Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

– إن المؤمن لا يتكامل إلا بقيام الليل!.. فـ(الذي لا سحر له، لا فجر له)!.. والفجر هنا ليس الفجر الأفقي، وإنما الفجر الأنفسي.. فكما أن في عالم الطبيعة، لابد من السحر قبل الفجر وقبل بزوغ الشمس، فكذلك في عالم الأنفسِ أيضاً، لابد من سحر باطني قبل الوصول إلى الفجر، وبزوغ شمس المعرفة.. لذا فإن المؤمن يتخذ ساعة السحر من ليلة الجمعة للحديث والمناجاة مع رب العالمين.. فالمؤمن في جوف الليل، لا قرار له، إذ لا يمكنه أن ينام دون أن يُعين سويعات أو دقائق، للحديث مع ربه.

– إن جوف الليل مجال للحديث العاطفي والعفوي مع رب العالمين، حتى لو أن الله -عز وجل– رفع الكلفة عن عباده.. فالنبي الأكرم –صلى الله عليه وآله وسلم– لم يكن ملزماً في أصله بصلاة الليل، ولكن الله -عز وجل- أراد لنبيه أن يتميز عن باقي الأمة في هذه الوقفة الليلية!.. والإنسان في شهر رمضان من طبيعته السهر!.. فمن الحري أن يحول هذه الليالي إلى محطات أنسٍ، فإذا انتهى الشهر الكريم، لا يمكنه إلا وأن يستمر في هذا المنهج الإلهي الرباني.

– إن شهر رمضان شهر التعارف والمصالحة مع الله -سبحانه وتعالى-، والقرآن الكريم بالنسبة إلى عامة الناس، يقول: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.. فلنطبق هذه الآية في تعاملنا مع رب العالمين!.. فرب العالمين يقول: إذا كان هناك جفاء بين طرفين، وكان الدفع بالتي هي أحسن.. فإن هذا الجفاء يتحول إلى ودٍ، وإلى علاقةٍ حميمةٍ!.. لم نجد أحدا من المفسرين يربط بين هذه المسألة، وبين الصداقة والأنس، والحالة الحميمة مع رب العالمين.. ولكن من باب الاستلهام من الآية، لا التفسير: كما أن الدفع بالتي هي أحسن، يقلب التنافر إلى تجاذب، والتباعد إلى تقارب.. فنفس هذه النظرية سارية في علاقتنا بالله -سبحانه وتعالى-.. صحيح أن رب العالمين لا يُعادي أحداً جُزافاً، ولكن علاقتنا بالله -عز وجل- ليست بالعلاقة النموذجية!..

– إن هذه العبارة منقولة عن الإمام أمير المؤمنين -عليه السلام- في حديثٍ فيه كثير من وخز الضمير، وتعذيب الوجدان.. عليٌّ –عليه السلام– وهو صاحب البلاغة، يريد أن يُثير فينا المشاعر عندما يقول: (ليس من أحد، إلا وفيه حُمقة فيها يعيش)، ويقول الإمام الحسن -عليه السلام-: (ما أعرف أحدا، إلا وهو أحمق فيما بينه وبين ربه)!.. والإنسان الأحمق، هو الذي لا يُحسن التصرف: كأن يذهب الإنسان إلى السوق برأسِ مالٍ وفير، ويخرج بعد سنة ولم يربح فلساً واحداً!.. هذا الإنسان لم يخسر، ولكنه لم يربح بما له من رأس مال!.. ومن الطبيعي أن نصفه: بأنه لا تدبير له!.. ونحن في علاقتنا بالله -عز وجل- هكذا!.. فرب العالمين في بعض الآيات يتكلم عن علاقته بالخلق، فيقول: {مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا}، هذه العبارة نقرأها قراءة عابرة، ولكنها عتاب من رب العالمين، وكذلك عندما يقول في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ}، وفي آية أخرى يقول: {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}، لو أن الإنسان اتخذ هذه الفقرة عبارةً للمناجاة، والبكاء بين يدي الله -عز وجل- لكان الأمر في محله!.. مثلا: لو أتى الأب إلى المنزل، وجمع أولاده وزوجته وبناته، وقال بعبارةٍ بليغةٍ: أنا هذا العمر معكم أكدُ صباحاً ومساءً، وما عرفتم قدري!.. أو لا يتعالى بكاء أهل المنزل، لهذا العتاب الأبوي؟.. والله -عز وجل- يقول: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون}.

