Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

س١/ السؤال هو بالنسبة إلى زكاة الفطرة؟..

– إن هناك كلمة جميلة جداً لصاحب تفسير الميزان، السيد الطباطبائي -رحمه الله- يقول: البعض منا طوال حياته لم يستشعر حقيقية العبودية ولا ساعة واحدة.. إن الإنسان بمجرد أن يذهب إلى المحكمة، ويعقد زواجه على فتاة، يخرج من المحكمة ويعيش جو الزوجية، يرى نفسه زوجاً.. فالأب عندما يبشر بولده يعيش حالة الأبوة.. فالأبوة والزوجية والمالكية، كل هذه معان يستشعرها الإنسان استشعاراً؛ ولكن المشكلة هي أن أحدنا لم يعش يوما من الأيام حالة العبودية، أي أنه عبد وأنه مملوك.. عندما يعيش الإنسان حالة المملوكية، فإنه سيعيش أجواء متميزة.. فالعبد لا يتحرك، إلا ضمن حدود مملكة مولاه كما أمره.. إذا صار العبد بهذا المستوى من الإحساس، عندئذ طاعته وتقربه إلى الله -عز وجل- يصبح لا كلفة فيه، ولا يجد معاناة في ترك الحرام؛ لأنه عبد.. وطبيعة العبد أنه يمتثل الأوامر والنواهي.. وبكلمة واحدة: لو كنا مع رب العالمين، كما الخادمات في المنازل، بالنسبة إلى المخدومين.. حيث أن هذه الخادمة في المنزل مقابل أجر زهيد جدا، تجعل نفسها في خدمة المخدوم: صباحا، ومساء، وليلا، وسحرا، وفجراً؛ وذلك لأنها تخاف من الطرد، لذا تقوم بعمل كل ما تؤمر به.. فلو كنا مع رب العالمين كما الخادمات مع المخدومين والمخدومات، لكان أمرنا على ألف خير.

– إن شهر رمضان فيه جانب عبادي، وفيه جانب تربوي واجتماعي ومالي؛ فهو يختم بخدمة عباد الله عز وجل.. الطاعات والعبادات كلها في جانب، ولكن في يوم الفطر نتوج ونكلل جهودنا بالنجاح والصيام، بأن نخرج زكاة الأموال.. فالشريعة شريعة جامعة مانعة.. والذي ينمو في جانب، ويضمر في جانب، هذا الإنسان وجود غير متزن.. فالشريعة محفوفة بالعبادات وبالماليات: الحج فيه إنفاق مالي، والكفارات فيها إنفاق مالي.. والإخلال بالقسم، وبالنذر، وبالعهد.. كذلك هناك في المقابل مع الاستغفار، إطعام ستين مسكينا، أو عشرة مساكين، أو تحرير رقبة.. فالإسلام يريد من الإنسان أن يسير في طريقين: طريق العبودية لله -عز وجل- أولا، وخدمة الناس ثانيا.

– إن الذي يريد أن يصل إلى درجات القرب من الله عز وجل، فإن من أوسع أبواب القرب، هو تفقد من حوله، وإدخال البسمة على وجه بائس، وإطعام الفقير الجائع؛ فهذه هي سياسة الشريعة.. إن البعض قد يقوم بهذه الأمور، ولكن لا يرى في نفسه تغيرا ملحوظا؛ وذلك لأنه يجب أن يقوم بالأمرين معا: أي قيام في الليل، وإنفاق في النهار، جهاد بالمال، وجهاد باطني {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.. إذ لابد من تنويع مجالات المجاهدة في مختلف صورها.

س٢/ نلاحظ في السنوات الأخيرة كثرة ظهور القنوات الفضائية المتنوعة، فلماذا لا تدعون إنشاء المحطات الفضائية الدينية على أن تخصص نفقات القناة من المؤمنين؟..

