- ThePlus Audio
التذبذب المعنوي وحالات الإقبال والإدبار
بسم الله الرحمن الرحيم
التذبذب المعنوي في العلاقة مع الله تعالى
من الأمور التي يشتكي منها المؤمنون كثيرا هي حالة التذبذب المعنوي التي يعانون منها في علاقتهم مع رب العالمين. فقد يكثف المؤمن جهوده ومساعيه في موسم معين كشهر رمضان وكأن المطلوب منه التعبد في هذا الشهر فقط؛ والحال أن المؤمن له علاقة بربه وطيدة في جميع الشهور وفي السراء والضراء وفي كل الأماكن لا فرق فيها بين بيت من بيوت الرحمن وبين منزل عادي في منطقة خاملة..!
إن هذه الحالات من الإقبال في فترة معينة تكون حجة يوم القيامة على كل من يختلق الأعذار لتبرير تقصيره في حق الله تعالى. ومن أراد شيئا وسعى له سعيه لحصل عليه مهما كانت الظروف التي تواجهه ظروفا قاسية ومليئة بالمتاعب. ولذلك قد بالغ الرب في عتاب من يعبدون الله عز وجل لمصلحة معينة فإذا لم يحصلوا عليها سرعان ما ينقلبون على أعقابهم وهو قوله سبحانه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)[١].
من أسباب التذبذب المعنوي والإيمان المقطعي
ولهذا التذبذب أسباب مختلفة نشير إلى بعضها: منها: نقصان الوعي والثقافة؛ إذ أن عالم القرب الإلهي لا يمكن اختصاره في قطرات يذرفها المؤمن من خشية الله عز وجل والتي سرعان ما تنتهي وتزول؛ وإنما هو بصيرة ومعرفة بالله عز وجل تدفعه إلى السير الحثيث من دون توقف وفتور. ولذلك ينبغي للمؤمن أن يدرك بعض المفاهيم الإسلامية المهمة التي من شأنها توثيق علاقة المؤمن بخالقه، منها:
الإيمان بخالقية الله عز وجل والتأمل في كيفية خلقه بعد أن لم يكن شيئا مذكورا، ومن نطفة قذرة إلى إنسان في أحسن تقويم. وكذلك الإيمان بربوبيته تعالى وأنه الرب الذي تولى رعايته منذ أن كان جنينا في بطن أمه ومنذ أن كان ضعيفا عاجزا ثم جعل له أدوات يخدمتها في سبيل الوصول إلى العلم والمعرفة؛ من سمع وبصر وقلب وما شابه ذلك.
وكذلك الإيمان برازقية الله تعالى وأنه مسبب الأسباب ومدبر الأمور الذي ضمن لجميع الخلق ما يحتاجون من الرزق والكلأ. وقد أشار سبحانه إلى مسألة الرازقية في الاستفهامات الإلهية التي تناولتها سورة الواقعة وهي قوله تعالى: (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ)[٢] وقوله تعالى: (أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ)[٣] وقوله عز من قائل: (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ)[٤].
ومن أسباب التذبذب غلبة الهوى؛ فإنه يلزم لتمامية الأثر: وجود المقتضي وهو ما يعبر عنه هنا بالعزم على الاستمرار في العبادة، وانتفاء المانع: المتمثل بغلبة الهوى والتثاقل إلى الأرض. ومن الغريب أن يكون للإنسان عزم راسخ في أمور الدنيا التافهة والتي يتحدى من أجلها كل الصعوبات ويتخطى كل ما يعترض طريقه؛ إلا أنه يتخذال ويتثاقل عما يعرج به إلى ملكوت السماوات والأرض. ولذلك ورد عن أهل البيت (ع) قولهم: (وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ زَادَ اَلرَّاحِلِ إِلَيْكَ عَزْمُ إِرَادَةٍ يَخْتَارُكَ بِهَا)[٥]. وهذا تحفيز وحث على بذل الجهد وتقوية الهمة ومضاعفة السعي في الطريق إلى الله عز وجل وقد قال تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)[٦].
ومن الأسباب؛ غلبة البيئة والمحيط. إذ لا شك أن للمحيط الذي يترعرع فيه الإنسان الأثر الكبير على سلامة روحه وارتباطه بعالم الغيب. فقد يعذر المرء إذا كان في بيئة أهل الضلال ثم يجبر على التعامل معهم لأسباب مختلفة. وتارة يهذب هو بنفسه إلى بلاد الكفر والضلال وبرفقة أهل الفسوق والعصيان وهو من مصاديق التعرب بعد الهجرة. وفي هذه الحالة؛ أما أن يبحر عكس التيار ويقاوم حتى الوصول إلى أعلى عليين، وإما أن يضعف ويتوانى فيرد إلى أسفل سافلين. وفي المقابل نرى أن الأجواء الإيمانية لها تأثير كبير على إقبال المرء في العبادة. ولذلك نلاحظ في سيرة الأئمة (ع) أنهم كانوا يأمرون بأن تسدل الستر لحضور النساء في مجالس العزاء ومجالس ذكر أهل البيت (ع) لحث الرجال على التأثر والبكاء.
