Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

إن هذا اليوم يناسب فيه، أن نذكر إمامنا وسيدنا مولانا أبا جعفر محمد بن علي الجواد (ص).. وإن من المناسب أن نخرج من مناسبة ذكر كل إمام -ولادةً أو استشهاداً- بدرس عملي، وهو أن نعاهد ربنا أن نأخذ من كل إمام الصفة التي برزت فيه.. ولا خلاف في أن الأئمة (ع) لهم جميعاً صفات مشتركة، ولكن لكل إمام ظرفه الذي جعله يبرز بصفة معينة.. فاشتهر الإمام السجاد (ع) بزين العابدين، والحسين (ع) بالثورة والنهوض في وجه الظالم، وتميز الحسن (ع) بالحلم، وذاع صيت الباقرين (ع) بالعلم.. وهكذا، كل إمام من أئمتنا (ع) برزت فيه صفة أو أكثر، بمناسبة الظرف الذي كان يعيشه ذلك الإمام.

ثبات خط الإمامة في عهد الجواد (ع):

إن من أهم المحطات الملفتة في حياة الإمام الجواد (ع): أنه أول الأئمة من حيث تصدي مقام الإمامة في سن مبكرة.. إذ كان له من العمر تسع أو عشر سنين، وإذا به يصبح بعد أبيه الرضا (ع) إماماً للمؤمنين.. والغريب في الأمر، أن الإمام الجواد (ع) مع صغر سنه، قد لقي التأييد من جميع الموالين.. بخلاف أبيه الإمام الرضا (ع)؛ فإنه على ما أوتي من صفات وملكات، إلا أن البعض من الشيعة أنكروا إمامته، وهم الواقفية، الذين وقفوا على الإمام موسى بن جعفر (ص)، ولم يقبلوا الإمام الرضا (ص).. ففي إمامة الإمام الجواد (ع) -حسب ما وصل إلينا من التاريخ- لا نكاد نجد خلافاً يعتد به، ولا انشقاقاً في صفوف الموالين لخط أهل البيت (ع).. ولا يخفى أن سبب ذلك، هو ثبات خط الإمامة، من زمان النبي (ص).. وإنّا نعتبر أن النبي (ص) هو قمة الهرم، هو الذي بلّغ الإسلام بكل أبعاده، الإسلام المستبطن للتوحيد، والعدل، والنبوة، والإمامة، والمعاد.. إن الإسلام كل لا يتجزأ.. فالذي يؤمن ببعض ما جاء به الإسلام، ويكفر ببعض؛ فإن هذا الإنسان بعيد عن خط الإسلام، وعن خط أهل البيت (ع).. لو أن إنساناً -عن وعي والتفات- أنكر وجوب الوضوء -قسم من أقسام الإحكام الشرعية-؛ فإن هذا الإنسان خرج عن الدين، إن كان عن عمد والتفات.. فكيف إذا جزأ الدين تجزئة عميقة، بأن جعل الخط الرسالي بعد النبي (ص)، منفصلاً عما قبل وفاة النبي (ص)؟!.. وقد قلنا-مراراً وتكراراً-: إن حاجة الأمة للقائد، كحاجة الأمة للنبي قبل الوفاة وبعد الوفاة.. لابد من حكومة الخط الإلهي في حياة الأمة، سواء كان في لباس النبي أو كان في لباس الوصي.

إن هذا الخط الإلهي الذي استمر بدءاً بالنبي المصطفى (ع) إلى الإمام الرضا (ع)، قد أصبح مترسخاً وتوطدت أركانه، بلسان المصطفى، وسيف علي، وصبر الحسن، ودماء الحسين، ومناجاة السجاد، ومدرسة الباقرين، وسجون الكاظم، وعذابات الرضا (ع).. ولهذا مادام الإمام الرضا (ع) -وهو الإمام المفترض الطاعة- يوصي بولده الجواد، فلا خلف لأوامره.

