Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

لو كان في خزانة جواهر رب العالمين، سورة أنسب من السبع المثاني؛ لجعلها القرآن افتتاحا للكلام معه.. إذ جعل السورة جزءاً لا يتجزأ من الصلاة، فلا صلاة إلا بفاتحة الكتاب.. فما هو الحمد؟.. يعبر عن الحمد في مقام التفسير: بأنه الثناء على الجميل الإختياري.. إذ أن هناك جمالا في عالم الطبيعة، ولكن صاحب هذا الجمال ليس له أي اختيار، كاللؤلؤة الجميلة، فتقول: مدحت اللؤلؤة؛ لأن المدح يكون للجميل الإختياري، والجميل غير الاختياري.. بينما الحمد يكون للجميل الإختياري، وهو ذلك الجميل الصادر من الله سبحانه وتعالى.

إن الـ(ألف) والـ(اللام) في كلمة (الحمد) هي (ألف) (لام) الجنس، فجنس الحمد لله -عز وجل- إذ أن كل ثناء متوجه إليه.. والثناء المتوجه للمخلوق -سواء كان جميلاً اختياريا: كأفعال العباد، وصفات النبي (ص) الذي هو على خلق عظيم وأفعاله.. أو جمال الطبيعة، أو ماشابه ذلك- كله يعود إلى الله عز وجل؛ لأن هذا الجمال منتسب إلى من خلق تلك الذوات، بما فيها من جمال، أو بما فيها من قابليات الحركة نحو الجمال.. وهنالك عبارة جميلة في هذا المجال، يقول الله -سبحانه وتعالى- بأنه أحسن خلق كل شيء: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}.. فإذن، إن الطبيعة -سواء كانت الجامدة، أو الناطقة- خلقها الله -عز وجل- خلقا حسناً جميلاً.. فإذا رأينا مظهراً من مظاهر الفساد في الوجود، أو إذا رأينا النفس منحرفة عن الجادة؛ فإن ذلك بسوء اختياره.

إن الله -عز وجل- خلق الإنسان على فطرة سليمة، ولولا هذه المؤثرات الخارجية؛ لبقي في طريق مستقيم {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}، فلم تقيد الآية الأحسنية في التقويم في عالم الأبدان.. إن البعض يفسر الآية: على أن الله -عز وجل- خلق الإنسان كموجود مادي في أحسن تقويم.. والحال بأنه في أحسن تقويم، حيث يقول تعالى: {صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً}، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}.. وقال رسول الله (ص): (كل مولود يولد على الفطرة؛ فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه).. فإذن، إن رب العزة والجلال، قد خلق كل شيء جميلا، وفي طريق التكامل والتقرب إليه.. إلا أن الإنسان بسوء اختياره، ينحرف عن الطريق، ويفسد ما أصلحه الله -عز وجل- لأجله.

كذلك من الأبحاث الموجودة في الحمد، يلاحظ بأن القرآن الكريم، ينسب التسبيح بحمده لكل موجود {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ}؛ فكلمة (شيء) نكرة في سياق النفي؛ بمعنى: ما من شيء إلا يسبح بحمده.. والنكرة في سياق النفي تفيد العموم؛ أي كل شيء في عالم الوجود، يسبح بحمد الله عز وجل.. هنا وقع الخلاف بين العلماء بأنه: ما هو المقصود بتسبيح الجمادات؟.. إن البعض قالوا: إنه تسبيح تكويني، وتسبيح ذاتي.. فهذه الموجودات من الجمادات والحيوانات -وهي غير الأمور العاقلة بوجودها وبتكوينها- تدل على وحدانية الله عز وجل، وتدل على حكمته، وفاطريته، وغير ذلك من المعاني المنتسبة إلى الله عز وجل، وهذا معنى واضح جداً.. والبعض يقول: لماذا جعلنا التسبيح هنا أو التحميد، بمعنى التسبيح التكويني، فهذا التسبيح التكويني نفقهه، ولو بشيء من التوضيح؟.. والحال بأن الآية تقول: {لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}؛ معنى ذلك أن هنالك حركة شاعرة، وحركة شعورية في الموجودات، ونحن لا نستوعب هذه الحركة، بما أوتينا من حواس.

