- ThePlus Audio
شرح المناجاة الشعبانية
بسم الله الرحمن الرحيم
المناجاة الشعبانية
إن ما ورد عن أهل البيت (ع) من الأدعية والمناجاة، لهو من أروع ما قيل من حيث جمالية الألفاظ البليغة والروحانية العالية المؤثرة؛ إذ ليس هنالك في تراث البشرية ما يضاهي أقوال الأئمة (ع): سواء كان في مجال الدعاء المتمثل في الصحيفة السجادية – زبور آل محمد (ع) – أو في مجال التوعية الفكرية والثقافية، الذي برز من خلال كتاب نهج البلاغة. ولا غرو، فهم العدل الثاني للقرآن الكريم، الذين بثوا في هذه الأمة ما يذهل الألباب في الفقه والتفسير، وفي الأخلاق والمعرفة الإلهية، وغير ذلك من فنون المعرفة، ومن هذه المناجاة البليغة، المناجاة المتميزة بأنها مناجاة علي والأئمة من ولده (ع) في شهر شعبان.
شفاعة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)
إن البعض – مع الأسف – يعلق الآمال العريضة على شفاعة أهل البيت (ع)؛ غافلا عن العمل بمنهجهم، واتباع سيرتهم العطرة. والحال بأنهما جناحان يطير بهما الإنسان، وقد ورد في الصلوات الشعبانية ما يشير إلى لزوم الجمع بينهما، حيث يقول الإمام السجاد (ع): (اَللَّهُمَّ فَأَعِنَّا عَلَى اَلاِسْتِنَانِ بِسُنَّتِهِ فِيهِ وَنَيْلِ اَلشَّفَاعَةِ لَدَيْهِ)[١]، والرسول الأكرم (ص) هو صاحب الشفاعة الكبرى، إذ لا شفاعة لأحد من المخلوقين تبلغ شفاعته، وهو الحريص على الأمة، وقد ادخر شفاعته لأصحاب الكبائر من أمته، ومن هنا ورد في تفسير قوله تعالى: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)[٢] بأن الرسول (ص) يشفع شفاعة بليغة. فالذي يريد أن تناله الشفاعة، لابد وأن يقرن ذلك بالعمل والاستنان بسنة النبي وأهل بيته (ع)، فإذ لم يوفق للعروج إلى مدارج الكمال وغلبة الهوى، فعندئذ تناله شفاعة النبي الأكرم بإذن رب العالمين.
من المناسب أن نقف وقفة تأملية، ونبحر في ألفاظ هذه المناجاة البليغة، لنستخرج منها الدرر واللآلئ النفيسة، ولو أنها مكتنفة لبعض العبارات المبهمة، كعبارة (حجب النور) التي حار العلماء في تفسيرها، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله، والميسور لا يسقط بالمعسور:
من آداب الدعاء
(اللهم صل على محمد وآل محمد)، نلاحظ بأن المناجاة تبدأ بالصلاة على النبي وآله، وقد ورد عن أهل البيت (ع) باستحباب الصلاة على النبي قبل الدعاء وبعده؛ فإن الله تعالى أجل من أن يستجيب طرفي الدعاء ويهمل ما بينهما، (اللهم) أي: يا الله، فهنا حذف حرف النداء وعوض عنه حرف الميم في الآخر، ومن هنا لزم الالتفات واستحضار الخطاب مع رب العالمين، إذ لا شك أن حالة الخطاب مع السهو والغفلة، تعد من سوء الأدب بين يدي المخاطَب.
رفع الحجب والموانع
(واسمع دعائي إذا دعوتك)، نلاحظ العطف بين العبارتين بالواو، وكأن الصلاة على النبي هي الحاجة المهمة الأولى، وهنا إشارة إلى أن الدعاء قد يحجب ولا يصل إلى الله تعالى، بسبب بعض المعاصي التي يرتكبها العبد، وتوجب انقطاع الصلة بينه وبين ربه، إلا أن العبد من الممكن إذا ألح في الدعاء، وطلب من الله تعالى أن يتجاوز عن الموانع، ويرفع الحجب عنه، أن يصل إلى مبتغاه وتستجاب دعوته.
