إن سورة الحمد جزءان: جزءٌ منه وصفٌ لعظمة الله -عز وجل- ورحمته، ومالكيته {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}.. وجزء منه خطاب مباشر مع الله -عز وجل- {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}.. انتقل الأمرُ من الوصف إلى الخطاب.
{اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}؛ ما معنى الهداية هنا؟.. هل معناهُ الإيصال إلى المطلوب، أم إراءة الطريق؟.. ما معنى السبيل؟.. ما فرق السبيل عن الصراط؟.. لماذا ذكر القرآن السبيل مجموعاً{لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}، ولم تأتِ آية واحدة تجمع الصراط؟.. ما هو الطريق المستقيم؟.. ولماذا في سورة الحمد، التي هي السبعُ المثاني، التي في قبال القرآن الكريم، هناكَ طلبٌ واحد وهو: {اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}؟.. يبدو أن هذا الطلب فيهِ كُل شيء، وإلا لجعل رب العالمين دعاءً آخر.. كل مسلم لابد أن يستوعب سورة الحمد والتوحيدِ على الأقل؛ لأنَ الصلاة تكون بهما، فلا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، ثمَ نردفها بالسورة وعادة ما تكون سورة التوحيد.. وتفسير القرآن يحتاج إلى شرح صدر من المتكلم ومن المستمع، فليس كل إنسان يوفق لفهم كتاب الله عز وجل!..
ما معنى {اهدِنَا}؟..
قد يطلب الإنسان من أحد، أن يدله على مكان المسجد: فتارة يصف له الطريق، وتارة يأخذ بيده ويدخله المسجد.. هذهِ هداية وهذهِ هداية: الطريقة الأولى تُسمى: “إراءة الطريق”، والطريقة الثانية: “إيصال إلى المطلوب”.. فـ{اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}؛ هل معناهُ إراءة الطريق، أو معناهُ إيصال العبدِ إلى مطلوبه؟.. البعض يقول: هنا المراد بهِ إراءة الطريق؛ فرب العالمين ليسَ من شأنهِ أن يأخذ بيدك، ويدخلكَ الجنة.. إذا كانَ الأمرُ كذلك، فأينَ المجاهدة، وأينَ العبودية؟.. رب العالمين خلقنا {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا}؛ فالأمرُ يحتاج إلى بذلِ جهد، والعالم هو عالم الأسباب، ورب العالمين ما قصّر في هذا الجانب، فقد جعلَ في كل إنسان رسولين: رسول باطني، ورسول خارجي.
الرسول الباطني: البعض عند الانتهاء من ارتكاب المنكر، يشعر بالندامة، والبكاء، والإنهيار، ويعزم على عدم العود.. هذا العزم يكسر مع الأيام، ولكن الندامة ندامة قاتلة.. فإذن، هذا هو الرسول الباطني.
الرسول الخارجي: إن الله -عز وجل- ما فرط في شيء من كتابه، ومن سُنة نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم-، والذينَ مشوا على درب أهل البيت -عليهم السلام-.. حيث أن هناك عشرات المؤلفات في كلمات النبي (ص)، من هذه المؤلفات كتاب “بحار الأنوار” نحنُ لا نقول: أن كل ما في البحار صحيح، بل فيه الغث والسمين.. ولكن إجمالاً أكثر من مائة مُجلد فيهِ التراث المدون، بما فيه من تراث النبي، وأهل بيتهِ (ص).. إذا كان الإنسان ليس لديه وقت لقراءة مائة مُجلد، فهناك كتاب “العشرة” من بحار الأنوار، وهو كتاب قيم، ينبغي للمؤمن قراءته.