يقول البعض: إن كلام النملة مع سليمان -عليه السلام- وكذلك الهدهد، إنها حركة خاصة بنملة وبهدهد معين.. والبعض يعمم ويقول: ما الداعي؟.. أو ما الموجب لأن نحصر هذا الفهم وهذا الشعور، الذي ينعكس من خلال كلام النملة والهدهد، بنملة وهدهد النبي سليمان عليه السلام؟!.. وإنما هو شعور ينطق به كل حيوان.. فسليمان -عليه السلام- أوتي منطق الطير، فأخذ يفهم ما تتكلم به الحيوانات وهذه الحشرات.

فإذن، إن هنالك مسلكين في الحمد: حمد تكويني، وحمد شعوري لا يفقه الإنسان أبعاده.. وبالتالي، فإن الإنسان عندما يتخلف عن ركب الحامدين: كالنمل والهدهد والحجر وما شابه ذلك؛ فهو إنسان مسكين.. وإذا رُفع عنه الحجاب في يوم من الأيام، فيومئذ يرى كل ما في الكون يسبح بحمد الله -عز وجل- وهو في حالة من الغفلة.

رأى أحد المعصومين -عليهم السلام- إنسانا يغني على دابة، فعاتبه لقلة حيائه قائلا: (أما يستحي أحدكم، أن يغني على دابته وهي تسبح)؟!.. أي أنت تستخدم دابة في تنقلك، وهذه الدابة تسبح بحمد الله -عز وجل- بمقتضى قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ} وأنت تغني على ظهر هذه الدابة؟!.. ولو أخذنا هذه الرواية مقياساً؛ لوجب علينا أن نلوم أنفسنا كثيراً.. حيث أن الذين يرتكبون المعاصي: على الأرض، وعلى الفراش، وفي أي مكان؛ يرتكبونها على أشياء تسبح بحمد الله!.. أما يستحون من تلك الجمادات، التي تسبح بحمد الله -عز وجل- وهم مشغولون بالمعصية؟!..

إن مسألة الحمد والثناء على الله -عز وجل- ذلك الثناء المستوعب، وذلك الثناء الذي يقترن مع حالة من الخجل، والإحساس بعظمة رب العالمين؛ إنه أمر مهم.. وفي روايات المعصومين -عليهم السلام- يعطون وزناً كبيراً للحمد.. عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (التَّسبيح نصف الميزان، والحمد لله يملؤه).. لقد جعل كلمة التهليل -كلمة الإسلام- نصف الميزان، أما الحمد، فهو يملأ الميزان.. لأن الحامد مهلل أيضاً، فلولا توحيده لله -عز وجل- لما وصل إلى رتبة الحمد.

وقال أيضا صلّى الله عليه وآله وسلم: (قول العبد: الحمد لله؛ أثقل في ميزانه من السموات السبع، والأرضين السبع).. وقال صلّى الله عليه وآله وسلم: (لو أن الدنيا بحذافيرها في يد رجل من أمتي، ثم قال: الحمد لله، لكان الحمد لله أفضل من ذلك)؛ لأن ما أعطي فانٍ، وكلمة الحمد باقية في ميزان أعماله.

والتحميد ليس محصوراً بهذه الألفاظ، أي أن يقول الإنسان: الحمد لله -مئة مرة، أو ألف مرة- بل لا بد وأن يقترن ذلك بحالة شعورية من الإحساس بعظمة الرب، وعظيم منه عليه، وتقصيره بين يدي الله عز وجل.. عندئذ يقع الحمد موقعه من قلب الإنسان؛ فيعيش حالة شعورية من الخضوع والخشوع، ويفتتح سورة الحمد بقوله: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.