ولهذا فإن الأمة أصبحت مستعدة لمرحلة زمان الغيبة.. ويمكن أن نفسر الحياة القصيرة لأئمتنا الجواد والهادي والعسكري (ع)، أنه تمهيداً للأمة لتقبل زمان الغيبة.. وإذا بالأمة تبتلى بزمان الغيبة، ولكن بعد إرساء الأسس.. وإلى يومنا هذا -ولله الحمد- أصبح لهذا الاتجاه طريقه في الفكر والعمل، والفقه نضج إلى أكبر حد ممكن على يد فقهائنا، الذين يكملون المسيرة بأمر الإمام (عج)، حتى يظهر ويتسلم زمام قيادة الأمة.. لقد أصبح الخط مترسخاً.. ولهذا لا مشكلة أبداً في زمان الغيبة، ونحن لا نعيش إلا فقد إمامنا (ص).

إن القرآن الكريم يؤكد لنا هذه الحقيقة: وهي أنه لا فرق في روح المعصوم إن كان صغيراً أو كبيراً -فالنور هو النور-، بذكره نموذجين لصبيين لم يبلغا الحلم.. فهذا يحيى (ع) يقول الله تعالى عنه: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}.. وهذا روح الله عيسى (ع) يتكلم في المهد بمنطق القيادة والنبوة، وقد قال تعالى عن لسانه في القرآن الكريم: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}.. ومن هنا تتجلى الحكمة الإلهية في عرض هذين النموذجين، وهي: لتعويد الناس على تقبل شخصية المعصوم أياً كان عمره.

دروس من قصة زكريا ويحيى (ع):

إن هناك ارتباطاً-كما قلنا- بين الإمام الجواد (ع) ونبي الله يحيى (ع)، في مسألة إتيان الحكم في عمر متقدم.. ولو تأملنا في قصة زكريا ويحيى (ع)، فإننا نلتمس الكثير من ومضات النور الذي تضيء لنا الطريق:

– ثمرة الاتصال بمبدأ الفيض في الوجود: إن العبد إذا أصبحت له صلة وثيقة بالله عزوجل، فقد فتح له الخط، فيصبح بإمكانه أن يأخذ أعظم الحوائج بدعوة صغيرة؛ لأن هنالك حبا متبادلا، والمحب يستجيب لحبيبه بإشارة.. فهذا نبي الله زكريا (ع) عندما بلغ به الكبر، حنَّ إلى الذرية الصالحة، فتوجه إلى الله عزوجل، كما في قوله تعالى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}..

إن من الأمور التي تجعل الإنسان يعيش حالة الاطمئنان، هو اعتقاده بأنه يحمل سلاحاً من أقوى الأسلحة، ألا وهو الدعاء.. فإنه يعيش حالة الهدوء والاستقرار، ما دام هو يعلم أن السموات والأرضين والخزائن، كلها بيد الرب، الذي يمكن أن يأخذ منه الحاجة، في ساعة من ساعات الخلوة في جوف الليل، وأنه بدمعة واحدة، وبتضرع واحد، وإذا به يأخذ من رب العالمين الكثير.

– التفكير في الذرية: ثم يقول: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}.. إن المؤمن يفكر في عقبه.. كم من الجميل إن لم يوفق هو في هذه الحياة الدنيا، لأن يكون مَعَلماً من معالم الدين، لأن يقوم بصدقة جارية عظمى، تبقى له رصيداً إلى أبد الآبدين، أن يطلب من الله عزوجل أن يعوض ذلك في ذريته!.. كم من الأخوة كان يتمنى أن يذهب في يوم من الأيام لطلب علوم الدين، ليكون عالماً ربانياً، ولكن الظروف حالت دون ذلك.. فلماذا لا تعوض ذلك في ذريتك، وتهيئ من عقبك من يكون عَلَماً من أعلام الدين؟.. عندما نراجع تأريخ العلماء السلف، نلاحظ بأن الفطاحل والمراجع منهم، هم أبناء مزارعين وقرويين، تمنوا من الله عزوجل ذرية صالحة، فوهب لهم ذلك.

