلم تسليما، إن الله حميد مجيد.. اللهم!.. إني أدعوك كما أمرتَ، فاستجب لي كما وعدتَ؛ إنك لا تخلف الميعاد).
إن على رأس مقيمي صلاة الليل؛ الإمام المنتظر(عج)، وأعوانه، والصالحين من العباد.. ألا يحب الإنسان أن يتشبه بهؤلاء، بهذه الدقائق الخمس أو العشر؟.. ربع ساعة كافية جدًا، لأن يصلي الإنسان صلاة ليل محترمة.. إذن، الذي يريد أن يكون متميزًا في الدنيا وفي الآخرة، عليه أن يضيف إلى جدول أعماله صلاة الفجر في أول الوقت، ويأخذ قطعة من الليل.. وبالتالي، هذا الإنسان بعمله هذا، اكتسب زاداً مهماً لعالم الآخرة.
إلى طلبة العلم، والذين يرغبون في شيء من التميز، في عالم السير إلى الله عز وجل: يقول العلماء: ما عهدنا في تأريخ المؤمنين إنساناً وصل إلى الكمال العلمي أو العملي، من دون الالتزام بصلاة الليل؛ أي هذا طريق لابد منه.. الذي يريد التميز، عليه أن يلتزم بهذا، ولو بالنحو الذي تم ذكره.. القرآن الكريم لا يصف الجائزة بالنسبة لصلاة الليل، بل يقول: ﴿عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾.. يقال في البلاغة: التنكير في بعض الحالات علامة التفخيم والتعظيم!.. ما قال: المقام المعلوم أو المحمود، وإنما قال: مقاماً محموداً، ورب العالمين أدرى بما يقول!.. (روي أن الإمام الصادق (عليه السلام) كان إذا قام الليل يرفع صوته حتى يسمع أهل الدار، ويقول: “للهم!.. أعني على هول المطلع، ووسع علي ضيق المضجع، وارزقني خير ما قبل الموت وخير ما بعد الموت”)؛ أي هنالك علاقة وطيدة بين قيام الليل وبين الراحة والأنس في عالم القبر، وفي عرصات القيامة.. البعض يصلي صلاة الليل دون أن يشعر به أحد؛ لئلا يعرف الناس أنه يقيم الليل.. ولكن هذه الزوجة التي هي صديقة العمر، أليس لها حق عليه، فكما تهتم هي به، وتقوم على راحته في الدنيا، هو أيضاً ينبغي أن يهتم بها في آخرتها.. امرأة متعبة تعبت طوال اليوم وغلب عليها النوم، ما المانع أن يوقظها برفق، لتصلي صلاة الليل؟!.. أو عن طريق قراءة القرآن بصوت عال، أو ما شابه ذلك.. وقد روي عن النبي المصطفى (ص) أنه قال: (أشراف أمتي: حملة القرآن، وأصحاب الليل)؛ هنيئًا لمن كان أنسه بالليل!..
– الدعاء: إن الإمام (عليه السلام) كان يدعو بهذا الدعاء: (وارزقني خير ما قبل الموت، وخير ما بعد الموت)!.. وعليه، فإنه ينبغي للمؤمن أن يدعو ربه، كي يدخله في دائرة الجذب الإلهي.. فهذه مريم (عليها السلام) في بداية حياتها لم تقم بحركة جهادية، وإن كانت بالأخير تحملت ما تحملت من الأذى عندما حملت بعيسى (عليه السلام)، ولكن ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾.. نحن لم نعهد في التاريخ، أن يكون الأستاذ ذكراً والتلميذة أنثى بهذه العلاقة.. ولكن الله -عز وجل- كفلها زكريا، رغم أنه لم يكن محرماً عليها.. الذين كانوا في بيت المقدس كانوا يتنافسون على كفالتها: ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾، فصار هنالك اقتراع بالنسبة إلى كفالة مريم، وإذا بزكريا (عليه السلام) هذا النبي العظيم يرشح لذلك، حتى أنه ملكه العجب عندما كان يدخل عليها فيرى عندها فاكهة: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.
إن الذي ميز هذه المرأة الجليلة، أن الله -عز وجل- تقبلها وأنبتها نباتاً حسناً.. لذا، المؤمن يسأل الله -عز وجل- أن يتقبله وأن ينبته نباتاً حسناً.. فباب التفضل مفتوح، وجوف الليل وصلاة الليل، من الأمور التي ترشح الإنسان لهذه المقامات العليا.. البعض من الصباح ينتظر الليل، وفي الليل ينسى كل ما رآه في النهار؛ لأن هذا لا يشبع طموحه ولا غليله، بل ينتظر الليل لكي يقف بين يدي الله عز وجل.. كان البعض منهم يُسقى من ذلك الشراب الإلهي الخالص، وكان ينادي ويقول: أين الملوك وأبناء الملوك من هذه اللذة؟!..
