- ThePlus Audio
الخشوع في الصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم
دور الصلاة في إخراج الإنسان من الغفلة والنسيان
إن الإنسان بطبعه يميل إلى الغفلة والنسيان، والتحرر من جميع القيود التي تخالف مزاجه وطبعه. وقد أشار القرآن الكريم لهذه الحالة بوصف صريح، إذ يقول تعالى: (إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)[١]. وهذ الطبيعة البشرية تشد الإنسان إلى التثاقل إلى الأرض والركون والدعة؛ بينما يريد الله تعالى لعبده السمو والتعالي في مدارج الكمال. ومن هنا خصه بالتزامات شرعية تعبدية، على رأسها الصلاة: الصلاة التي هي قربان كل مؤمن ومعراجه إلى ربه، حيث قال تعالى في كتابه عنها: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا)[٢].
سيرة النبي وآله (صلوات الله عليهم) في الصلاة
لا شك في أن الصلاة مشروع إلهي ثابت في جميع رسالات الأنبياء، إلا أن لها خصوصية ملفتة في حياة أئمة الهدى (ع): فهذا النبي المصطفى (ص) كان إذا قام إلى الصلاة كأنّه ثوبٌ ملقى[٣]، وهذا علي (ع) يعالج من جراحاته، وهو واقف بين يدي ربه فلا يشعر بشيء منها، وهذه فاطمة (س) نورها يزهر لأهل السماء، وهي قائمة في محرابها تناجي الله تعالى. ولقد كان الحسن (ع) إذا توضأ تغير لونه، وارتعدت فرائصه، أو السجاد الذي كان أنسه بالسجود الطويل، فإذا قام إلى الصلاة تغيّر لونه، وإذا سجد لم يرفع رأسه حتى يرفض عرقاً[٤]. هذا وروِي: (أَنَّ مَوْلاَنَا اَلصَّادِقَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ كَانَ يَتْلُو اَلْقُرْآنَ فِي صَلاَتِهِ فَغُشِيَ عَلَيْهِ فَلَمَّا أَفَاقَ سُئِلَ مَا اَلَّذِي أَوْجَبَ مَا اِنْتَهَتْ حَالُهُ إِلَيْهِ فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ مَا زِلْتُ أُكَرِّرُ آيَاتِ اَلْقُرْآنِ حَتَّى بَلَغْتُ إِلَى حَالٍ كَأَنَّنِي سَمِعْتُهَا مُشَافَهَةً مِمَّنْ أَنْزَلَهَا)[٥]. نعم، هكذا كانوا (ع) قمة في الخشوع والاتصال بالحق تعالى، فأين نحن وهذه الأنوار المتلألئة؟ ولكن إذا كان الوصول إلى هذه القمم مستحيلاً؛ فما المانع من الارتقاء والخروج من الوديان السحيقة التي نحن فيها؟
هل يستطيع الإنسان أن يصل بالصلاة إلى هذه الدرجات؟
إن البعض قد يستغرب هذه الحالات الروحية لأولياء الله، وقد يصل الأمر بهم إلى حد الإنكار؛ والحال أنه حتى أهل الدنيا لهم ما لهم من حالات الذهول والاستغراق في معشوقاتهم الفانية. ثم إن الله تعالى شرّف الإنسان بأن نفخ فيه من روحه، وبذلك استحق سجود الملائكة له. وهو مع ذلك قد حظي بشرف القرب الانتسابي؛ إذ أن كلَّ منتسب إلى الله تعالى مكتسبٌ للخلود وللتقديس. فإذا تفاعلت هذه الروح واستغرقت بعوالم القرب، فإن الإنسان يصير في حالة ذهول شديد؛ حيث يشعر وكأن الروح قد فارقت هذا الجسد.