فإذن، {اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}؛ نطلب من الله -عز وجل- أن يُرينا هذا الطريق.. الطريق موجود وواضح، ولكن يزيدهُ وضوحاً.. تارة الإنسان يعرف العنوان، وتارةً يأتيه إنسان ويشير له على الخارطة، فيزيدهُ بياناً وتوضيحاً.. ولكن رب العالمين للبعض -لا للجميع- ولحكمةٍ، كأنهُ يأخذ بأيديهم، يصطفي من عبادهِ قوما يخصهم بالرعاية.. نعم هؤلاء رب العالمين يسوقهم سوقاً، مثلا: الطفل أول مشيه، الأبوان لا يمسكانهِ؛ كي يعتمد على نفسه.. ولكن هذا التصرف فيه رعاية، وفيهِ حنان، وفيه عاطفة، وفيه حدود.. فإذا أرادَ أن يسقط، يمسكانه كيلا يقع على الأرض.. هذا الحنان، وهذهِ العناية، ربُّ العالمين يقومُ بها بالنسبةِ للبعض: يُزهد الإنسان بالحرام {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ}.. وذلك بسبب مجاهدةٍ، أو لصدقِ نيةٍ، أو لطولِ تاريخٍ بالعبودية.. فربُّ العالمين وعدنا في كتابه: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ}.. مثلا: بعض الآباء لهُ ولد بار مؤمن، وهو ما قبل البلوغ، يوقظ أباهُ ليأخذ بيدهِ إلى صلاة الجماعة، أو الجُمعة.. وله ابن آخر مكلف: يعيش في نفس المنزل، ونفس الأم هي التي تولت رعايته، ويعيش في نفس الأجواء؛ ومع ذلك يُدفع دفعاً ليأتي إلى صلاة الجمعة.. ما الفرق: لماذا رب العالمين قذف في قلب هذا الطفل عشق المسجد، وعشق الصلاة، رغمَ أنهُ دون سن البلوغ.. وذاك الابن البالغ الكبير، يحتاجُ إلى حث وقد ينفع وقد لا ينفع؟!.. هذهِ بعض أسرار القلوب!..
إن المؤمن في مواطن الإجابة، يسأل الله -عز وجل- أن يرزقه هكذا ذرية: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}؛ أي لا نريد ذرية صالحة، بل نُريد أئمة للصالحين.. البعضُ يتحسر ويتمنى لو أنه كانَ رجل دين، أو إمام مسجد، أو عالما كبيرا.. يقول: فاتني القطار، وانتهى الأمر!.. لا لم يفت القطار، إذا ربى ولده تربية صالحة، وولده هذا ربى حفيده تربية صالحة، وحفيده ربى حفيده.. بعدَ خمسة أجيال، قد يخرج مجتهدا، يسوق الأمة إلى الكمال.. والفضل يكون للإنسان الأول، الذي أوجد هذه السلسلة.. لذا، الإنسان المؤمن لا ييأس من روح الله -عز وجل-.
إن الله -عز وجل- جعل أمام الإنسان طريقين: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}، ولكن بالنسبةِ للبعض يتعامل معهُ تعاملهُ مع مريم -عليها السلام- {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ}.. السياسة هيَ السياسة، والربُ هو الرب، والمصطفي هو المصطفي.. ولكن رب العالمين يريد أمثال مريم وأمِ مريم، {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.. هُنا بيت القصيد، {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا}!.. ينبغي أن لا ينسى الإنسان هذهِ المعادلة الإلهية: القرآن الكريم في عالم التشريع، وفي عالم التربية، كقوانين الفيزياء والكيمياء: فكما أن اجتماع الهيدروجين مع الأوكسجين، لابد أن ينتج الماء؛ القرآن الكريم يقول: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا}.. المهم أن يصل الإنسان إلى مرحلة {فَتَقَبَّلَهَا}، لا يعتقد الإنسان أنه بمجرد أن يركب الطائرة، فقد وصلَ إلى المقصد.. الطائرة لا زالت في المطار، ولكن عندما يجلس الإنسان على الكرسي، وتغلق أبواب الطائرة؛ عندئذ يعرف أنهُ سيطير.. المهم أن يُتقَبل والبقية على رب العالمين.
ما الفرق بين الصراط وبينَ السبيل؟..