– الحنان الإلهي: إن رب العالمين لا يعجزه شيء في السموات والأرض، وبيده مقاليد الأمور، ولقد استجاب دعاء نبيه زكريا (ع)، ووهبه نبي الله يحيى (ع).. قال تعالى مخاطباً هذا الوليد المبارك: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا}.. إن هذا الحنان الإلهي المتبادل بين الله عزوجل وبين يحيى، هو سر عظمة يحيى (ع) وخلوده.. ومن المعلوم أن هنالك شعبتين للحنان الإلهي:

شعبة مع الرب: إن الإنسان عندما يصبح ولياً لله عزوجل، ومرتبطاً بعالم الغيب، يكون قد وجد الحنان بينه وبين الرب، وبذلك فإنه بإشارة واحدة، يمنح ما يريد.. فهذا نبي الله زكريا (ع) نادى ربه نداءً خفيا، وإذا به يمنح يحيى (ع).. ونحن اليوم بعد آلاف السنين، نحيي ذكر هذا الوليد.

والشعبة الثانية مع الخلق: ويشير الله تعالى إلى هذا المعنى في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}.. ومن هنا نقول: بأن الذي يعاني من مشاكل مع الخلق، كالزوج أو الزوجة أو الأهل، أو الذي يريد حنان الخلق؛ لم لا توجه قلبك إلى الرب الحنّان، واهب الحنان، جاعل الود في القلوب؟!.. نعم، الطريق إلى القلوب هو الصلاح والتقوى، وليس بالمزاح الزائد، وليس ببذل الأموال، ولا بتقديم الولائم، لا بهذه الأمور المصطنعة.. إذا أردت أن تحصل على مودة القلوب… وأي قلوب؟.. ما قيمة القلوب المنكوسة؟.. بعض المطربين وبعض الراقصين والراقصات لهم الملايين من الجماهير يتفانون من أجلهم، فما قيمة هذه القلوب التي لا تسوى عند الله جناح بعوضة؟!.. إذا أردت أن تستقطب محبة المؤمنين، ومحبة من له قيمة لمحبته، فعليك أن تسلك ما سلكه يحيى (ع)، إذ ألقي عليه الحنان من الله عزوجل.. ورد في بعض النصوص -لعله إشارة إلى معنى كنائي-: أن الله عزوجل إذا أراد أن يبث محبة عبد في قلوب الناس، قذف حبه وجعله في مياه الشرب.. فكل من يشرب من ذلك الماء في ذلك البلد، يصبح في قلبه حباً لذلك العبد.. ولقد رأينا كيف أن الصالحين وأولياء الله تعالى، وجودات مخلدة، قريبة إلى القلوب؛ لا بالمال ولا بالعشيرة اكتسبوا ذلك الود والخلود، وإنما الله تعالى هو الذي جعله لهم في قلوب عباده.

– نلاحظ أن بر الوالدين عنصر متكرر في قصة يحيي (ع): {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا}، وفي قصة عيسى (ع): {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا}؛ مما يدل على عظم حق الوالدين.

– مواطن تجلي الحنان الإلهي: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}.. إن هذا الحنان الإلهي يتجلى في مواضع الحاجة القصوى.. نلاحظ أن: {وَسَلَامٌ}: نكرة، أي: يفيد التعظيم والتفخيم.. ونلاحظ أيضاً: أن عيسى (ع) -وهو من أولي العزم- يسلم على نفسه، إذ يقول: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا}؛ بينما يحيى (ع) -ليس من أولي العزم-، ويقول الله عزوجل كبركة لهذا الحنان: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}.

ولا شك أن الإنسان يحتاج إلى اللطف الإلهي عند ولادته، وقد يكون المراد أعم من الولادة، فإن الإنسان يحتاج إلى اللطف الإلهي منذ بدء نشأته -قبل الولادة-، في تركيب جيناته الوراثية، وفي تركيب أعصابه، وفي تركيب طينته؛ ويحتاج إلى رعاية من الله عزوجل، ليأتي إلى هذه الدنيا -بعين الله عزوجل- سليماً معافى روحاً وجسداً.. ويحتاج إلى هذه الرعاية يوم يموت، وينتقل إلى عالم البرزخ صفر اليدين، كما يقول الشاعر:

وفدت على الكريم بغير زاد *** من الحسنات والقلب السليم

وما أجمل هذا الحنان عندما يتجلى في ساعة اللقاء الإلهي، يوم يبعث حيا، يوم يخرج من القبر عرياناً ذليلاً، قد تبرأ جميع الخلق منه؛ وإذا بهذا الحنان يأتي ويأخذ بيده إلى جنات النعيم، كما تصرح بذلك بعض الروايات، وهو أن بعض أهل المحشر يدخلون الجنة، كالبرق الخاطف بلا حساب.