موانع الصلاة الخاشعة
إن الكثيرين قد يرغبون في بلوغ تلك المراتب العليا، فيجدون في السعي، ويرهقون بدنهم في العبادة وهو أمر حسن؛ إلا أن السر في الوصول لهذه الدرجة من الانقطاع؛ هو العمل على القلب. وسنذكر فيما سيأتي بعض من موانع الصلاة الخاشعة؛ عسى أن يصل المؤمن برفع هذه الموانع إللامطلوبه من الانقطاع والخشوع. وأما أول هذه الموانع:
ممارسة الفحشاء والمنكر: إذ لا شك في أن كل حركة في الحياة لها ظاهر وباطن، فكم من الجميل أن يتطابق ظاهر الإنسان وباطنه؛ بأن لا يكون ظاهره إنسان ملتزم يقيم صلواته في المسجد جماعة؛ وهو يعمل ما يعمل في السر من الأمور القبيحة. ولا ريب في أن هذا الإنسان يسلب الخشوع في الصلاة. بل الأجمل من ذلك؛ أن يكون الباطن خيرا من الظاهر.فقد ورد في الحديث القدسي: (يَا دَاوُدُ نُحْ عَلَى خَطِيئَتِكَ كَالْمَرْأَةِ اَلثَّكْلَى عَلَى وَلَدِهَا.. كَمْ رَكْعَةٍ طَوِيلَةٍ فِيهَا بُكَاءٌ بِخَشْيَةٍ قَدْ صَلاَّهَا صَاحِبُهَا لاَ تُسَاوِي عِنْدِي فَتِيلاً حِينَ [حَيْثُ] نَظَرْتُ فِي قَلْبِهِ فَوَجَدْتُهُ إِنْ سَلَّمَ مِنَ اَلصَّلاَةِ وَبَرَزَتْ لَهُ اِمْرَأَةٌ وَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا أَجَابَهَا وَإِنْ عَامَلَهُ مُؤْمِنٌ خَاتَلَهُ [خَانَهُ])[٦].
عقوق الوالدين: فعن الإمام الصادق (ع) أنه قال: (مَنْ نَظَرَ إِلَى أَبَوَيْهِ نَظَرَ مَاقِتٍ لَهُمَا وَ هُمَا ظَالِمَانِ لَهُ لَمْ يَقْبَلِ اَللَّهُ لَهُ صَلاَةً)[٧]. فكيف إذا كانا مظلومين؟!
الغيبة: فقد روي عن النبي (ص) أنه قال: (مَنِ اِغْتَابَ مُسْلِماً أَوْ مُسْلِمَةً لَمْ يَقْبَلِ اَللَّهُ صَلاَتَهُ وَ لاَ صِيَامَهُ أَرْبَعِينَ يَوْماً وَ لَيْلَةً إِلاَّ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ صَاحِبُهُ)[٨].
شرب الخمر: فقد قال الإمام الصادق (ع): (لاَ تُقْبَلُ صَلاَةُ شَارِبِ اَلْمُسْكِرِ أَرْبَعِينَ يَوْماً إِلاَّ أَنْ يَتُوبَ)[٩]
متابعة الفكر والخيال أثناء الصلاة: إن القلب المشغول بأمور الدنيا ومفاتنها، لا شك في أنه سيكون غير صالح لاستقبال إشارات عالم الغيب، خلافاً للقلب الصافي المروض الذي لا يكون مشغولا إلا بمولاه جل وعلا. غير أن المشكلة تكمن في كيفية ضبط الأفكار الواردة التي قد تأتي دون إرادة الإنسان؛ إذ كيف له أن يسيطر على عالم الوهم والفكر؟ فلو كان الأمر في عالم الحس، لاستطاع أن يستخدم الأدوات الرادعة للضبط، ولكن الأمر خارجٌ عن الإرادة. وبلا شك أن من أصعب الأمور، أن يصل الإنسان إلى هذه الدرجة؛ أي لا يفكر إلا بما يريد، وفي الوقت الذي يريد. فهذه من درجات التكامل التي قلما يصل إليها الإنسان. وقد روي عن النبي (ص) أنه قال لأبي ذر: (يَا أَبَا ذَرٍّ رَكْعَتَانِ مُقْتَصَدَتَانِ فِي تَفَكُّرٍ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ وَ اَلْقَلْبُ سَاهٍ)[١٠].