قد يكون الإنسان في الصراط المستقيم، ولكن في السبيل الأعوج.. الصراطُ مستقيم، ولكن السبيل ليس هو السبيل الصحيح.. مثلا: أنتَ الآن في الطريق السريع، -أنت في الصراط المستقيم- ولكن تأخذ اليسار، وبسرعةٍ بطيئة، وإذا بالسيارات خلفك يعترضون عليك، كي تأخذ الجانب الأيمن، أو الوسط، لماذا تمشي في السبيل الذي ليسَ بسبيلك؟.. أي أن الإنسان قد لا يرتكب الحرام، قد يتخذ وجهة في الحياة محللة، هو في الطريق المستقيم، ولكن ليس بالسبيل الصحيح.. مثلاً: إنسان في فصل الصيف لهُ خياران: إما أن يذهب إلى بلاد يصطاف اصطيافاً مجرداً، ويرجع إلى وطنهِ.. أو أن يدفع مالاً، ويبذل عمراً، ويأخذ عائلته إلى بلد يجمع فيها الدنيا والآخرة.. الأول لم يعص رب العالمين، الصراط المستقيم هو صراط العبودية، هل هنالك فتوى تحرم السفر إلى المصايف الجميلة؟.. الأمرُ في محله، ولكنْ هنالكَ سبيلان: خُذ السبيل الأقوى، خذ الجادة الوسطى، خُذ الأفضل {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} العدس والبصل طعام، والمن والسلوى طعام.. هؤلاء استبدلوا المن والسلوى، بثومها وعدسها وبصلها.. ولطالما استبدلنا في حياتنا المن والسلوى، بالبصلِ والعدس.
فإذن، إن الصراط المستقيم هيَّ الوجهة الحياتية، رحم الله صاحب تفسير الميزان، يأتي بمثال جميل، يقول: “فسمى العبادة صراطا مستقيما، وسمى الدين صراطا مستقيما، وهما مشتركان بين السبل جميعا.. فمثل الصراط المستقيم بالنسبة إلى سبل الله -تعالى- كمثل الروح بالنسبة إلى البدن: فكما أن للبدن أطوارا في حياته، هو عند كل طور غيره عند طور آخر: كالصبا، والطفولية، والرهوق، والشباب، والكهولة، والشيب، والهرم.. لكن الروح هي الروح، وهي متحدة بها.. والبدن يمكن أن تطرأ عليه أطوار تنافي ما تحبه وتقتضيه الروح لو خليت ونفسها، بخلاف الروح فطرة الله التي فطر الناس عليها، والبدن مع ذلك هو الروح أعني الإنسان.. فكذلك السبيل إلى الله -تعالى- هو الصراط المستقيم، إلا أن السبيل كسبيل المؤمنين، وسبيل المنيبين، وسبيل المتبعين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو غير ذلك من سبل الله تعالى، ربما اتصلت به آفة من خارج أو نقص؛ لكنهما لا يعرضان الصراط المستقيم.. كما عرفت أن الإيمان وهو سبيل ربما يجامع الشرك والضلال، لكن لا يجتمع مع شيء من ذلك الصراط المستقيم.. فللسبيل مراتب كثيرة من جهة: خلوصه، وشوبه، وقربه، وبعده.. والجميع على الصراط المستقيم أو هي هو”.
والقرآن الكريم يأتي بمثال آخر: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}، المطر هو المطر، ولكن الوديان تتسع وتضيق بحسب مساحتها.. بعض الناس قلوبهم كفنجان القهوة، يتحمل من مطر الرحمة بمقدار الفنجان، وأقل من ذلك.. وبعض الناس نفوسهم كالبحيرات، تتلقى الرحمة الإلهية (القلوبُ أوعية؛ فخيرها أوعاها).. فالإنسان يعيش على هذا الفنجان، أو على البحيرة أبد الآبدين.. الدنيا دار عمل ولا جزاء، والآخرة دار جزاء ولا عمل.. فكمية الماء التي يحملها الإنسان في الدنيا، تبقى معه إلى أبد الآبدين، يا لها من وحشة!..