فإذن، إن فلسفة السعادة في هذه الحياة -كما في هذه الآية الكريمة-: هي أن يجعل الإنسان بينه وبين ربه، مثل هذا الحنان الذي كان ليحيى (ع).. يقول بعض المفسرين: إن هذا الحنان كان ليحيى نوع انجذاب بين العبد والرب -لا نعلم ماهية هذا الجذب-، يجعل العبد يتحرك في الحياة بشكل تلقائي، من دون تكلف؛ تحقيقاً لرضا الله سبحانه وتعالى.

صفة الجود في حياة الجواد (ع):

اقترنت صفة الجود وصفة الكرم باسم إمامنا (ع)، فكان يلقب بالإمام الجواد، ولقد كان باباً للمراد والحوائج طيلة القرون المتمادية.

إن صفة الكرم وصفة الجود من الصفات التي لا يمكن أن تنفك عن المؤمن.. فإذا رأيت مؤمناً بخيلاً، أو ممسكاً، فاعلم أن هناك خللا في إيمانه.. وأي إيمان لا يدفع صاحبه لأن يتعامل مع المال على أنه أمانة الله بين يديه؟!.. فإنه ليس مالكاً لنفسه، فكيف لموارد الطبيعة؟!.. إن المال هو مال الله عزوجل، وإن الإنسان ما هو إلا مستخلف وأمين على هذا المال.. ولهذا فإن الإنسان عندما يدفع خمس أمواله ولو بلغت الملايين، فإن عليه أن لا يعيش ذرة من العجب والرياء.. إذا شريكك في المال أعطاك الملايين، ثم قال: أعطني خمسه، ما الضير في ذلك؟!.. إن المال كله لله، والبدن لله، والطاقة لله، والخلق والأمر كله لله.. فإذا قال رب العالمين: أعطني من ذلك المال الخمس؛ أتمنّ على الله عزوجل، لأنك دفعت خمس الملايين مثلاً؟!.. أبداً!.. فالمنة لله وحده عزوجل أن جعلك مستكفياً بهذا المال.

وعليه، فإن الإنسان المؤمن عندما يعيش هذه الرؤيا الاعتقادية: أنه إنسان مستخلَف؛ فإن هذا الاعتقاد سينعكس على سلوكه في الحياة، فيقلل من حرصه على المال، ويؤدي ما عليه من الحقوق بكل طواعية.. ومن الأمور التي تجعل الإنسان يزهد في متاع الدنيا الذي منه المال: أنه وهو في هذه الدنيا يرى بعينيه، أن هذه الأموال تنتقل من إنسان إلى إنسان.. وكم من إنسان مات، وإذا بكل أمواله تنتقل إلى إنسان فاجر فاسق من ذريته، وليس له الحق أن يطالب بشيء من المال!.. فإذا كنت تعلم أن علاقتك بالمال في الدنيا علاقة محدودة، فلماذا لا تحول هذا المال إلى أمر خالد بين يدي الله عزوجل؟.. فإنه لا يفنى ولا يهلك ما ارتبط بالله عزوجل.. كما أن وجه الله عزوجل باقٍ، فإن العمل الذي يراد به ذاك الوجه، هو أيضاً عمل باقٍ.

ونحن نلاحظ في القرآن الكريم ذكر أمثلة لعطاءات يسيرة، قد اكتسبت الخلود: ففي بدء الخليقة كان هناك شخص باسم هابيل، قدم قرباناً لله عزوجل -حيواناً أو ما شابه ذلك-، وإذا به يخلد في التأريخ.. ورأينا كيف أن الزهراء وعلي والحسنين (ع) يقدمون شيئاً من طعامهم، وإذا بالقرآن الكريم يسجل الخلود لهذا العمل: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا}.. وهذا علي (ع) وهو راكع يتصدق بخاتمه، فتأتي الآية الشريفة لتقول: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}.. إن المسلمين أخذوا يتصدقون في ركوعهم بالخاتم والخاتم والخاتم، ولم تنزل آية من القرآن بهذه المناسبة.. فذلك خبز، وهذا خاتم، وذلك قربان؛ فلأنه انتسب إلى الله عزوجل، كتب له الخلود.. والطريق مفتوح لك أنت أيضاً، فحاول أن ترتبط بهذه الوجه الباقي!..