من موجبات ثبات الإيمان والإقبال على الله
وكما ذكرنا العوامل التي تؤثر على الإقبال على الله عز وجل وتزعزع الإيمان وتجعل المؤمن في حالة من التذبذب الروحي؛ فهناك عوامل تؤثر على ثبات الإيمان والاستقرار الروحي والإقبال على العبادة، منها:
استشعار لذة العبادة: فاللذائذ المعنوية لا تقاس بأي لذة في هذا الوجود. ومن هنا؛ فإن أهل الجنة يوم القيامة ينشغلون بالنظر إلى وجه الله تعالى عن الحور والقصور. ولقد كان بعض علمائنا الأبرار في جوف الليل، عندما تنكشف لهم إحدى الحقائق الملكوتية يصيحون: (أين الملوك وأبناء الملوك من هذه اللذة). وقد ورد في حديث قدسي: (يَا عِبَادِيَ اَلصِّدِّيقِينَ تَنَعَّمُوا بِعِبَادَتِي فِي اَلدُّنْيَا فَإِنَّكُمْ تَتَنَعَّمُونَ بِهَا فِي اَلْآخِرَةِ)[٧].
الخوف من الخذلان الإلهي: فالذي يحضر المائدة الإلهية ثم يقابل هذه النعمة بالكفران؛ فلا يأمن على نفسه العذاب الذي هدد الله به حواري عيسى (ع)، حيث قال تعالى: (قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ)[٨]فالذي تنزل عليه هذه المائدة في ليلة القدر مثلاً ، ثم في نهاره يبادر بالمعصية ، لا شك في أنه سيكون عرضة للعقوبة الشديدة من قبيل الإدبار وقسوة القلب.
المبادرة إلى التوبة النصوح: فالذي يستيقظ من غفلته ويبصر طريقه، فيرى نفسه في مزبلة منتنة؛ فإنه من دون شك سيبادر إلى الخروج مما هو فيه. ومن المناسب ذكر قصة الصحابي الذي تاب توبة نصوحا في زمن النبي (ص).
الصحابي أبولبابة وقصة توبته على يد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)
تقول الرواية: (إن بني قريظة لما حوصروا بعثوا إلى رسول الله صلّى اللّه عليه وآله أن ابعث إلينا أبا لبابة عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف وكانوا حلفاء الأوس نستشيره في أمورنا فأرسله صلّى اللّه عليه وآله إليهم فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه الصبيان والنساء يبكون في وجهه فَرَقَّ لهم فقالوا يا با لبابة أ ترى أن ننزل على حكم محمد قال نعم وأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح قال أبو لبابة فو الله ما زالت قدماي حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله صلّى اللّه عليه وآله حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده قال لا أبرح مكاني حتى يتوب الله علي مما صنعت وعاهد الله لا يطأ بني قريظة أبدا ولا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا فلما بلغ رسول الله صلّى اللّه عليه وآله خبره وأبطأ عليه
قال أما إنه لو جاءني لاستغفرت له فأما إذا فعل ما فعل ما أنا بالذي أطلقه عن مكانه حتى يتوب الله عليه ثم إن الله أنزل توبة أبي لبابة على رسول الله صلّى اللّه عليه وآله وهو في بيت أم سلمة قالت أم سلمة فسمعت رسول الله صلّى اللّه عليه وآله يضحك فقلت مم تضحك يا رسول الله أضحك الله سنك قال تيب على أبي لبابة فقلت ألا أبشره بذلك يا رسول الله قال بلى إن شئت قال فقامت على باب حجرتها وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب فقالت يا با لبابة أبشر فقد تاب الله عليك قال فثار الناس عليه ليطلقوه قال لا والله حتى يكون رسول الله صلّى اللّه عليه وآله هو الذي يطلقني بيده فلما مر عليه رسول الله صلّى اللّه عليه وآله خارجا إلى الصبح أطلقه[٩].
خلاصة المحاضرة
- من موجبات ثبات الإيمان والإقبال على الله هو استشعار لذة العبادة؛ إذ أن اللذائذ المعنوية لا تقاس بأية لذة في هذا الوجود. وكذلك الخوف من الخذلان الإلهي؛ فهو مما يشجع المؤمن على الاستمرار في العبادة، وإذا تعرض لمعصية الله عز وجل ينبغي له أن يبادر إلى توبة نصوح.