Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

ان اغلب الناس يانسون بما يؤتيهم الله تعالى من المتاع العاجل ، والحال ان من افضل انواع العطاء الالهى : هو ما تعلق بعالم المعنى ، والذى لا زوال له ولا اضمحلال !!.. ومن ذلك ما اطلق عليه القران الكريم من تعبير ( الحكمة ) والتى من آثارها : انها تجعل الانسان يميز طرق الحق عند مفترقاتها .. وهل يهلك الناس الا من خلال سلوكهم غير السبيل الذى امر الله تعالى باتباعه ؟!

ان مشكلة السائرين ليست غالبا فى عدم معرفة الحكم الشرعى ، لان ذلك مما يمكن كشفه ، بمراجعه الفقيه الجامع للشرائط ، وانما المشكلة فى تشخيص الامور الخارجية كـ : تقييم من يصلح معاشرتهم ، وكمعرفة الاسلوب الامثل فى التعامل مع الغير شدة او رفقا ، وكمعرفة المصلحة فى الاقدام اوالاحجام فى مختلف شؤون الحياة ، والتى هى ليست قليلة فى حياة الفرد .

القران الكريم جعل من مصاديق الذين اوتى الخير الكثير هو: لقمان الحكيم والذى لم يكن نبيا، بل كان حبشيا .. وهنا تكمن الحقيقة الملفته وهى : ان الوصول الى تلك الدرجات العليا ، لا تحتاج الى مقامات خاصة كـ ( النبوة و الوصاية ) و انما الأمر يحتاج الى وجود ارضية قابلة لتلقى الفيض الالهى الذى لا بخل فيه ، وانما المنع من قبل العبد المسكين ، الذى يعيش العطش القاتل وهو على الساحل .

عندما نراجع حياة لقمان الحكيم ، فانه يوقفنا فيها صفات ملفته ، منها جمعه بين سلوكه المعنوى المتمثل فى الرقابة والاستحضار الدائم للمعية الالهية ، وبين حركته الاصلاحية فى المجتمع ، وذلك مما يفهم من هذا النص الوارد عن الامام الصادق (ع) : ( ولم يمر برجلين يختصمان او يقتتلان الا اصلح بينهما ، ولم يمض عنهما حتى تحابا ) .. وهذا كله بخلاف من يجعل التقرب الى الله تعالى ذريعه لاعتزال المجتمع ، وترك خدمة الناس، وكان الخلق موجودات مقابلة للخالق .. والحال انها صادرة منه لا فى قباله .

من النقاط الملفته فى حياة لقمان : انه عندما عرضت عليه مقام الخلافة فى الارض ، فانه فوض الامر الى الله تعالى ، معللا ذلك انه لو اراد له هذا المنصب ، فانه سيعينه على ذلك قطعا .. فان هذا المنصب مع كونه مغريا فى اعلى درجات الاغراء ، الا ان لقمان لم يطلب ذلك بشكل قاطع ، لعدم علمه بعواقب الامور ، وهذا درس بليغ لمن اراد المقامات المعنوية ، فان عليه ان لا يصر فى طلب شيئ منها ، بل عليه العمل بمقتضى واجب العبودية ، تاركا اعطاء الامتيازات بيد الحكيم الخبير .

ان من الملفت فى حياته ايضا : ان الله تعالى لما راى فيه القابلية لتلقى الحكمة ، فانه وهبها – على عظمتها – فى ليلة واحدة ، اذ ورد فى الخبر انه لما استحسن الرحمن منطقه ، وامسى واخذ مضجعه من الليل ، انزل الله عليه الحكمة ، فغشاه بها من قرنه الى قدمه وهو نائم .. وفى هذا درس بليغ ، اذ ان البعض يجاهد نفسه ، وقد لا يرى اثرا لذلك ، مما يدعوه الى الاحباط والياس ، غافلا ان الله تعالى سوف يفجر له ينابيع الحكمة لو شاء فى مدة ليست بالحسبان .. ولكن العجب ان الانسان خلق من عجل !!

ان التسديد الالهى المذهل ليس خاصا بعالم البشر ، فان هناك فى عالم الحيوان ما يقرب من الاعجاز فى هذا المجال .. ومن مصاديق ذلك ما نراه فى سمكة السلمون ، التى تجوب المحيطات فى رحلة العودة الى مواطنها التى قد تستغرق اربع سنوات ، متحركة فى عكس اتجاه الشلالات ، مهتدية الى موطنها ، بفعل خاصيتها الفريدة من معرفة القطب الشمالى ، اضف الى حفظها لرائحة الانهار التى قطعتها ذهابا ، لترجع الى وطنها ايابا ، متذكره تلك الروائح الخافية على الآدميين .. فما هى الدروس الكامنة فى ذلك ؟.

ان الدرس الذى يمكن ان ناخذه من سمكة السلمون هذه هى دروس اساسية ثلاثة : الاولى ان الامر يحتاج الى عزم راسخ ، فهذه السمكة لها من العزيمة ما تجعلها تنصرف عن الاكل ، وهى سابحة للوصول الى هدفها .. والثانية: ان العزيمة الصادقة من آثارها هو السعى الحثيث ، فليس الامر بالتمنى – كما عند البعض – فيتغنى بالكمالات العليا من دون ان يقدم فى عالم المجاهدة شيئا .. والثالثة ان التسديد من الخالق خير رفيق للمخلوق ، بل لا يمكن ان يصل العبد الى درجة من درجات التوفيق ، الا اذا اختار المولى له ذلك .. اويحسن بعد ذلك ان نعرض عمن بيده مقاليد السموات والارض ؟!

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.