– إن هذا أمر جيد إذا وجد هنالك من يتبرع للقناة، وتكاليف إنشاء قناة ليس بالأمر السهل، فهذا شأن الدول.. على كل حال فقد خرجنا من الجفاف الكامل من هذه الناحية بحمد الله، حيث أصبحنا نسمع ذكر أهل البيت (ع) على عدة فضائيات.. ويقال أن من أسباب قلة حضور الناس للمآتم هذه الأيام، منافسة الفضائيات للمآتم والحسينيات.. فالإنسان قد يقول: إن الغرض هو استماع محاضرة نافعة، وهذا بث مباشر وأنا في البيت مع أهلي، أسمع المحاضرة الدينية.. طبعا هذه أيضا حركة غير إيجابية جدا، وذلك لأسباب منها:

أولاً: لأن حضور المجالس الحية، فيه تعظيم لشعائر الله.. فنفس التواجد الكثيف فيه توقير لتلك المناسبة، وتعظيم لتلك الشعيرة.

ثانياً: نحن نعتقد أن هنالك تأثيرات غير مرئية في أماكن العبادة: المساجد، وغيرها من دور الطاعة؛ أي هنالك نفحات إلهية، وعناية إلهية لهذا الجمع.. وهذه النفحات لا تأتي من خلال الجلوس أمام التلفاز، ولو كانت محاضرة دينية.. فالإنسان عندما يذهب إلى المجلس الحسيني: يخرج من منزله، ويبقى في الطريق مدة من الزمن، ويترك أهله، ويجلس ساعة في المجلس، ويشترك في جمع من المؤمنين.. والدعاء الجماعي مستجاب، لأنه إذا اجتمع أربعون من المؤمنين استجيب لهم.. فهذه المعاني أين توجد عند الجلوس أمام الفضائيات، ولو كان مجلسا حسينيا؟.. فإذن، لابد من الجمع.. فالقناة تبث في منتصف الليل، في هذا الوقت ليس هناك مجلس، عندها فليستمع للمجلس من خلال التلفاز.. أما المجالس فإنه ينبغي أن تدعم، ويكثف فيها الحضور؛ وذلك لأن هنالك نفحات غيبية ونفحات إلهية (لله في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا لها)!.. هذه النفحات تأتي في مواطن وفي أزمنة، ومنها هذه الأماكن المباركة.

ثالثاً: إن حضور هذه المجالس، ينطبق على قول الإمام الصادق (ع): (أحيوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا)!.. هذه المجالس التي فيها حضور جماهيري وعام.

س٣/ ما هو الدور العملي لعلاقة الناس بالإمام الحجة -روحي وأرواح العالمين له الفداء-؟..

– إن هنالك عتباً، وهذا العتب له ما يبرره.. وهو حالة من حالات الجفاء لصاحب الأمر (ع) في هذه المناطق، وبشكل عام علاقة الموالين بإمام زمانهم، ليست علاقة متميزة وفي الحد المطلوب.

أولاً: الإمام يختلف عن آبائه الكرام، كلهم أئمة أهل البيت معصومون، ولكن يوم القيامة كل أناس يحشرون تحت راية إمامهم.. نحن يوم القيامة لا نحشر تحت راية الإمام العسكري (ع) مثلا، بل نحشر تحت راية الإمام الذي كان إمام زماننا (من مات ولم يعرف إمام زمانه، مات ميتة جاهليّة)؛ أي لكل زمان إمام.. فعلاقتنا به، علاقة إستراتيجية عميقة.

ثانياً: نحن في زمان الغيبة لنا دور في ظهوره (ع).. صحيح أن ظهوره، علمه عند الله -عز وجل- وتاريخ معين، حتى هو (ع) قد لا يعرفه، وأمره بغتة، ويصلح الله أمره في ليلة.. كل هذه المعاني صحيحة، ولكن ليس هنالك قضاء محتوم مفصول عن الساحة، وعن دعوات المؤمنين وجهودهم.. أي رب العالمين لم يكتب رقم تاريخ معين، وهذا التاريخ انتخب جزافا.. ليس هناك جزافية في عالم الوجود، فهذا التأريخ يتقدم ويتأخر، أو يرتب على حساب الوضع والساحة.. مثلا: إذا رأى رب العالمين عددا معينا من الأنصار والأعوان، ينصرون تلك الدولة الكريمة، ويخرجون معه ناصرين؛ فرب العالمين يعجل في فرج وليه.

