Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

قال تعالى في سورة القدر: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}.. كما هو المعلوم أنه يستحب قراءة هذه السورة في الركعة الأولى من كل فريضة، ولكن هذه الليالي والأيام هي تجلي معاني ليلة القدر -هذه الليلة العظيمة-، التي يحاول الإنسان أن يغيّر فيها مقدرات حياته طوال عام كامل.

ومن نقاط التأمل في هذه السورة المباركة:

أولاً: من الملاحظ استعمال كلمة {وَمَا أَدْرَاكَ} لليلة القدر، ومن المعلوم أن استعمال هذا التعبير وارد في موارد محدودة، فأغلب استعمالات {وَمَا أَدْرَاكَ} في القرآن الكريم، هو فيما يتعلق بيوم القيامة وبعالم الغيب.. قال تعالى بالنسبة ليوم القيامة، ونار جهنم: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ}، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ}، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ}، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ}، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ}.. فإذن، إن أغلب استعمالات {وَمَا أَدْرَاكَ} هو بالنسبة إلى الغيب وإلى يوم القيامة.. وكأن ليلة القدر من الغيب الذي لا تحتمله عقولنا.. فكما أن القارعة، وسقر، والكتاب المرقوم، ونار جهنم؛ أمور غائبة عن الحس.. كذلك ليلة القدر، هي ليلة غائبة عن حسنا.. والآية تصرح بأن ليلة القدر هي خير من ألف شهر، وبأن ليلة القدر ليلة ازدحام الملائكة في بقاع الأرض، فهل رأى أحد منا ملكاً في ليلة القدر؟..

ثانياً: إن الله سبحانه وتعالى حكيم، فلكل شيء عنده حساب ومثقال وميزان.. ولكن لنا هنا أن نتأمل: ما الحكمة من هذا التفضل الإلهي في ليلة القدر؟.. فهل رب العزة والجلال جعل جزافاً عمل ليلة، لا يساوي ألف شهر، بل جعلها خيراً من ألف شهر؟!.. إن هذه حركة غير طبيعية.. والحق، أن من أعظم صور الرأفة الإلهية على وجه الأرض، هي هذه الليلة المباركة.. إن الله سبحانه وتعالى لأنه يعلم طبيعة الإنسان الميالة للكسل والتقاعس، الموجب لخسرانه الكثير مما يحتاجه، فهو يعلم فقره وحاجته ومسكنته طوال العام، لذا جعل هذه الليلة فرصة ليربح الإنسان فيها صفقة عمره، وليعمل فيها ما يستوجب تقدير مصالحه في هذا العام.. ومن روائع الأحاديث في ليلة القدر هو هذا الحديث:

قال النبي (ص): قال موسى: إلهي!.. أريد قربك، قال: قربي لمن استيقظ ليلة القدر..
قال: إلهي!.. أريد رحمتك، قال: رحمتي لمن رحم المساكين ليلة القدر..
قال: إلهي!.. أريد الجواز على الصراط، قال: ذلك لمن تصدّق بصدقةٍ في ليلة القدر..
قال: إلهي!.. أريد من أشجار الجنة وثمارها، قال: ذلك لمن سبّح تسبيحةً في ليلة القدر..
قال: إلهي!.. أريد النجاة من النار، قال: ذلك لمن استغفر في ليلة القدر..
قال: إلهي!.. أريد رضاك، قال: رضاي لمن صلّى ركعتين في ليلة القدر.

ثالثاً: إن سورة القدر من السور المحيرة، والأئمة (ع) ركزوا على هذه السورة.. إن تنزل الملائكة هذه الليلة، لم يكن في زمان النبي (ص) فحسب!.. فهل يقول أحد من المسلمين بأن أول ليلة قدر هي تلك الليلة التي أنزل فيها القرآن الكريم؟.. إن إنزال القرآن الكريم دفعة واحدة، كان في ليلة القدر، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}، ولكن لم يقل أحد بأنها السنة الأولى من نزول القرآن الكريم.. ولم يقل أحد بأن ليلة القدر ارتفعت بذهاب النبي (ص) من هذه الأمة.. فإذن، إن هذه الخصوصيات -أي تنزل الملائكة في كل سنة بإذن ربهم من كل أمر-، هي لكل ليلة قدر في كل سنة، إلى قيام القائم، بل إلى قيام الساعة.