ما الفرق بين الجهاد في سبيل الله -عز وجل- والجهاد في الله -عز وجل-؟..
يقول تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}، الإنسان الذي يسير على الطريق السريع، إذا نسى ومشى على اليسار بسرعةٍ، دون السرعة القانونية؛ فالسيارات التي خلفهُ ينبهونه؛ فيرجع إلى سبيله.. والقرآن الكريم يقول: نحنُ ننبهك على خطأك في السبيل {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}.. الصراط صحيح: قد يكون الإنسان عادلا، ولكن ليس على ما يرام!.. لذا ينبغي للمؤمن أن يقول في سجوده: إلهي!.. أنت كما أريد، فاجعلني كما تريد.. كي يُلقي رب العالمين في روعه ما هو الأفضل.
أيها الشاب!.. عندما تريد أن تتزوج، تذكر وصية الإمام الصادق -عليه السلام- عن إبراهيم الكرخي، قال: «قلت لأبي عبد الله -عليه السلام-: إنّ صاحبتي هلكت، وكانت لي موافقة، وهممت أن أتزوّج، فقال لي: اُنظر أين تضع نفسك، ومن تشركه في مالك، وتطلعه على دينك وسرّك».. الذي يتزوج يصبح أسيراً، ويجعل نفسه في وعاءٍ مغلق، هذا الإناء لا يتغير بسهولة.. لذا عليه أن ينظر أينَ يضع نفسه، لأن القضية قضية مصيرية!.. فليقل: يا ربِ، أنت اختر لي السبيل!.. سواء بالنسبة لمسألة الزواج، أو العمل، أو الذرية.. لأن العمل أحيانا يكون سجناً بكل معنى الكلمة، فيطلب من الله -عز وجل- أن يختار له مكاناً مريحاً برفقةٍ جيدة، وبمعاشٍّ حلال.. وكذلك الذرية قد يتعب الإنسان على ولده، ويعطيه زهرة حياته، وعرق جبينه، وعندما يُصبح في سن البلوغ، وإذا بهِ يصبح على رأس شلة فساد.. ما له وهذهِ الذُرية!.. يقول أمير المؤمنين (ع): (لا تجعلنّ أكثر شغلك بأهلك وولدك: فإن يكن أهلك وولدك أولياء الله، فإنَّ الله لا يضيع أولياءه، وإن يكونوا أعداء الله، فما همّك وشغلك بأعداء الله)؟!.. أي أعطهم الحق: لا زيادة، ولا نقصان.. فرب العالمين أشد غيرة من الإنسان على عباده وأكرم!.. وعليه، فإن الإنسان دائماً في حيرة: في الزواج، وفي الوظيفة، وفي الذُرية، وفي كل شيء كل يوم هو في حيرة.. لذا عليه أن يسأل الله -تعالى- أن يكشف له هذهِ الحيرة!..
لماذا لم يقل: جاهدوا في سبيلنا؟.. ما الفرق بين (الذينَ جاهدوا في سبيل الله)، وبين (الذين جاهدوا في الله)؟.. الذين جاهدوا في الله {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}، هذا السبيل ليس للمجاهدين الذين يقاتلون في سبيل الله.. هذه منحة خاصة، تُعطى للأخص لا للخاص.. هناك ثلاثة أقسام: المسلمون هم العموم، والمجاهدون في سبيل الله هم الخصوص، والقسم الثالث هم خاص الخاص وهم {..َالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}.. الإنسان الذي يجاهد، لا ينظر إلى الله -عز وجل- بل ينظرُ إلى طريقه.. والعالم الذي ينشر علمهُ في الكتب والمحاضرات، هذا سبيل الله، هذا علمٌ يوصل الناس إلى الله عز وجل.. والمجاهد في سبيل الله يقاتل أعداء الله، لينشر الإسلام؛ هذه كلها وجوهٌ أخرى غير وجه الله عز وجل.