فإذن، إن القضية مرتبطة بنا نحن.. والحسابات عند الله -عز وجل- حسابات لها قواعد.. في معركة أُحد النبي هو النبي، والمسلمون هم المسلمون.. من معركة بدر إلى معركة أحد كم الفاصل الزمني؟.. إنه فاصل قصير!.. والمشركون هم المشركون؛ أي أن قريش هم الجهة المحاربة: والأحديون هم البدريون، والمعركة كانت في المدينة.. لماذا في معركة بدر الملائكة المسومة تنزل، وفي معركة أحد رب العالمين ما نصر المسلمين، وتركهم يخذلون، حتى أشيع بأن الرسول قد قتل؟.. لأنهم مالوا إلى الدنيا ولجمع الغنائم، فأدبهم رب العالمين.. فالقضية ليست قضية جزافية: في معركة بدر لم يتوجهوا إلى الدنيا، فجاءهم النصر.. ولكن في معركة أحد التهوا بالدنيا، فخذلوا.

– إن رب العالمين بعض الأوقات لمصلحة يراها، يتصرف حتى في نفوس الكافرين (إن الله يؤيد دينه بالرجل الفاجر).. ومن مظاهر تصرف الرب في القلوب، هو ما ألقاه من الرعب في نفوس المشركين بعد انتصارهم في غزوة أحد، فلم يكن بينهم وبين القضاء على الإسلام إلا قتل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ودخولهم المدينة، واستباحة أهلها، وإعادة الأمر جاهلية أخرى.. ولكن الله -عز وجل- قذف في قلوبهم الرعب، وحال دون قيامهم بذلك كله، فقفلوا راجعين -مع هزيمتهم للمسلمين- إلى مكة، وهم يقولون وكأنهم استيقظوا بعد سبات: (لا محمداً قتلنا، ولا الكواعب أردفنا).

– إن الجفاء موجود بالنسبة للإمام الحجة (عج)، لذا يقال بأنه يجب أن نكثر من دعاء الفرج، وقراءة زيارة آل يس، والندبة، والعهد.. ولكن هذه ألفاظ، والإمام ليس بعاشق ألفاظ.. فالأهم من الزيارات والألفاظ، الالتزام العملي بما يحبه.. فالإمام ليس عنده دين غير دين جده خاتم الأنبياء، فما يحبه الإمام هو ما أمر الله ورسوله به {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ}.. وعليه، فإن الذي يقربنا إلى الإمام، ويهب لنا رأفته ورحمته، هو أن نكون على مستوى طاعة رب العالمين.. فأمير المؤمنين (ع) عندما سأل النبي (ص) عن أفضل أعمال هذا الشهر، لم يقل -مثلا-: الذكر الفلاني، بل قال: (الورع عن محارم الله).. فإذن، إن من أراد أن يتقرب إلى إمامه (عج)، عليه أن يكون على مستوى موالاته حق الموالاة: عملا، وعلما.. فليعمل بمضمون الحديث الشريف المنسوب إليه: (فليعمل كل امرئ منكم، ما يقربه من مودتنا أو من محبتنا).. فهذا هو المطلوب في زمان الغيبة.

– إن مسألة الدعاء لفرجه (عج)، بلا شك سيكون له دور في تحبيب الإنسان إلى إمام زمانه؛ لذا على الأقل يكون هناك دورة لمدة أربعين يوما من دعاء العهد، ولو مرة واحدة في العمر.. فمن وفق لدعاء العهد أربعين صباحا بين الطلوعين، فإنه يرجى أن يكون هذا علامة خير.. فلو استجيب في حق من يقرأ هذا الدعاء، هذه الفقرة: (اللهم!.. إن حال بيني وبينه الموت، الذي جعلته على عبادك حتما مقضيا.. فأخرجني من قبري: مؤتزرا كفني، شاهرا سيفي)، هذا ما يسمى بالرجعة في زمان الظهور.. كم هي أمنية عالية، أن يموت أحدنا، ولكن في زمن الظهور يرجع ليكون في ركاب الإمام الحجة (ع)، ويكون من مؤسسي العدل إلى يوم القيامة.. ودولة الإمام المهدي (عج) دولة متصلة بالقيامة.. فإذا خرج الإنسان مع الإمام، وكان من الممهدين والناصرين له؛ فإنه سيكون له أجر الدولة الإسلامية المباركة، من زمان إلى قيام الساعة.. وهذا فوز عظيم، أن يكون الإنسان في هذا الطريق.