العوامل التي تساعدك على تحقيق الصلاة الخاشعة
الصلاة صلاة مودع: إذ لا شك بأن هذه الحالة تستلزم الشعور بالخشوع، وقد ورد نص في الروايات يحث على ذلك. فقد روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: (إِذَا صَلَّيْتَ صَلاَةً فَرِيضَةً فَصَلِّهَا لِوَقْتِهَا صَلاَةَ مُوَدِّعٍ يَخَافُ أَنْ لاَ يَعُودَ إِلَيْهَا)[١١]
الإقبال في الصلاة: فقد روي عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (إِنَّمَا لِلْعَبْدِ مِنْ صَلاَتِهِ مَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ مِنْهَا بِقَلْبِهِ)[١٢].
الاستعداد المسبق للصلاة: إن الذي يريد أن يدخل في بحر الصلاة الخاشعة، ويحلق في جوار المولى جل وعلا؛ عليه أن يتخلى عن كل الشواغل، ويتحضر فكرياً وقلبياً للصلاة. أما إذا كان المؤذن ينادي: (حي على الصلاة! حي على الصلاة!)، وهو مشغول لا يبالي بأمور الدنيا، هذا إن لم يكن منشغلاً بحرام؛ فسوف يصدق عليه الرفض العملي لبساط القرب الإلهي. وقد ورد عن علي (ع) أنه قال: عن معنى (قد قامت الصلاة) في الإقامة : (وَمَعْنَى قَدْ قَامَتِ اَلصَّلاَةُ فِي اَلْإِقَامَةِ أَيْ حَانَ وَقْتُ اَلزِّيَارَةِ وَاَلْمُنَاجَاةِ وَقَضَاءِ اَلْحَوَائِجِ وَدَرْكِ اَلْمُنَى وَاَلْوُصُولِ إِلَى اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَى كَرَامَتِهِ وَغُفْرَانِهِ وَعَفْوِهِ وَرِضْوَانِهِ)[١٣].
الالتزام بصلاة الجماعة: فإن لها التأثير الكبير في الخشوع في الصلاة، أضف إلى أن الرحمة الإلهية تعم الجميع: تقيهم وعاصيهم، فإنه أجلّ من أن يكرم البعض ويهمل البعض الآخر. وهنالك تشديد في الروايات على من يترك صلاة الجماعة، فقد روي عن الرسول الأكرم (ص) أنه قال: (لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لاَ يُصَلِّي فِي اَلْمَسْجِدِ مَعَ اَلْمُسْلِمِينَ إِلاَّ مِنْ عِلَّةٍ » وَلاَ غِيبَةَ إِلاَّ لِمَنْ صَلَّى فِي بَيْتِهِ وَمَنْ رَغِبَ عَنْ جَمَاعَةِ اَلْمُسْلِمِينَ وَجَبَ عَلَى اَلْمُسْلِمِينَ غِيبَتُهُ وَسَقَطَتْ بَيْنَهُمْ عَدَالَتُهُ وَوَجَبَ هِجْرَانُهُ وَإِذَا رُفِعَ إِلَى إِمَامِ اَلْمُسْلِمِينَ أَنْذَرَهُ وَحَذَّرَهُ فَإِنْ حَضَرَ جَمَاعَةَ اَلْمُسْلِمِينَ وَإِلاَّ أَحْرَقَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ وَمَنْ لَزِمَ جَمَاعَتَهُمْ حَرُمَتْ عَلَيْهِمْ غِيبَتُهُ وَثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ بَيْنَهُمْ)[١٤].