أحدهم رأى رسول الإمام الصادق (ع)، فطلب منه أن يسأل الإمام (ع) عن ليلة القدر، فلما رجع أخبره رسول الإمام بما أراده وبما لم يرد -نعم الإمام (ع) ينظر بعين الله عزوجل-، وقال: إن الله يقضي فيها مقادير تلك السنة، ثم يقذف به إلى الأرض.. وهنا نقول للذين يتهموننا بالشرك والكفر وما شابه ذلك: إن الأمور بيد الله عزوجل، فهو يكتب المقادير في العرش، لا يعجزه شيء، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ثم يقذف بهذه المقادير إلى الأرض..

وقال له: إلى من؟.. أي من الذي يتقبل ويتحمل هذه المقادير، وهذه المعلومات المصيرية عن كل فرد؟!.. ولا دليل على أن ليلة القدر ليلة كتابة المصير للمسلمين فحسب، فإنها لكل إنسان على وجه الأرض..

فقال (ع) له مستنكراً: من تُرى؟!.. يا عاجز أو يا ضعيف!.. إن الإمام (ع) ملؤه الأدب، الإمام إمام الأدب، ولكنه لما وصل إلى هذه النقطة، وإذا به استعمل تعبيراً قاسياً.. أي ألا تشغل التفكير؟!.. ألا تفكر أن لكل عصر إمام؟!.. ألا تفكر أن لكل تنزل، مُتنزَل إليه؟!.. فهذه الملائكة تهبط على من؟!.. إذ لابد من وجود قلب كبير يتلقى تلك الأوامر الإلهية من العرش.

حدثنا أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن الحسن بن موسى، عن سعيد بن يسار، قال: كنت عند المعلى بن خنيس، إذ جاء رسول أبي عبد الله (ع)، فقلت له: سله عن ليلة القدر، فلما رجع قلت له: سألته؟.. قال: نعم.. فأخبرني بما أردت وما لم أرد.. قال: إن الله يقضي فيها مقادير تلك السنة، ثم يقذف به إلى الأرض.. فقلت: إلى من؟.. فقال لي: من تُرى؟!.. يا عاجز أو يا ضعيف!..

ويقول (ع) في حديث آخر فيه إشارة إلى بعض الدرجات الكمالية، وكأنه يريد أن يفتح شهيتنا، لنطمع في هذه الدرجات.. إنه من الضروري للمؤمن أن يرفع من مستوى طموحه، فلا يكون همه مجرد أن يحوز على المغفرة من رب العالمين، فالمغفرة من المفروض أنه قد أخذها في أول ليلة من ليالي شهر رمضان، ففي الليلة الأولى لله عتقاء من النار.. بل ينبغي أن يطمع في رضوانه، وفي درجات الكمال، وفي ذلك النور، وفي هذه الدرجات التي يغفل عنها أهل الأرض، حتى المسلم العادي، فلا يفكر أكثر من شهوة بطنه وفرجه..

يقول الصادق (ع): (إن القلب الذي يعاين ما ينزل في ليلة القدر لعظيم الشأن.. قلت: وكيف ذاك يا أبا عبد الله؟.. قال (ع): ليشق والله بطن ذلك الرجل ثم يؤخذ إلى قلبه، يكتب على قلب ذلك الرجل بمداد النور فذلك جميع العلم، ثم يكون القلب مصحفاً للبصر، ويكون اللسان مترجماً للأُذن.. إذا أراد ذلك الرجل علم شيء، نظر ببصره وقلبه، فكأنه ينظر في كتاب.. قلت له بعد ذلك: فكيف العلم في غيرها؟.. أيشق القلب فيه أم لا؟.. قال (ع): لا يشقّ، لكنّ الله يلهم ذلك الرجل بالقذف في القلب، حتى يُخيّل إلى الأُذن أنها تُكلم بما شاء الله من علمه، والله واسعٌ عليم).

لا شك في أن المصداق الأتم لهذا الحديث هم أئمتنا (ع)، ولكن ما المانع أن يكون ذلك أيضاً للأمثل فالأمثل، اللاحق فاللاحق؟.. فالإنسان بمقدار ما يتقي الله عزوجل؛ يجعل له فرقاناً.. فكم من التحير الذي يعيشه الإنسان في هذه الدنيا!.. تراه يذهب يوماً يميناً، ويوماً شمالاً؛ ويوماً يوالي أحداً، ويوماً يعادي أحداً؛ يتخبط خبط عشواء، كحاطب ليل.. لا يعلم إلى أين يركن، ولا يعلم لمن يعطي قلبه، ولا يعلم لمن يعطي فكره.. فإذا أردت أن تصل إلى هذه الدرجات، فقسم منه يمكن الحصول عليه بالتدبر والتأمل والقراءة، وبالحوار وتلاقح الأفكار.. ولكن لا تنسَ هذا المدد من ذلك العالم.. لماذا لا تطلب من الله عزوجل هذه المرتبة من نور القلب؟..