– أما مسألة اللقاء به، فإن هناك من أصبح همه هو رؤية الإمام (عج).. من قال بأن الهدف هو أن نلتقي به؟.. فإذا التقيت بالإمام، وسلمت عليه، وقبلت يديه الشريفتين، ثم ودعته.. فما هي الثمرة العملية لهذا اللقاء؟.. إن الثمرة العملية هو الحب والإتباع، فلمَ لا يكون ذلك من دون رؤيته؟.. فالإنسان إذا ما رأى الإمام، وآمن بوجوده ودعا له، فهذا الإيمان أكمل وأشمل؛ لأنه من صفات آخر الزمان: أن إيمانهم سواد على بياض.. حيث أن هناك فرقا بيننا نحن في القرن الواحد والعشرين وآمنا بالنبي، وبين من رأى شق القمر، وبين من رأى معجزات النبي (ص)!.. فالإنسان هذه الأيام إيمانه أرقى من إيمان ذلك الذي رأى المعجزات من النبي الأكرم (ص)!..

س٤/ يعتريني في بعض الأوقات التفكر في ذات الله -سبحانه وتعالى-، وأنا أعلم أن من تفكر في ذات الله تزندق.. ولكن كل ما أتعوذ من الشيطان، يرجع ويأخذني؟..

– إن همَّ الشيطان الأول، هو أن يحرف المؤمن عمليا: في مقام العمل، يزين له الهوى.. في مناجاة الشاكين يقول الإمام (ع): (إلهي، أشكو إليك عدواً يضلني)!.. إن الشيطان هو الذي يحبب للإنسان الهوى، وهذه المقولة مخيفة!.. إن الشيطان ليس شغله أن يأخذ بيد الإنسان ويجره إلى الحرام، فلو كان كذلك لما صار هناك عقوبة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (وضع عن أمتي ما أكرهوا عليه، وما لم يطيقوا، وما أخطئوا)، فالإكراه يرفع التكليف.. إن رب العالمين أعطى للشيطان مساحة، قال له: أنت شغلك في القلوب، أما الأبدان فلا تلمسها.. وبما أن القلب هو أمير مملكة الوجود، فإنه إذا صار عنده بناء معين، حبب إليه الحرام، والجسم تابع.. ولهذا فإن مشكلة أهل الهوى هي أنه يعشق الحرام، وعندما يعشق الحرام، فإن وجوده كله في طريق ذلك المنكر.

– إن الشيطان يده مفتوحة في النفوس، ولهذا نقرأ في سورة الناس: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ}.. وكما أن الشيطان يوسوس، فإن رب العالمين أيضا يلهم ويلقي في الروع: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ}.. فإذن، إن رب العالمين أيضا يتدخل في القلب!..

– إن همَّ الشيطان وقدرته، هو أن يوسوس للإنسان؛ ولهذا فإن الناس في عرصات القيامة، يرفعون دعوى جماعية على الشيطان ويلقون اللوم عليه.. ولكن الشيطان أيضا يوم القيامة يدافع عن نفسه بذكاء ولباقة {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ أي أنا لم أفعل شيئا، أنا فقط وسوست في صدوركم، وأنتم أكملتم المشوار باختياركم، فليس هناك أي إجبار في البين.

– إن المؤمن إلى لحظاته الأخيرة في الحياة، لا يخلو من هذه الوسوسة.. حيث أن بعض المؤمنين وسواسيون، مثلا: هناك من يعاني من وسوسة في الطهارة والنجاسة، وهناك من يعاني من وسوسة في الاعتقاد.. وهذا يعتبر نقيصة وسلبية كبيرة، ولكن المهم أن لا يرتب الآثار على هذه الوسوسة، ويجب أن يكون إيمانه إيمانا مستقرا.. والذي يكثر من الوسوسة، قد تكون حالة مرضية، وعلاجه: عدم الاعتناء عمليا، والإكثار من موجبات الاستعاذة والحوقلة؛ فإنها أيضا مؤثرة في دفع هذه الحالة في الإنسان.