فإذن، {..الَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا}، هم الذين لا ينظرون إلا إلى ربهم، ولا يبتغون إلا وجه ربهم، {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا}.. حقَ لرسول الله (ص) أن يقول بحق سيدة نساء العالمين (ع): فداها أبوها، وأم أبيها، وحبيبة أبيها.. فعلاقة رسول الله (ص) مع فاطمة سر من أسرار الوجود، فاطمة ما تحملت الحياة بعد رسول الله (ص).. عندما تدخل فاطمة -عليها السلام- الجنة، تدخل بمراسيم ملكية.. (… إذا النداء من قبل الله جل جلاله: “معاشر الخلائق!.. غضوا أبصاركم، ونكسوا رؤوسكم، هذه فاطمة بنت محمد -صلى الله عليه وآله- نبيكم، زوجة علي إمامكم، أم الحسن والحسين”.. فتجوز الصراط وعليها ريطتان بيضاوان، فإذا دخلت الجنة ونظرت إلى ما أعد الله لها من الكرامة قرأت: “بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، إن ربنا لغفور شكور، الذي أحلنا دار المقامة من فضله، لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب”.. قال: فيوحي الله -عز وجل- إليها: يا فاطمة سليني أعطك، وتمني علي أرضك.. فتقول: إلهي أنت المنى وفوق المنى، أسألك أن لا تعذب محبي ومحب عترتي بالنار.. فيوحي الله إليها: يا فاطمة، وعزتي وجلالي، وارتفاع مكاني!.. لقد آليت على نفسي من قبل أن أخلق السماوات والأرض بألفي عام، أن لا أعذب محبيك ومحبي عترتك بالنار).
فاطمة (ع) صارت فاطمة، لأنَ في قلبها هذا الحب الإلهي: (إلهي!.. أنت المنى وفوق المنى)؛ هذا معنى {جَاهَدُوا فِينَا}.. الإمام زين العابدين (ع) يقول في مناجاته: (يا نعيمي وجنتي)!.. هكذا كان الأئمة من ذرية فاطمة (ع) يناجون رب العزةِ والجلال.. لذا ينبغي للمؤمن أن يسأل ربه في ساعة الاستجابة، أن يُريه هذا الوجه.. فإذا رأى هذا الوجه، يصير في الجنة، وهو في الدنيا قبلَ الآخرة.. وقلّ من يصل إلى هذا المقام، ولكن بفضل الله -عز وجل- يصل!..
الخلاصة:
١- أن سورة الحمد جزءان: جزءٌ منها وصف لعظمة الله جل وعلا ورحمته ومالكيته، والجزء الآخر خطاب مباشر مع رب العالمين جل ذكره.
٢- أن رب العالمين جعل في كل إنسان رسولين، رسول باطني وهو الندامة بعد اقتراف الذنب،فيعزم على عدم العود، ورسول خارجي، فالله جل وعلا ما فرط في الكتاب من شيء.
٣- ( أهدنا الصراط المستقيم) تعني أن نطلب من الله جل وعلا أن يرينا هذا الطريق، ويزيده وضوحا.
٤- أن رب العالمين لحكمة يراها، يصطفى من عباده قوما يخصهم بالرعاية، فيسوقهم سوقا إليه، وذلك بسبب مجاهدة، أو لصدق نية ، أو لطول تاريخ بالعبودية.
٥- أن على المؤمن في مواطن الإجابة أن يدعو الله عز وجل أن يهبه ليس فقط ذرية صالحة، بل أن يجعل ذريته أئمة للصالحين.
٦- أن الصراط المستقيم هو صراط العبودية، والإنسان قد يكون على الصراط المستقيم، لكنه في السبيل الأعوج، فهو قد لا يرتكب حراما لكنه لا يتخذ السبيل الصحيح.
٧- أن الجهاد تارة يكون في سبيل الله جل وعلا وفيه لا ينظر المجاهد إلى الله جل ذكره بل إلى طريقه،وتارة يكون الجهاد في الله تعالى ذكره عندما لا ينظر الإنسان إلا إلى ربه، ولا يبتغي إلاّ وجهه جل وعلا، لأن في قلبه هذا الحب الإلهي.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.