رابعاً: إن قوله تعالى: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، يوحي بأن ليلة القدر ليلة أمن، وإن الله تعالى يحجب عن عبده مصادر الشر، ومنها الشيطان اللعين.. ومن هنا يجد الإنسان في ليلة القدر سلاسة وسهولة في التوجه إلى العالم العلوي، بما لم يعهده من نفسه في غيرها من الليالي.. فترى أن بعض الفسقة وبعض قساة القلوب في ليلة القدر، يخشع.. فهذا الخشوع ليس من باب قرب كماله، وليس من باب مجاهدته، وإنما لأن الله سبحانه وتعالى جعل السلام إلى مطلع الفجر.. ومن المعلوم أن الشياطين مقيدة في شهر رمضان، ولكن في ليلة القدر هنالك سلاسل إضافية، وترفع الحجب في ليلة القدر، وتغل الشياطين في ليلة القدر؛ لهذا فإن الإنسان يحلق رغم أنفه.

وعليه، فإن الشقي من أدرك ليلة القدر، من تعرض لمثل هذا الظرف المتميز، فلم يخرج منه بالمغفرة الشاملة.. وقد ورد: أن (من أدرك ليلة القدر، فلم يُغفر له؛ فأبعده الله).. بعض الأخوان يقول: حاولنا، وحاولنا، ولم نفلح في أن نمتلك ليلة قدر مميزة!.. فإذا كنت في ليلة القدر وفي شهر رمضان وفي الإحياء إلى الصباح لا يرق قلبك، ولا تعيش حلاوة المغفرة، فإذن تنتظر متى؟!.. وتنتظر من؟!.. وتنتظر أي مكان؟!.. إن هذا الأسبوع أسبوع الحسم، في هذا الأسبوع: الحياة، والممات، والمرض، والصحة، والإفلاس، والغنى، والزواج… إلى آخره؛ كل هذه الأمور تكتب في هذه الليالي والأيام.. لذا، ينبغي الالتفات في هذه الليالي، وتشديد المراقبة على النفس؛ لئلا يسمح بنفاذ أي فرصة لخداع الشيطان، فيكون الحرمان والخسران!.. قال الرضا (ع): (في أول ليلة من شهر رمضان، يُغل المَرَدة من الشياطين، ويغفر في كل ليلة سبعين ألفاً، فإذا كان في ليلة القدر، غفر الله بمثل ما غفر في رجب وشعبان وشهر رمضان إلى ذلك اليوم، إلا رجل بينه وبين أخيه شحناء، فيقول الله عزوجل: انظِروا هؤلاء حتى يصطلحوا).

ولابد من التهيئة المسبقة قبل ليلة القدر، فنعطي لأبداننا قسطاً من الراحة.. وإلا فما الفائدة المرجوة للذي يرهق نفسه في نهار ليلة القدر، ليأتي الليل إلى المسجد أو ما شابه، ليخفق برأسه؟!.. والملاحظ أنه من أجل الاصطياف أو الاستجمام في جزيرة نائية؛ فإنه يأخذ إجازة طويلة لشهر أو أكثر.. بينما في هذه الليالي يأتي ويتعذر بظروف العمل وأنه لا طاقة له، ويعمل بعض الأعمال السريعة ثم ينام إلى مطلع الفجر، بلا صلاة ليل ولا مناجاة، ويقرأ دعاء الجوشن وما شابه ذلك، وهو يتصفح الأوراق متمنيا الانتهاء السريع من خير هذا الدعاء!..