س ٥/ ما سبب تكرار آية {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} في سورة الرحمن؟..

– إن هذه الآية -والله العالم- باعتبار بني آدم موجود عجيب وغريب!.. حقيقة {إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}، {وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا}.. لو نظرنا إلى وضعنا: الإنسان يعيش حالة العجب من بني آدم!.. أحدنا يقعد على مائدة قبل أن يقوم على الأقل يشكر صاحب المائدة، وبعض الأوقات يبدي خجله.. أما عندما يصل الأمر إلى رب العالمين، فهو غير مستعد أن يشكر الله بركعتي صلاة.. هذه الصلوات الواجبة لو جمعت، تأخذ نصف ساعة مع وقت الوضوء.. إن طبيعة الإنسان طبيعة ظلومة جهولة، كما يقول عن الإنسان: {قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ}، الإنسان غير مستعد أن يشكر رب العالمين على نعمة الوجود.. هكذا رب العالمين يظهر انزجاره وتأذيه من بني آدم {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}.. فإذن، إن إكثار مواطن الشكر في الحياة، من موجبات رفع هذا الكفران.. وسبب التكرار، هو ترسيخ هذا المفهوم.. وطبيعة القرآن الكريم أنه في القضايا المهمة، الآية تكرر من باب إثبات عظمة المطلب وأهميته.. والغريب في هذه الآية، أن الجن يعامل معاملة الأنس؛ لأن الخطاب {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} خطاب للأنس والجن.. والجن أيضا هم قوم من الأقوام، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم.

س٦/ بالنسبة إلى قسوة القلب، هل هنالك أدعية ومناجاة تساعد على رقة القلب؟..

– إن الأدعية أشياء لفظية؛ أي حركة في الفم واللسان والفكين والأوتار الصوتية والخ.. إذا أردت أن يؤثر شيء في شيء، لابد أن يكون من جنسه.. هل هناك أحد -مثلاً- يضرب الحديد بمطرقة من خشب؟.. فالخشب لا يؤثر في الحديد، وإذا أردت أن تضرب، تضربه بمطرقة تناسب.. اللفظ هو في عالم اللسان والفكين والشفتين، والتأثير هو عبارة عن اطمئنان وهدوء وسلامة ورقة القلب.. اللفظ مثل الخشبة، ورقة القلب مثل الحديد.. هذا جنس وهذا جنس، كيف يؤثر هذا الجنس في هذا الجنس؟..

فإذن، إذا أردت أن يؤثر الدعاء في القلب، لابد أن يكون الدعاء قلبياً.. البعض يرفع صوته بالدعاء، ويتغنى في الدعاء.. هذا ليس دعاء، هذا تفنن في الألفاظ.. الدعاء حركة من القلب.. وبعبارة أخرى: الدعاء طلب، والطلب من حركات القلب، وليس من حركات اللسان.. والعبد إذا دعا ربه وهو لا يعيش الجدية في الدعاء، هذا الدعاء سوف لن يستجاب، لأنه ما تحقق الطلب أبداً.

س٧/ ما هو رأيكم بالنسبة إلى التطبير في يوم عاشوراء؟..

– إن علماء الأمة في هذا المجال، يقيدون ذلك بأمرين: بعدم إيجاب الضرر البليغ، وبعدم إيجاب الوهن في الدين.. فكل حركة لابد أن تكون فيها حكمة، إذا كان هنالك شيء ولكن يزاحمه أشياء أخرى؛ فإن الشريعة لا ترضى بايجابيته، إن كان مقابله سلبيات.. وما يؤكد هذا الكلام قول الله -عز وجل- في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا}؛ كلمة {رَاعِنَا} لها معنيان أحدهما سلبي وهو مأخوذ من الرعونة: فلان أرعن.. لذلك تقول الآية: لا تقل هذه الكلمة، بل قل: {انظُرْنَا}؛ أي أمهلنا.. وهذه الكلمة أبعد للشبهة، لأنه يبدو أن البعض كان يأخذ على المسلمين -مثلاً- أن هذه الكلمة فيها إهانة لرسول الله (ص).. القرآن الكريم يقول: عند استعمال الألفاظ، استعمل لفظا لا توجد فيه شبهة، لا يمكن أن يتخذ ذريعة للكلام والاستهزاء وما شابه.