لنبحث عن هذه الأمور، وكفانا انشغالاً كدودة القز التي تنسج حول نفسها شرنقة، وإذا بها تموت في شرنقتها.. الكثيرون يذهبون من هذه الدنيا هكذا، كلما تنسج كلما زاد السجن إحكاماً عليها.. يجب أن نخرج من هذه الشرنقة، ومن هذه الدائرة المغلقة.. وبحمد الله -تعالى- في الشريعة الإسلامية هذا الدين الخالد، هذه الرسالة الخاتمة، كم بذل لنا رب العالمين من صور التنعم المعنوي!.. فالحج له عالم، وما يعيشه الإنسان من اللذة المعنوية في يوم عرفة، لا يعيش شبيهاً لها في الأعراس، وغيرها!.. شيء لا يقاس به شيء!.. البعض لو يخير في موسم الحج بما فيه من تعب، وبما فيه مرض، وبين أجمل البقاع، فإنه لا يختار على الحج شيئاً!.. هذا هو الفارق بين اللذائذ المادية والمعنوية: لذة المعنى تصب في الأعماق، وأما لذائذ الدنيا فإنها تتناول الجوارح.. المؤمن يستغل الفرص للبحث عن هذا العالم، وجوف الليل لأولياء الله -عز وجل- فرصة متميزة لذلك.
– نصرة المظلوم: أيضاً من الأمور التي ينبغي أن نراعيها، ومن موجبات الضيق في عالم القبر وفي عالم الوحشة: أن يترك الإنسان نصرة المظلوم.. فالذي يعرفنا معالم هذا السفر، لا التحليل العقلي، ولا التخيل، ولا المنامات، ولا المكاشفات وغيره.. بل لابد من اتباع ما ورد من الكتاب والسنة، وما ورد عن أهل بيت النبوة؛ لأن كل ذلك يصب في اتجاه واحد.. فقد روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: (يُحشر العبد يوم القيامة وما ندا دماً، فيُدفع إليه شبه المحجمة أو فوق ذلك، فيُقال له: هذا سهمك من دم فلان، فيقول: يا ربّ!.. إنك لتعلم أنك قبضتني وما سفكت دماً، فيقول: بلى، سمعتَ من فلان رواية كذا وكذا فرويتها عليه، فنُقلت حتى صارت إلى فلان الجبّار فقتله عليها، وهذا سهمك من دمه).. إنها قضية مرعبة ومخيفة!.. إنه عالم المفاجآت الكبرى في عرصات القيامة.. قال الصادق (عليه السلام): (أُقعدَ رجلٌ من الأخيار في قبره فقيل له: إنّا جالدوك مائة جلدةٍ من عذاب الله، فقال: لا أُطيقها، فلم يزالوا به حتى انتهوا إلى جلدة واحدة، فقالوا: ليس منها بدّ، فقال: فبما تجلدونيها؟.. قالوا: نجلدك لأنّك صلّيت يوماً بغير وضوء، ومررت على ضعيفٍ فلم تنصره، قال: فجلدوه جلدة من عذاب الله -عزّ وجلّ- فامتلأ قبره ناراً).. مع الأسف البعض يهتم بصلاته وبعبادته، ولكن إذا استنصره إنسان، وإذا استغاث به أحد، لا يهتم به، هذا الإنسان له موقف في عالم البرزخ.. فالمؤمن موجود حساس في هذا المجال، إذا رأى ظلامة، يحاول أن يرفع الظلامة عن أخيه المؤمن!..
– الموت الافتراضي: هذه الأيام المرأة تذهب بزينتها إلى المقابر، فيرجع البعض من المقابر وقد ازداد قسوة ووقع في الإثم؛ يا لها من مصيبة!.. الإنسان يتبع الجنازة فيقع في الحرام: حرام النظرة، وغيره، وهو يضحك.. لعل بعض ذوي الميت وهو في تشييع أبيه أو أمه أو قريبه، وليس في وجهه أي علامة من علامات الاعتبار أو الحزن.. ولهذا فليذهب الإنسان إلى المقابر بشكل منفرد، بعنوان: “الاعتبار والتذكر”، وليجلس في زاوية من زوايا تلك المقبرة، ويحاول أن يفترض نفسه ميتاً!.. إذ أن أفضل مكان للموت الافتراضي، هو الذهاب إلى المقابر، وإن وفق لزيارة النجف الأشرف، فليذهب إلى وادي السلام؛ لأن مقبرة وادي السلام تذكر الإنسان بعالم البرزخ.. حيث هنالك قبور جاهزة في السراديب، إذا أدخل الإنسان نفسه في أحد القبور الجاهزة؛ فإنه يصاب بالذعر، رغم أن العملية تمثيلية، ليس فيها موت ولا دفن.. ولهذا علماؤنا السلف كانت لهم قبور في المنازل، كان ينام في القبر، ثم يقول: افترض أنك بعثت من قبرك، ماذا تعمل؟.. يخرج من قبره ويقف للصلاة بين يدي الله عز وجل؛ يا لها من صلاة ليل!.. وهناك من كان يضع على نفسه الأغلال، ويتذكر أغلال القيامة.. إنها حركات جميلة، فالمؤمن يثير نفسه بأي مؤثر؛ كي يعود إلى رشده وإلى صوابه.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.