فكم نحن مغبونون!.. وبتعبير الإمام الحسن (ع): (ما أعرف أحداً إلا وهو أحمق فيما بينه وبين ربه).. لماذا لا نبرمج أنفسنا في هذه الليالي والأيام؟.. ومن المعلوم أنه في العام الماضي الذي أصابته نكبة، أو أصابه مرض، أو أصابته بلية؛ فإنها كتبت في ليلة القدر من السنة الماضية.. فما دمت تخاف من بعض العواقب، ومن بعض الحوادث، وما دمت تخاف من المرض والسقم وقساوة القلب والإدبار عن طاعة الله؛ حاولْ أن تغتنم الفرصة.. هي ثلاث ليال، فما وزنها في ليالي العمر؟.. ولطالما أمضيناها في السكرات، والغفلات، والشهوات، والمسلسلات، والأباطيل، وسهرات الليل، والمقاهي، وما شابه ذلك!.. ثلاث ليالٍ في السنة تكتب بها سعادتك في هذه السنة، إن لم تكن سعادة الأبد.. ولعل الله عزوجل إذا اختارك واصطفاك في هذه الليالي؛ يبعثك المقام المحمود.. فسعادة الأبد تكتسب في هذه الليالي والأيام.. يقول الصادق (ع): (ليلة القدر هي أول السنة، وهي آخرها).. نعم، أول سنتك الروحية هي هذه الليلة المباركة.. وفي حديثٍ آخر: (قلبُ شهر رمضان ليلة القدر).. فما قيمة بدن بلا قلب؟.. فالبدن الذي لا قلب له، فإن حكمه كالمقابر.. الذي لا ليلة قدر له، الذي لا يميز ليلة قدره، فلا رمضان له.

أصحاب الأئمة (ع) كانوا يحاورون الأئمة، لاقتناص تلك الليلة الواحدة، فهي ليلة في السنة ولكن الله عزوجل جعلها في ليال: عن عليّ بن أبي حمزة الثمالي قال: (كنت عند الصادق (ع) فقال له أبو بصير: ما الليلة التي يُرجى فيها ما يرُجى؟.. قال (ع): في إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين.. قال: فإن لم أقو على كلتيهما، قال (ع): ما أيسر ليلتين فيما تطلب.. قلت: فربّما رأينا الهلال عندنا، وجاءنا من يخبرنا بخلاف ذلك في أرض أخرى!.. فقال(ع): ما أيسر أربع ليال تطلبها فيها.. قلت: جعلت فداك!.. ليلة ثلاث وعشرين ليلة الجهني؟.. فقال: إن ذلك ليقال.

قلت: إن سليمان بن خالد روى في تسعة عشر يكتب وفد الحاج، فقال : يا أبا محمّد!.. يُكتب وفد الحاج في ليلة القدر والمنايا والبلايا والأرزاق، وما يكون إلى مثلها في قابل، فاطلبها في إحدى وثلاث.. وصل في كل واحدةٍ منهما مائة ركعة، وأحيهما إن استطعت إلى النور، واغتسل فيهما.

قلت : فإن لم أقدر على ذلك وأنا قائم؟.. قال: فصلِّ وأنت جالس، قلت : فإن لم أستطع؟.. قال: فعلى فراشك، قلت: فإن لم أستطع؟.. قال: فلا عليك أن تكتحل أول الليل بشيء من النوم، فإن أبواب السماء تُفتح في شهر رمضان، وتُصفّد الشياطين، وتُقبل أعمال المؤمنين، نعم الشهر رمضان!.. كان يُسمّى على عهد رسول الله (ص) المرزوق).

توصيات عملية:

– الاعتكاف الروحي: إن الشيطان همه تثبيط الهمم عند الإنسان المؤمن، فينبغي الالتفات إلى حيله، فقد يأتي الإنسان، ويقول: ماذا تريد بهذه الحجة أو بهذه العمرة، فإنك سترجع إلى ما كنت عليه؟.. فماذا يفيدك هذا البكاء وهذا النحيب في ليالي القدر؟.. أنت كنت كذلك، وستعود إلى ما كنت عليه؟.. وهكذا يؤيسه، ليثنيه عن التقرب إلى الله عزوجل في تلك الليلة، ليحرمه من بركاتها.