المناداة أم المناجاة؟
(واسمع ندائي إذا ناديتك)، أي أن العبد تارة قد يدعو ربه تعالى، وتارة قد يناديه، ومن المعلوم أن في النداء شيئا من الإصرار، وقد ورد في الأخبار: (أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ سَأَلَ رَبَّهُ فَقَالَ يَا رَبِّ أَ قَرِيبٌ أَنْتَ مِنِّي فَأُنَاجِيَكَ أَمْ بَعِيدٌ فَأُنَادِيَكَ فَأَوْحَى اَللَّهُ إِلَيْهِ يَا مُوسَى أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي)[٣].
لا ملجأ من الله إلا إليه
(وأقبل علي إذا ناجيتك، فقد هربت إليك)، إن الذي يخاف جهة معينة ويهرب منها، يلجأ إلى جهة أخرى مخالفة، تشكل له مصدر أمن واطمئنان. إلا أننا نلاحظ اختلاف الأمر في التعامل مع رب العالمين، إذ تتحد الجهتان. إن الإنسان إذا اشتد مقته لنفسه، فهرب إلى الله تعالى، إذا علم الله تعالى صدقه في هذا الهروب؛ فإنه سيأخذ بيده، ويمده بالعناية، وقد يدخله حصنه الحصينة: بأن يبعد عن شرور الشياطين، ولكن ذلك يشترط عدم الاستهزاء بالمولى عز وجل، لأن الله تعالى قد يعفو عن العبد المرة والمرتين، ولا يبادر بالنقمة، ولكنه من الممكن أن يكشف عنه الغطاء في مرحلة من المراحل، وهو ما يعبر عنه بالإيكال إلى النفس.
ذكر الحاجة
(وتعلم ما في نفسي، وتخبر حاجتي، وتعرف ضميري، ولا يخفى عليك أمر منقلبي ومثواي)، من المناسب أن نشير إلى قضية خلافية قد وقع البحث فيها وهي: أنه هل من المناسب للعبد إذا جاءته حالة الرقة، أن يعدد مطالبه بين يدي الله تعالى، أو أن يجمل بكلمة واحدة ويقول: علمك بحالي يغني عن سؤالي، وبصورة عامة هي قضية نسبية تتبع حالة الإنسان، فتارة العبد يعيش حالة الافتقار والمسكنة؛ فيعدد حوائجه، وتارة يعيش حالة المحبة والأنس، فلا يحب أن يكثر الطلب، وإنما يوكل أمره إلى الله تعالى، حيث يصنع به ما يشاء.
تسبيب الأسباب
(إلهي، إن حرمتني، فمن ذا الذي يرزقني، وإن خذلتني، فمن ذا الذي ينصرني)، إن الله تعالى هو مصدر الخير في الوجود، إلا أنه أبى أن يجري الأمور إلا بأسبابها، كما في قوله تعالى: (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا)[٤]، فهو خالق البحر، وهو الذي يسوق السحاب إلى الأرض الميتة، ولكنه شاء أن يجعل نزول المطر موكولاً في يد الملك، وكان بإمكانه تعالى وهو الذي نفخ الروح في بني آدم، أن يتولى قبضها أيضاً، إلا أنه أوكل الأمر إلى ملك الموت، ومن هنا نرى بأن الله تعالى تارة يصف نفسه بأنه هو المتوفي، فيقول تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا)[٥]، وفي آية أخرى ينسب الفعل لملك الموت، حيث يقول تعالى: (قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ)[٦]، وحدوث الشيء على يد الوكيل، يصح نسبته للوكيل أو للموكل، بلا تناقض في ذلك، ومن مصاديق الملائكة الذين يعملون بأمر الله تعالى: الطبيب الذي نلتمس منه العلاج، وكذلك صاحب المال، الذي لا يعدو عن كونه مستخلفا على مال الله تعالى، يقول الله تعالى: (وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ)[٧].[٨]
استثمار فرصة الحديث مع رب الأرباب
(إلهي، كأني بنفسي واقفة بين يديك، وقد أظلها حسن توكلي عليك)، وهنا الإمام (ع) يذكِّر نفسه بالموقف الرهيب في عرصات القيامة، وكيف أنه في ذلك اليوم، لا يسمح بالحديث مع الله تعالى إلا بإذنه، فتراه يصيح ويستغيث، ويسمع زفير جهنم، وعواء أهل النار، حيث يعوون كالكلاب الضارية، وهو لا يقدر لنفسه نفعاً ولا ضرا، بل قد يسترحم الله تعالى، فإذا بالنداء الزاجر المحقر: (قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ)[٩]، فينبغي للمؤمن، أن يذكِّر نفسه بهذا الموقف وهو في الدنيا، ويستغل لسانه الطليق بالدعاء والحديث مع رب العالمين قبل أن تفوته الفرصة.