فقه الإنفاق:

إن من الضروري الإلمام بفقه الإنفاق.. وهنا نورد بعض النقاط:

– الاستغناء عن سؤال الناس: إن المؤمن له وجاهته عند الله عزوجل، فإذا كان بإمكانه أن يستغني عن منة الخلق فليستغن، ولا يريق ماء وجهه.. إن بعض أصحاب النبي (ص) إذا كان على فرسه أو على دابته، ويسقط منه السوط على الأرض- النزول من الدابة، وأخذ السوط يحتاج إلى عملية-، كان ينزل ويأخذ السوط بنفسه، وهو بإمكانه أن يقول للراجل أن يعطيه السوط، ولكنه كان يستنكف من ذلك، لأن النبي (ص) أمرهم بأن لا يطلب أحد أحداً إلا عند الحاجة إلى ذلك.. فلا ينبغي أن يريق الإنسان ماء وجهه في كل صغيرة وكبيرة، ولو في المنازل.. ونحن رأينا بعض العلماء الكبار من المجتهدين ومن المعظمين في مجال العلم والعمل، وإذا به يباشر شؤون المنزل بيده، ولا يتخذ من زوجته جارية، يطلب منها كل صغيرة وكبيرة، وإذا طلب يعتذر منها سلفاً، لما يبدر منه من ذلك.. وقد ورد في روايات أهل البيت (ص) هذا المعنى: (إن السؤال ذل، ولو لإراءة الطريق).. فإذا أردت أن تذهب إلى مدينة غريبة، خذ كتاباً أو خذ أطلساً، لتعرف الطرق في المدينة الغريبة، حتى لا تسأل أحداً، وخاصة إذا كان من غير المؤمنين والمسلمين.

– التضرع بالدعاء للتوفيق لخدمة الخلق: إن إمامنا السجاد (ع) في دعاء مكارم الأخلاق يقول: (وأجرِ للناس على يديّ الخير).. وأنت أيضاً، قل بلسان حالك ومقالك: يا رب، أنت تريد أن تكرم الخلق، وأن تقضي حوائج الناس، فاجعلني سبباً لذلك!.. إن الله عزوجل أبى إلا أن يجري الأمور بأسبابها، فلم لا تسأله تعالى أن يجري على يديك الخير للناس؟.. قل يا ربي: إن كنت تريد أن ترزق المؤمن، أو تريد أن تفرج كربته، فاجعلني أنا سبيلاً إلى ذلك، وشرفني بهذه الواسطة.. وقد ورد عن الإمام الحسين (ع) أنه قال: (اعلموا أن حوائج الناس إليكم، من نعم الله عليكم.. فلا تملوا النعم؛ فتتحول إلى غيركم).. فإذا أتاك المؤمن في حاجة، اشكر ربك على أنه بعثه إليك.. وإلا فإن الإنسان إذا استنكف عن قضاء حوائج إخوانه، فإنه سيجد بعد فترة أنه لا يراجعه أحد، إذ تحول هذه النعمة إلى غيره.

– السعي في قضاء حوائج الناس: إننا نلاحظ أن البعض بإمكانه أن يتكلم كلمة، أو يتوسط واسطة في دائرة أو في وزارة أو في شركة؛ إلا أنه يستنكف عن ذلك؛ معللاً أن كلامه لا أثر له!.. والحال أن السعي في قضاء الحوائج أمر مطلوب، سواءً قضيت الحاجة أم لم تقضَ؛ فإن الله عزوجل يحب أن يراك ساعياً في قضاء حوائج إخوانك المؤمنين.. قال تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى}.

– الكريم واللئيم: إن الكريم تارة يقابله البخيل، وتارة يقابله اللئيم.. هنالك بعض الناس مع أن عندهم كرما ماليا، ولكن ليس لهم كرم طبعي: فهو إنسان حقود، يقابل الكيل بكيلين، ويحفظ سلبيات الآخرين عشرات السنين إلى الوراء، ولا ينظر إلى الحياة إلا من المنظار الأسود.. إن هذا إنسان لئيم، واللؤم من الصفات القبيحة في النفس.