وهنا نقول: هل هناك مانع إذا عجز الإنسان عن زراعة بستان كبير -حيث كان مبتلى بصحراء، ليس فيها خضرة أبداً-، أن يزرع مزرعةً صغيرة؟.. ما المانع أن يزرع واحة صغيرة، ويقول: يا ربي معذرة، إني لم آتك ببستان، وإنما أتيتك بقطعة صغيرة خضراء، فتقبل مني ذلك؟.. فإذا لم يمكن البستان، ألا يمكن الحديقة الصغيرة؟.. وعليه، حاولْ أن تقدم لله عزوجل بستاناً صغيراً، بدؤه ليلة التاسع عشر من شهر رمضان، وختامه ليلة العيد.. فما المانع من ذلك؟.. هي عشر ليال، حاولْ أن تجعل نفسك فيها من خيار المراقبين، وبالغ في مراقبة النفس.. وقل: يا رب، أنا طوال السنة كنت من الساهين اللاهين، ولكن تقبل مني هذا القليل، فقد صمت نهاره، وقمت ليله!.. البعض في ليالي القدر يعيش حالة من حالات الإيجابية، وأما في نهار يوم القدر يعيش حالة اللغو والسهو وحالة الحرام وما شابه ذلك!.. ليكن شعارنا هذه السنة أن نبدأ اعتكافاً روحياً، لا اعتكافاً بدنياً؛ تأسيا بالرسول الأكرم (ص).. لنحاول أن نراقب أنفسنا ليلاً ونهاراً، لنقدم شيئاً مميزاً لله عزوجل.. فإن من نجح في أن يكون متعبداً بين يدي الله تعالى في عشرة أيام، فإن أرضية النجاح متوفرة لأن يكون كذلك طوال عامه، وهذه هي الثمرة الكبرى لليلة القدر.

– العزم على التوبة النصوح: إن البعض يقيس توفيقه في ليالي القدر بكثرة البكاء والتضرع.. والحال أن المطلوب هي حالة الإنابة والتوبة الصادقة، والندامة على ما مضى، والبرمجة لحياة جديدة، ولو اكتفى صاحبها بالتباكي، والتخشع.. فإن الله تعالى لا ينظر إلى صورنا وأبداننا، وإنما ينظر إلى قلوبنا.. ومع ذلك فإنه قد ورد أنه: (ما جفت الدموع، إلا لقسوة القلوب.. وما قست القلوب، إلا لكثرة الذنوب).. أما الذي يبكي ويصيح بما لا يعهد، ثم في النهار أو بعد شهر رمضان يعود إلى ما كان عليه، فما قيمة هذا البكاء في ليلة القدر؟!.. وعليه، حاولْ أن تعيش أجواء الإنابة إلى الله عزوجل.. وأفضل الأعمال أن تتوب، وأن تنيب، وأن تصفي الحساب مع الله عزوجل، وتعاهد رب العالمين أن تجعل عامك القادم خير عام مر عليك.. فإن المغبون من تساوى يوماه، كما ورد في الحديث.. وقياساً نقول: المغبون من تساوت سنتاه، والمغبون من تساوى شهراه، والمغبون من تساوى رمضانيتاه.. فحاولْ أن تعيش هذا الجو.

– الجمع بين الإحياء الجماعي والفردي: إن من المناسب أن يجعل المؤمن لنفسه برنامجين في ليالي القدر: برنامج الانضمام إلى جماعة من المؤمنين الداعين، فإن الرحمة الإلهية غامرة للجماعة المؤمنة، بما لا تنال في المجالس الفردية.. ومن المعلوم أن البعض قد لا يوافق على البرامج الجماعية، ولكن لم؟.. فمن المعلوم أن الدعاء في جمع من المؤمنين أقرب للإجابة.. جماعة من المؤمنين جاؤوا من هنا وهناك: نساء ورجالا وأطفالا وعجزة وكبار السن، تحت سقف من بيوت الله عزوجل، أو في مكان يذكر فيه أهل البيت (ع)، فما المانع في ذلك؟.. فهذه الدعوات الجماعية ترفع البلاءات المقدرة.. ولكن لا ينبغي الاكتفاء بذلك، بل ليجعل الإنسان المؤمن له برنامجاً آخراً للخلوة مع ربه.. فبعد ذهاب الجماعة، خذ زاوية من المسجد، وصلّ صلاة الليل، أو صلّ صلاة القضاء، وادع بما شئت..