تشديد أمير المؤمنين (عليه السلام) على من تخلف عن حضور الجماعة
ومن قربت داره من المسجد، لزمه من حضور الجماعة ما لا يلزم من بعُد منه. وقال الإمام الصادق (ع): (إِنَّ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) بَلَغَهُ أَنَّ قَوْماً لاَ يَحْضُرُونَ اَلصَّلاَةَ فِي اَلْمَسْجِدِ، فَخَطَبَ فَقَالَ: إِنَّ قَوْماً لاَ يَحْضُرُونَ اَلصَّلاَةَ مَعَنَا فِي مَسَاجِدِنَا، فَلاَ يُؤَاكِلُونَّا، وَلاَ يُشَارِبُونَّا، وَلاَ يُشَاوِرُونَّا، وَلاَ يُنَاكِحُونَّا، وَلاَ يَأْخُذُوا مِنْ فَيْئِنَا شَيْئاً، أَوْ يَحْضُرُوا مَعَنَا صَلاَتَنَا جَمَاعَةً، وَإِنِّي لَأَوْشَكَ أَنْ آمُرَ لَهُمْ بِنَارٍ تُشْعَلُ فِي دُورِهِمْ فَأُحْرِقَهَا عَلَيْهِمْ أَوْ يَنْتَهُونَ. قَالَ: فَامْتَنَعَ اَلْمُسْلِمُونَ عَنْ مُؤَاكَلَتِهِمْ وَمُشَارَبَتِهِمْ وَمُنَاكَحَتِهِمْ حَتَّى حَضَرُوا اَلْجَمَاعَةَ مَعَ اَلْمُسْلِمِينَ)[١٥].
دور صلاة الليل في الخشوع في الصلاة وثوابها العظیم
ومن العوامل التي تساعد على الخشوع في الصلاة المواظبة على صلاة الليل: ولا يخفى ما لصلاة الليل من عظيم الثواب، وهنيئاً لمن تأسى بالرسول المصطفى (ص) وجمع بين صلاة الجماعة وصلاة الليل. فقد أمر الله عز وجل نبيه بإقامتها فقال: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا)[١٦]. ونلاحظ بأن الله تعالى أشار إلى المقام المحمود بنكرة، ولم يبين ماهية هذا المقام. وفي آية أخرى يذكر جزاء أصحاب الليل بنفس الياق المبهم فيقول تعالى: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)[١٧]. و(سُئِلَ عَلِيُّ بْنُ اَلْحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ مَا بَالُ اَلْمُتَهَجِّدِينَ بِاللَّيْلِ مِنْ أَحْسَنِ اَلنَّاسِ وَجْهاً قَالَ لِأَنَّهُمْ خَلَوْا بِاللَّهِ فَكَسَاهُمُ اَللَّهُ مِنْ نُورِهِ)[١٨]. وقد بين أمير المؤمنين (ع) سبب حرمان البعض من هذه النافلة العظيمة فقال في جواب رجل سأله عن ذلك: (أَنْتَ رَجُلٌ قَدْ قَيَّدَتْكَ ذُنُوبُكَ)[١٩]
[٢] سورة النساء: ١٠٣.
[٣] بحار الأنوار ج٨١ ص٢٤٨.
[٤] الکافي ج٣ ص٣٠٠.
[٥] بحار الأنوار ج٤٧ ص٥٨.
[٦] بحار الأنوار ج١٤ ص٤٢.
[٧] وسائل الشیعة ج٢١ ص٥٠١.
[٨] بحار الأنوار ج٧٢ ص٢٥٨.
[٩] بحار الأنوار ج٦٣ ص٤٨٨.
[١٠] وسائل الشیعة ج٤ ص٧٤.
[١١] وسائل الشیعة ج٥ ص٤٧٤.
[١٢] الخصال ج٢ ص٦١٠.
[١٣] بحار الأنوار ج٨١ ص١٣١.
[١٤] تهذيب الأحكام ج٦ ص٢٤١.
[١٥] الأمالي (للطوسي) ج١ ص٦٩٦.
[١٦] سورة الإسراء: ٧٩.
[١٧] سورة السجدة: ١٦-١٧.
[١٨] علل الشرائع ج٢ ص٣٦٥
[١٩] الکافي ج٣ ص٤٥٠.
هاشتاغ
خلاصة المحاضرة
- إن الخشوع في الصلاة هي من الأمور التي ينبغي أن تحتل مساحة كبيرة في حياة المؤمنين الذين يرغبون في نيل الدرجات العظيمة والقرب الإلهي. وهناك أمور تساعد على الخشوع منها: أن يعتبر صلاته تلك آخر صلاة له وأن يقبل فيها وأن يستعد لها قبل وقتها وأن يقيمها في جماعة ويستعين بالنوافل عليها.