فإذاً، إن على المؤمن في هذا الشهر الكريم، أن يحاول إيجاد علاقة متميزة مع الله -عز وجل- حتى يكون مصداقاً لهذه الآية {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.

– إن المؤمن في عصر الجمعة، تنتابه حالة متميزة عن بعض الساعات والأيام.. ففي عصر الجمعة، لابد وأن تكون له وقفة مع ولي أمره، وصاحب زمانه، ذلك الإمام الذي يقول كما في ذلك التوقيع الشريف: (إنا وإن كنا في مكاننا النائي، حيث اختاره الله لنا.. إنا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يغرب عنا شيء من أموركم)، ولولا هذه الرعاية يقول –عليه السلام– (لولا ذلك لنزل بكم اللأواء، واصطلمكم الأعداء)؛ أي لولا هذه العناية الإلهية الجارية على يد أوليائه، لكنا نحن فرقة من الفرق البائدة!.. حيث أن كل العرب زالت في هذا التأريخ وبادت: كالخوارج، والمرتزقة، والواقفية، وغيرهم.. ولولا هذه الرعاية لما كنا فيما نحن فيه، والله -عز وجل- ادخرنا لأن نكون من الحلقة المحيطة به –صلوات الله وسلامه عليه– إذا آن ميعاده، وحان وقت قيامه، واستند إلى جدار الكعبة منادياً، ومطلقاً تلك الصرخة الخالدة: (ألا يا أهل العالم إن جدي الحسين قتلوه عطشانا!.. ألا يا أهل العالم إن جدي الحسين طرحوه عريانا!.. ألا يا أهل العالم إن جدي الحسين سحقوه عرينا)!.. فالمؤمن لا بد أن يجدد هذه العلاقة مع ولي أمره في عصر الجمعة!..

– ليس هناك اثنينية بين خط الولاية، وبين خط التوحيد.. فهؤلاء كسبوا ما كسبوا، ووصلوا إلى ما وصلوا إليه؛ ببركة عبوديتهم لله –سبحانه وتعالى-.. فهذا عليٌّ –عليه السلام– عندما سئل: أنت أفضل أم محمد؟.. قال: (أنا عبد من عبيد محمد (ص)!.. فهو يرى نفسه عبداً للنبي (ص)، فكيف بعلاقته برب النبي؟!.. وبالتالي، فإن ذكر الإمام (ع)، وتذكره، والدعاء له.. هذا لا ينافي منهج التوحيد أبداً.

– إن الإنسان كلما زاد قرباً من الله -عز وجل-، زاد قرباً من عالم الولاية.. فهذا الأمر طبيعي جداً.. وبعض الأوقات، الله –عز وجل– من باب إظهار عظمة خط الولاية والتوحيد، يأمرنا بإكرام من تجسد فيهم هذا الخط؛ إكراماً لتلك الروح الموحدة.. فالله -عز وجل- خلق آدم (ع) من طين لا قيمة له {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ}!.. وقد أمر الملائكة بالسجود لآدم عندما نفخ فيه الروح {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ}؛ أي إنما جعل آدم (ع) مسجوداً للملائكة لا معبوداً، عندما نفخ فيه هذه الروح القدسية التي تحملتْ أعباء النبوة.