ونحن لا ينبغي أن ننام في هذه الليلة -لا أقول على نحو الوجوب الشرعي-، بل علينا أن نحاول البرمجة لها: بقلة الطعام من أول الليل، والنوم في النهار؛ لأن هذه الأمور من موجبات التثاقل.. فالإنسان عليه أن يحرص على استثمار هذه الليلة، وأن يعض عليها بالنواجذ، ويبقى مستيقظاً.. وإذا كان بالإمكان التفرغ لهذه الليلة، واستثمار الوقت.. وأما المغلوب على أمره، فأمره إلى الله عزوجل.. ولهذا فالإمام (ع) عندما يماطله ذلك الراوي -وقد تقدم ذكر الحديث-، يدعوه إلى أن يحيي هذه الليلة، ويقول: (فلا عليك أن تكتحل أول الليل بشيء من النوم).. فإن كان ولابد، فاكتحلْ بشيء بسيطٍ من النوم، لتتقوى على هذه الليلة.. والملاحظ هو تركيز الإمام على أهمية إحياء هذه الليلة، فيدعوه أن يدعو مضجعاً، أو قائماً، أو نائماً؛ بحسب ما يمكنه أن يحيي هذه الليلة.. فعلينا أن نغتنم الفرصة بقلة الطعام والشراب في تلك الليلة.. ومن المناسب أيضا اصطحاب من يمكن من الأهل والأصدقاء لمجالس التنبيه والإيقاظ، فلعل الله تعالى ينقذ بك نسمة من النار!.. فحاولْ أن تكون داعياً إلى الخير.

إن من علامات القبول في ليلة القدر، أن يعيش الإنسان حالة البرد الباطني.. فحلاوة المغفرة من الأمور التي لا يمكن أن تستوعب من قبل العصاة.. ومن المعلوم أن الليلة الثالثة والعشرين من شهر رمضان المبارك، من الليالي التي يمكن أن يحدس الإنسان فيها علامة الاستجابة، وقربه إلى الله عزوجل.

– وقفة مع إمام الزمان (عج): إن من أهم أعمال ليلة القدر: أن يعيش الإنسان حالة من الارتباط مع مولاه صاحب الأمر (ع) -ذلك القلب الذي تتنزل عليه الملائكة من كل أمر في ليلة القدر-، فيتكلم معه، ويدعو له بالفرج، ويشكو له هموم الأمة وما آل إليه أمرها.. فإنه الراعي لهذه الأمة المنكوبة.. قل: (اللهم!.. اكشف هذه الغمة، عن هذه الأمة بظهوره، وعجل لنا ظهوره).. فقد مللنا كل شيء، وأصبحنا على يقين أنه لا فرج ولا أمن ولا أمان ولا عزة، إلا بذلك الذي يأتي بالعز، مظهر العزة الإلهية!.. فلتكثر من الدعاء بتعجيل فرجه.. فإذا رق قلبك وجرى دمعك، اذكره ذكرا بليغاً.. ولك أن تتصور أنه إذا دعا لك الإمام (عج) في ليلة القدر، وقال: اللهم!.. استجب دعاءه، واجعله في كنفك، واجعله في درعك الحصينة؛ كما دعا لي بالفرج.. فهل يبقى أمر لم تصل إليه؟!.. وهنيئاً لمن استجاب الله تعالى دعاءه في ذلك، وأذن لوليه الأعظم أن يدعو له.. أو هل تبقى خيبة بعد ذلك؟!.. وهذا النص من روائع الأحاديث التي تكشف شدة شوق أحدهم في زمان الغيبة الصغرى:

عن أحمد بن إبراهيم قال: شكوت إلى أبي جعفر محمد بن عثمان شوقي إلى رؤية مولانا (ع)، فقال لي: مع الشوق تشتهي أن ترى؟.. فقلت له: نعم، فقال لي: شكّر الله لك شوقك، وأراك وجهه في يسرٍ وعافيةٍ، لا تلتمس يا أبا عبد الله أن تراه، فإنّ أيام الغيبة يُشتاق إليه، ولا يُسأل الاجتماع معه..

إنه عزائم الله، والتسليم لها أولى، ولكن توجّه إليه بالزيارة، فأما كيف يعمل وما أملاه عند محمد بن علي فانسخوه من عنده، وهو التوجّه إلى الصاحب بالزيارة بعد صلاة اثنتي عشرة ركعة تقرأ: {قل هو الله أحد} في جميعها ركعتين ركعتين، ثم تصلي على محمد وآله، وتقول قول الله جلّ اسمه: سلامٌ على آل ياسين، ذلك هو الفضل المبين من عند الله، والله ذو الفضل العظيم، إمامه من يهديه صراطه المستقيم، قد آتاكم الله خلافته يا آل ياسين.

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.