ستر الله عز وجل
(إلهي، لم يزل برك علي أيام حياتي، فلا تقطع برك عني في مماتي)، أي: يا رب..! عندما كنت في الدنيا أعصيك، لم تقطع إحسانك عني، فكيف وقد صرت بين يديك، وقد انقطع عصياني إياك.
(إلهي، قد سترت علي ذنوباً في الدنيا، وأنا أحوج إلى سترها علي منك في الأخرى)، فكم من الذنوب التي يرتكبها العبد في الخلوات، ولو شاء الله تعالى لجعل علامة – كالسواد مثلاً – لكل معصية، وتختلف شدة هذا السواد بحسب شدة المعصية، ولكن الله تعالى ستار على عباده، قد أظهر الجميل وستر القبيح، ويتمنى هنا أمير المؤمنين (ع) أن الله تعالى، يديم هذا الستر عليه حتى في الآخرة، حيث هي ساعة الفضيحة على رؤوس الأشهاد.
وإن أدخلتني النار أعلمت أهلها أني أحبك
(وإن أدخلتني النار؛ أعلمت أهلها أني أحبك)، وهنا في حركة عاطفية جميلة من علي (ع) يفاوض فيها رب العالمين فيقول: أنه إذا وقعت الواقعة، حيث رفعت الموازين، وحكمت المحكمة بدخولي النار لجرمي وجريرتي، وعصياني لك في الدنيا، فماذا تفعل بهذا القلب الذي يحمل حبك…! ومن المعلوم أن الأم في حال تنفيذ القصاص على ولدها العاق، تكون أول الشافعات له، ولكن هل سنتذكر هذه العبارة في عرصات القيامة؟!
دوام الاتصال بالله تعالى
(وأسألك أن تصلي على محمد وآل محمد، وأن تجعلني ممن يديم ذكرك، ولا ينقض عهدك، ولا يغفل عن شكرك، ولا يستخف بأمرك)، وهنا يلخص علي (ع) طريق العرفان والسير إلى الله بجمل قصيرة، مفادها: أن طريق الوصول إلى الله، هو دوام الذكر، ومن المعلوم أن ذلك من أشق الأمور على النفس، إذ أن ذكر الله تعالى في مواطن الطاعة، أو في الفرائض، وفي جوف الليل أمر هين وإنما المطلوب هو ذكر الله تعالى في كل الأحوال، وخاصة في ساعة اشتداد الشهوة والغضب، عندما يهم بالمعصية، وإلا فما قيمة الذكر الذي يجري لقلقة على اللسان الذي طالما حركناه في مضغ الطعام ما لم يحرك القلب والجوانح؟
غاية المنى عند أمير المؤمنين (عليه السلام)
(إلهي، وألحقني بنور عزك الأبهج، فأكون لك عارفا، وعن سواك منحرفا، ومنك خائفاً مراقبا يا ذا الجلال والإكرام)، فهذه غاية المنى، إن منى فاطمة (س) ومنى علي (ع)، هو معرفة الرب ولقائه تعالى، فأولاً عليه أن ينحرف عما سوى الله تعالى، ثم يرجع مرة أخرى إلى من أمره الله بصلتهم، كما هو معلوم في اصطلاح العرفاء: السير من الخلق إلى الحق، ثم السير من الحق إلى الخلق.
هاشتاغ
خلاصة المحاضرة
- لقد ورد عن أهل البيت (ع) استحباب الصلاة على النبي قبل الدعاء وبعده؛ فإن الله تعالى أجل من أن يستجيب طرفي الدعاء ويهمل ما بينهما.