– إن المؤمن الذي له مقدار من الشفافية الروحية، يعيش عصر الجمعة ساعة ثقيلة من أثقل ساعات الأسبوع: حالة من حالات الحزن، والبؤس، والوله.. والبعض يسأل: لماذا هذا الثقل في هذه الساعة الحزينة من يوم الجمعة، التي لا نكاد نجد ساعة أشد حزناً منها؟.. إن على الإنسان أن يكتشف السبب، لأن هذا ليس فيه آية.. فالقضية قضية وجدانية، والإنسان بالتدبر والتأمل، من الممكن أن يكتشف شيئاً من هذا السر.. ولعل -والله العالم- من أسرار هذا الحزن، وهذا الوجوم، وهذا الضيق الذي يصل إلى حد الاكتئاب.. أنه اليوم المتوقع فيه ظهوره، ولكن ينتهي اليوم من دون فرج الإمام!.. فينتهي هذا اليوم، ولا يرى أثراً للفرج؛ فتعلوا عليه الكآبة والحزن.. ولهذا بعض الذين تشرفوا بلقائه –صلوات الله وسلامه عليه– تمنى أن يموت بعد اللقاء.. وذلك لسببين: أولا: لعدم احتمال العيش مع الغافلين، بعد أن رأى تلك الطلعة البهية.. وثانيا: لِما يرى في وجه الإمام –عليه السلام– من الهموم الناتجة من حمل هم هذه الأمة.. فأحدنا يرى أزمة في عائلته، أو في دائرته القريبة، كم يحمل من الهم؟!.. فكيف بذلك القلب الذي في كل يوم تأتيه الأخبار المنغصة من شرق الأرض وغربها؟!.. فهو كالنبي (ص) الذي تألم لوجود عمه في الأسر.. فكيف بالإمام -صلوات الله وسلامه عليه– عندما يرى من المآسي ما لا يتحمل، وهو مكتوف اليدين.

– إن من يريد أن يعيش ويستشعر حقيقة معايشة الإمام –عليه السلام– لوضع الأمة، عليه أن يتذكر هذا المثال: يأتي والدٌ له ذرية صالحة وهم صغار ضعاف، لا حول لهم ولا قوة.. وإذا بظالمٍ يأتي ويطرد هذا الأب الشفيق من ذلك المنزل، ويُخرجه من منزله، ويحتل ذلك المنزل.. ويتراءى للأولاد أنه هو الوالي والمؤدب، وهو الأب الشفيق.. وهذا الوالد يجلس على باب البيت، ويسمع أنين أولاده، ويرى تضورهم جوعاً، ويرى بكاءهم ليلاً ونهاراً.. وكلما أراد أن يدخل هذا المنزل، وإذا بمانعٍ يحول بينه وبين ذلك.. يا تُرى ما هي مشاعر هذا الأب، الذي أُخرج من داره، وحيل بينه وبين أولاده، ولم يُؤذن له لنصرتهم ونجدتهم؟!.. هذا المثال مثال عاطفي، ومثير للبكاء مع أنه صورة خيالية!.. فكيف بالإمام –عليه السلام–؟!.. ألم يقل النبي (ص): (أنا وعلي أبوا هذه الأمة)؟!.. وبالتالي، فهو أبو هذه الأمة، شاءت الأمة أم أبتْ!.. وقد أُخرج من داره بعد استشهاد أبيه العسكري (ع).

– إن رب العالمين في زمان الغيبة، لم يأذن له بالتصدي لأمر هذه الأمة.. فهو يرى آلام الأمة، ولا يملك إلا الدعاء في جوف الليل.. وقد رؤي -صلوات الله وسلامه عليه- كما يُنقل، وهو يدعو بدعاء بليغ ويقول: (اللهم!.. اغفر ذنوب شيعتي)!.. ذكر في القرآن الكريم بأن الأعمال تُعرض عليه –صلوات الله وسلامه عليه– {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}، وورد في الروايات أن الأعمال تعرض عليه كل اثنين وخميس.. وقد نقل بأن الإمام (ع) في هذين اليومين يُبتلى بالأذى، ويعيش الألم والمرارة، بسبب النظر إلى الملفات التي لا تريحه من شيعته ومحبيه، وخاصة الذين يدعون الانتساب إليه، ويلهجون بذكره في الملأ العام.. فإذا خلوا، عملوا ما يُدمي القلب ويندى له الجبين!..

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.