فإذن، إن معنى ذلك أن سياسة الشريعة، أن لا تعمل عملا يوجب الوهن في الدين.. ولهذا كل علماء الشريعة، يذكرون في صفات إمام الجماعة: العدالة، والتقوى، والبعض يقول: ومنها المروءة.. والمروءة هي أن لا يعمل أعمالا توجب له الوهن.. وهذه القاعدة مضطردة في هذا الأمر، إلا أن يقال: أن هناك عنوانا ثانويا، علينا أن نعمل به بلغ ما بلغ؛ ولكن من الذي يقول: أن هذه مستثناة من القاعدة العامة، فهذه من ضمن الأمور الأخرى.. كل أمر إذا صار فيه سلبية معينة، هذه السلبية توجب انتفاء الأمر، وهذه من تلك.

س٨/ ما مدى صحة هذا الحديث: اختلاف أمتي رحمة؟..

– إن هذا الحديث له عدة تفاسير، منها: أي ذهابهم وإيابهم إلي.. يقال: فلان اختلف إلى فلان، إذا أكثر من التردد عليه.. اختلف إليه؛ أي ذهب إليه كثيراً.. والبعض يقول: إن الاختلاف في حال وجود النبي رحمة، لأن الأصحاب يختلفون في مسألة شرعية، فإذا اختلفوا يراجعون رسول الله (ص)، فإذا راجعوا الرسول (ص) يبين لهم الكلمة الفصل؛ عندها يستفيد المسلمون حكماً شرعياً.. فالاختلاف إذا كان في جو وجود حسم؛ أي هنالك من يحسم، وهنالك مرجعية وحكمية.. كأن يتنازع شخصان في مجلس، وهنالك عالم سيقول كلمته الأخيرة؛ هذه المناقشات وهذه المناظرات جيدة!.. أما إذا كان كل واحد يصيح من مكانه، وهذا يستهزئ وهذا يستهتر؛ فإن هذا ليس من البحث العلمي في شيء، وهذه هي الجدالية المرفوضة في الشريعة جملة وتفضيلاً.

س٩/ الملاحظ أن أثناء حضور المحاضرات والحسينيات والمساجد، الشخص يكون متفاعلاً جداً مع المواعظ والنصائح، لدرجة أنه يشعر أنه بعد الخروج سيكون إنسانا آخر.. ولكن على أرض الواقع، وبعد الخروج، ينسى كل شي، ويعود إلى حالته السابقة.. فما هو تفسيركم لهذه الحالة؟..

– إن هذا السؤال مناسب لهذه الليالي؛ أي فرق بين حالة الإنسان في ليلة القدر ثلاثة وعشرين، حيث أجواء: التوجه، والبكاء، والنحيب.. وبين حالته في الليالي الأخرى، حيث يعيش حالة: الاسترخاء، والفتور.. إن الدعاء يحتاج إلى حث وتحريك، عن حنظلة الأسيدي قال: لقِيَني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟.. قال: قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله ما تقول؟!.. قال: قلت: نكون عند رسول الله يُذكِّرُنا بالنار والجنّة، حتى كأننا نراها، فإذا خرجنا من عند رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- عُدنا إلى أزواجنا وأولادنا ومعاشنا، فنسينا كثيراً.. قال أبو بكر: فو الله!.. إنا لنلقى مثل هذا.. فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخَلنا على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.. قلت: نافَق حنظلة يا رسول الله!.. فقال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (وما ذاك)؟.. قلت: يا رسول الله نكون عندك تُذكِّرُنا بالنار والجنة، حتى كأنّا نراهما بأعيننا.. فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيراً.. فقال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (والذي نفسي بيده!.. إنكم لو تَدومون على ما تكونون عندي وفي الذّكر، لصافحتكم الملائكة على فرُشِكم وفي طُرُقِكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة).