وقع بين سلمان -تلميذ مدرسة أهل البيت (ع)- وبين رجل حضره خلاف، فقال الرجل لسلمان: من أنت؟!.. يريد بذلك تعييره، لأن سلمان (ع) كان يُعير بأصله؛ لأنه جاء من بلاد غير عربية، ولهذا النبي (ص) جعله محمدياً.. وهذه حقيقة مؤلمة في حياتنا اليوم!.. إن تقسيم الناس بحسب المواطنة وغير المواطنة، له وزنه في عالم القوانين والمعاملات.. ولكن إذا وضع الإنسان في القبر، وإذا نفخ في الصور؛ فهل يسأل عن أصله وفصله وجنسيته؟!.. إن من مصاديق اللؤم أن ننظر إلى الناس بهذا المنظار: أن يرى الإنسان هناك تمايزا بين الخلق، بحسب مواطن ولادتهم!.. وما قيمة هذه المواطنة، لكي تكون أساساً للتقسيم؟!.. ألا يقول القرآن الكريم: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}؟..

فقال سلمان: أمّا أولي وأولك فنطفةٌ قذرة، وأما آخري وآخرك فجيفةٌ منتنة.. ونحن نرى كيف أن الميت إذا وضع في مكان غير مبرد يوماً واحداً، أنهم يأخذونه بأطراف الأيدي، ويلبسون الكمامات، لأخذ جنازته، تقرفاً وتقززاً من هذا الإنسان، الذي لعلها امرأة من أجمل النساء!.. والحق، إن بعض الصور من الموتى، تعكس حقارة بني آدم!.. ليوم واحد يمر عليه، وإذا به يصبح جيفة منتنة!..

أتريد أن تعرف من هو الكريم واللئيم؟.. يقول سلمان: فإذا كان يوم القيامة ووُضِعت الموازين، فمَن ثقُل ميزانه فهو الكريم، ومَن خفّ ميزانه فهو اللئيم.. نعم، هذا المنطق ينبغي أن يكون حاكماً في حياتنا.

ورد عن الإمام السجاد (ع) أنه قال: (وقع بين سلمان الفارسي- رحمه الله – وبين رجل كلام وخصومة، فقال له الرجل: من أنت يا سلمان؟!.. فقال سلمان: أمّا أولي وأولك فنطفةٌ قذرة، وأما آخري وآخرك فجيفةٌ منتنة.. فإذا كان يوم القيامة ووُضِعت الموازين، فمَن ثقُل ميزانه فهو الكريم، ومَن خفّ ميزانه فهو اللئيم).

– مراعاة منازل الناس: جاء عن الرسول الأكرم (ص) أنه قال: (أكرموا عزيز قوم ذل)!.. ينبغي على الإنسان مراعاة منازل الناس عند الحوائج وتجنب إذلالهم.. فعندما يراجعه أهل الحوائج، فإن عليه أن يصنف أحوالهم.. إذ قد يكون هنالك إنسان امتهن الفقر، ولا شك أن هذا حاله مغاير عن حال إنسان لم يمتهن الفقر، وإنما تفاجأ بالفقر، وخاصة إذا كان فقره في سبيل الله عزوجل.. فمثلاً: إنسان كان في هجرة في سبيل الله، وأوقعته هجرته في الفقر والوهن والذل؛ فلاشك إن هذا الإنسان عظيم عند الله عزوجل.

وقد ورد أنه: (أكرم السائل ببذل يسير، أو برد جميل).. إن بعض الناس يواجه الفقراء، بمواجهة غير معقولة أبداً!.. أأنت تعلم أنك تصب الزيت على ناره؟!.. فهو يعيش حالة الذلة والحرقة، فكيف تزيده ذلة، وخاصة أمام الآخرين؟!.. فإن كان بالإمكان قضاء حاجته، أو ادع الله عزوجل له أن يفرج من أمره.. فليس من المنطق أبداً، أن تواجهه هذه المواجهة القاسية!.. فإن الله عزوجل أخفى أولياءه بين عباده، فلا تحتقر عبداً، فلعله الولي، فيصيبك ما أصاب آل يعقوب.

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.