– إن هناك بعض الملاحظات على هذه الظاهرة:

أولاً: إن هذه الحالات الروحية العالية، لا تعطى للعبد لتبقى، هي من الأصل تعطى لتؤخذ.. أشبه ما يكون بجوهرة الألماس، التي يقدمها التاجر كعينة، ليراها المشتري فقط، لا ليأخذها.. ورب العالمين له هذه الحالة مع البشر، يقول: يا عبدي، أنت تعال إلينا، ونحن نعطيك بعض الامتيازات، وبعض اللذائذ المعنوية.. والعينة في ليلة القدر، وفي يوم عرفة، وعند الحطيم.. رب العالمين يريد أن يقول: يا بني آدم، كفاك شهوات دنيا: فشهوة البطن محدودة، وأكلاتكم محدودة، وليس دائماً متوفرة، والشهوات الجنسية أيضاً محدودة، وليست دائماً متيسرة.. فإذن، لماذا لا تبحث عن أنس يكون معك دائماً متى ما تريد؟.. العلماء والصالحون والأولياء، عندما يشعرون بأي ضيق أو شدة أو حزن، فإن الأمر عندهم لا يحتاج أكثر من سجدة فقط، ويتكلم مع ربه؛ وإذا به يعيش عالما آخر.. أحد المؤمنين يقول: أنا بعض الأوقات جبهتي تحتاج إلى سجود، إذا لم أسجد كأن شيئا يؤلمني، ولا يسكن إلا بالسجود بين يدي الله -عز وجل-.

– إن الذي يعيش هذه اللذائذ، يحتقر اللذائذ الدنيوية العابرة، ولا يراها ملفتة جداً؛ فهي مؤقتة، وليست دائمية.. وهي غير مجانية، وتحتاج إلى أموال؛ بينما اللذائذ المعنوية أمر ميسور دائماً.. يكفي أن يغمض الإنسان عينيه وهو في أي مكان، ويسيح في مناجاة قلبية مع رب العالمين.. يقول الإمام زين العابدين (ع): (وأستغفرك من كل لذّة بغير ذكرك، ومن كلّ راحة بغير أُنسك، ومن كل سرور بغير قربك، ومن كل شغل بغير طاعتك).. على كل حال نحن مأمورون أن نتمتع بالدنيا، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}.. نحن لسنا من دعاة تعذيب الأنفس، وحرمان النفس من اللذائذ.. إذا أقبلت الدنيا، فأولياء الله أولى من الفجار؛ ولكن هذه عينات تعطى للإنسان، لتفتح شهيته على هذا العالم الجديد.

ثانياً: سبب زوال هذه الحالات الروحية، عدم تقديرها.. إن الذي يعطى في ليلة القدر هذه الهبات الروحية، وفي النهار يرتكب ما يرتكب من بعض المحرمات، أو الغفلات؛ فإنه من الطبيعي أن يعاقب بسلب هذه الحالة.. هذه الأيام الناس متورطون بالأمراض العجيبة: من السكر، والضغط، ومن الكآبة.. بالرغم من توفر كل وسائل الحياة العصرية.. وقد ورد في الحديث الشريف: (إذا وجدت قساوة في قلبك، وحريمة في رزقك، وسقماً في بدنك.. فانظر لعلك تكلمت فيما لا يعنيك).. كل هذه البلاءات من وراء الكلام الهذر، والكلام الكثير، والدخول في كل ما هب ودب، والتكلم في كل ما يعني ولا يعني.. فإذن، إن الذي يُعطى هذه الهبات الروحية ولا يقدرها بشكل جيد، من الطبيعي أن يحرم هذه البركات مرة أخرى.

بعض التوصيات:

أولاً: الالتزام بالمعوذات الصباحية.. يجب على الإنسان أن لا ينس المعوذات اليومية بين الطلوعين.. فالشياطين تحوم حول قلوب بني آدم (لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم، لنظروا إلى ملكوت السماوات)؛ لذا على الإنسان أن يعوذ نفسه في كل صباح، قبل أن يوسوس الشيطان ويضع له الفخاخ، وخاصة قبل انتهاء شهر رمضان.. فالشياطين حقودة ومتكبرة وحسودة، تريد أن تصادر كل مكتسبات شهر رمضان، وشهر عزاء أمير المؤمنين، وإحياء ليالي القدر!.. لذا فليقل الإنسان: (أعيذ نفسي، وديني، وأهلي، ومالي، وولدي، وإخواني في ديني، ومارزقني ربي، وخواتيم عملي، ومن يعنيني أمره.. بالله الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.. وبرب الفلق من شر ما خلق، ومن شر غاسق إذا وقب، ومن شر النفاثات في العقد، من شر حاسد إذا حسد.. وبرب الناس ملك الناس إله الناس، من شر الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس، من الجنة والناس).

ثانياً: جعل محطتين: قبل طلوع الشمس، وقبل غروب الشمس.. هذه محطة جداً مصيرية، لأن ملائكة النهار ترتفع إلى السماء بما دونت {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}، {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ}.. فهذه فرصة ما دام الملف يختم، فلو ختم باستغفار أو بعمل صالح، نعتقد أن هذا من موجبات التعويض، ومن موجبات تكفير السيئات.. فملائكة النهار ترى الإنسان داعياً في آخر النهار، وملائكة الليل تراه داعياً في أول الليل.. هذا موقف يباهي الإنسان به ملائكة السماء.. وقرآن الفجر يعني أن هناك صعود ملائكة الليل، وهبوط ملائكة النهار.. فإذن، إن على الإنسان أن يستغل هذين الوقتين بالأدعية المأثورة، مثلا: عشر مرات (أعوذ بالله السميع العليم من همزات الشياطين، وأعوذ بالله أن يحضرون)، وعشر مرات: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له)، وهناك آداب ما قبل الغروب وما قبل الشروق.

ثالثاً: الالتزام بدعاء الفرج في أحد قنوت الصلوات اليومية.. فقد ورد التأكيد على الدعاء له بتعجيل الفرج، ففي التوقيع الشريف المروي عنه (عج): (وأكثروا الدعاء بتعجيل الفرج، فإن ذلك فرجكم)؛ لذا علينا الالتزام بدعاء الفرج (اللهم!.. كن لوليك الحجة) في قنوت الصلاة اليومية، وبتوجه وإنابة.. لو أن الإنسان دعا بهذا الدعاء عشر أو عشرين أو ثلاثين سنة، فإن الإمام الحجة (عج) في مقام رد الجميل، {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}.. فلو دعا له الإمام (عج) بهذا الدعاء مرة واحدة بالمقابل، وقال: اللهم!.. كن له ولياً وحافظاً وناصراً.. هل هنالك مكسب أعظم من هذا المكسب، أن يكون رب العالمين: ولياً وحافظاً وناصراً ودليلاً وعيناً للإنسان؟!.. فإذن على الإنسان أن يكثر من الدعاء، وهو كريم، وفي ساعة من الساعات يرد له الهدية أضعاف مضاعفة.

رابعاً: إحياء ليلة العيد.. إن ليلة العيد تعتق رقاب من النار، ما أعتقت في شهر رمضان، فهي ليلة من الليالي المهمة جداً؛ لذا على الإنسان أن يعيش مشاعر الإنسان الذي يطلب الجائزة.. فيطلب من الله -عز وجل- في تلك الليلة أن يتصرف في فؤاده.. ورب العالمين يربط على قلب المؤمن إذا شاء،، ويزيده نوراً إذا شاء {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ}.. إن الليلة الأولى من شوال ليلة مصيرية ومهمة، ولكن أغلب الناس يغفلون عنها، ويفرحون إذا ثبت هلال العيد، ويحزنون إذا لم يثبت.. والحال بأنه لو لم يثبت العيد، عليه أن يفرح، ويقول: الحمد لله الذي أدركنا ليلة أخرى من ليالي شهر رمضان.. إذا أراد الإنسان أن يعرف حبه للشهر الكريم، فلينظر إلى قلبه في ليلة العيد: إن كان يحب العيد، معنى ذلك أن هذا الشهر كان ثقيلا عليه.

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.