Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾.. هذه الآية أيضاً من الآيات المهمة في كل القرآن الكريم، فآيات العقائد أهم من آيات الأحكام!.. حيث أن الأصول مقدمة على الفروع، والآيات التوحيدية التي تربط الإنسان بالله -عز وجل-؛ مقدمة على آيات التشريعات الجزئية.

﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّه..﴾.. إن الإنسان عندما يريد أن يُفهم معنى عميقاً؛ فإنه يقول: افهم ما أقول!.. أو: اعلم!.. أو: انتبه!.. وفي كل لغات العالم، هناك صيغ تدعو الإنسان للفت النظر!.. وهنا رب العالمين يريد أن يقول معنى واضحاً بحسب الظاهر!.. فنحن كلنا أسلمنا، ولكن أسلمنا بتبعية الآباء، لذا ليس من المفروض أن نشهد الشهادتين، حيث أن الشهادة بالوحدانية أمر واضح جداً!.. فإذن، لمَ يقول: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ﴾؟..

إن هناك معنى سطحياً، فالإنسان غير الناطق بالعربية، قد يقول هذه الكلمة، وهو لا يعلم تفاصيلها!.. وهناك معنى دقيق، لو وصل الإنسان إلى ملكوت هذا المعنى؛ لتغيرت حياته رأساً على عقب!.. وعدم دركنا لهذا المعنى، أوجب لنا: القلق، والاكتئاب، والاعتماد على الغير، والثقة بالغير.. فالتوحيد بكلمة واحدة: أن لا ترى في الوجود مؤثراً إلا هو.. عندما يرى الإنسان ملكاً من الملوك، أو غنياً من الأغنياء، فليتذكر قوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء﴾؛ فهذا الأمير أو هذا الملك أو هذا الرئيس، قبل أن يصبح رئيساً، رب العالمين أمضى ذلك، ولم يقل: ملك المؤمنين، فالجبابرة والفراعنة آتاهم رب العالمين الملك.. ﴿وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء﴾؛ يكفي أن يقبض روحه ملك الموت، فيزول عنه كل شيء.. ﴿وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء﴾؛ رب العالمين هو الذي يجعل من يشاء عزيزاً، ويجعل من يشاء ذليلاً.. ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾؛ هنا بيت القصيد!.. أي إن كنت تريد الخير، أو التوفيق، أو الذرية الطيبة، أو رقة القلب، أو..الخ؛ كل ذلك بيد الله -عز وجل-.. لذا، فإن المؤمن يسأل ربه كل ما يريد: الفقير يقول: يا رب!.. أعطني ملكاً ومالاً؛ كي أبني به بيتاً لك!.. والأعزب يقول: يا رب!.. هب لي زوجة صالحة، تلد لي ناصراً من أنصار ولي أمرك.

﴿.. وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ﴾.. إن هذه الآية بليغة، وفيها تساؤل: فما معنى ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ﴾؟.. إن النبي (ص) على رأس المعصومين، ولئن شككنا في عصمة الأنبياء السلف غير أولي العزم، فلا نشك في عصمة أولي العزم؛ فهؤلاء لهم عزيمة، ولهم إرادة قوية.. يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ وإن كان اعتقادنا أن الكل معصوم!.. فإذن، ما هو هذا الذنب الذي يقول الله -عز وجل- عنه ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ﴾، وفي سورة “الفتح” يقول تعالى: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾.. لابد أن نمتلك إجابة صريحة، وإلا وقعنا في إشكال في كل هذه الآيات!.. هناك عدة احتمالات:

المعنى الأول: ترك الأَولى.. وهو المعروف على ألسنة الخطباء وغيرهم، يقولون: الذنب هنا بمعنى؛ ترك الأولى!.. أي هناك معصية، وهناك مخالفة لأمر؛ ولكنه ليس أمراً مولوياً.. مثلاً: عندما يقول الأب لولده: لا تفعل!.. فهو هنا يأمره وينهاه.. ولكن عندما يقول الطبيب للمريض: لا تفعل!.. فهو هنا يأمره وينهاه لمصلحته!.. فرب العالمين عندما نهى آدم -عليه السلام- عن الاقتراب من الشجرة، أي أن مصلحته في أن لا يأكل منها.. لا بمعنى: التحريم؛ كتحريم الخمر، ولحم الخنزير.. هذا الحكم يختلف عن هذا الحكم، ولكن “حسنات الأبرار؛ سيئات المقربين”.. وهناك في بعض النصوص يبدو أن يوسف -عليه السلام- غفل عن احترام يعقوب -عليه السلام- كما ينبغي، ولكن ليس لحد الحرمة؛ فطار نور النبوة من صلبه.. عن أبي عبد الله -عليه السلام- أنه قال: (لما تلقى يوسف يعقوب، ترجل له يعقوب، ولم يترجل له يوسف، فلم ينفصلا من العناق حتى أتاه جبرائيل فقال له: يا يوسف، ترجل لك الصديق ولم تترجل له؟.. ابسط يدك!.. فبسطها، فخرج نور من راحته، فقال له يوسف: ما هذا؟.. قال: لا يخرج من عقبك نبي).. يوسف -عليه السلام- لم يرتكب خلافاً، حاشا ليوسف الصدّيق أن لا يحترم أباه!.. ولكن كان متوقعاً أن يحترمه احتراماً زائداً، فرب العالمين جعل سلب النبوة من ذريته، مقابل هذا العمل.

المعنى الثاني: بلحاظ الأمة.. إن النبي (ص) يمثل الأمة وكأنه مرآتها، وعندما ترتكب الأمة الذنب، كأن النبي (ص) هو الذي ارتكب الذنب، باعتبار أنه أبو هذه الأمة!.. مثلاً: عندما يخرج طفل من المنزل دون سن البلوغ، ويكسر زجاج الجار؛ فإن الأب هو الذي يعتذر من الجار، ويصبح خجلاً منه.. رغم أن الطفل هو الذي ارتكب الخلاف، ولكن هذا الطفل يُمثّل الأب، لذا فهو الذي يعتذر.. وإن قال الجار: غفرت لك!.. فالعبارة مقبولة باعتبار ولده!.. فإذن، إن رب العالمين يغفر للنبي (ص) باعتبار أمته العاصية.

المعنى الثالث: بمعنى القصور.. هناك خطأ عن تقصير؛ وهذا لا يليق بالأنبياء.. وهناك خطأ عن قصور؛ بمعنى أن الإنسان مهما بالغ في العبادة، لا يعبد ربه حق عبادته.. فقد روي عن النبي (ص) أنه قال: (ما عبدناك حق عبادتك، وما عرفناك حق معرفتك)!.. ومن هنا ما المانع أن يقول الأنبياء -لا عن تقصير-: يا رب نحن مهما بالغنا، ما أعطيناك حقك، فنحن نستغفرك من هذا الأمر؟!.. مثلاً: لو أن هناك ضيفاً عزيزاً حل على أحدهم، فقدّم له كل ألوان الضيافة، ولكن المضيف يرى أن هناك ضيافة أرقى!.. في ساعة التوديع يقول للضيف: سامحنا على القصور لا على التقصير؛ أي نحن مهما بالغنا، لم نؤدِّ حقك كما ينبغي.

المعنى الرابع: لجلالة المقام.. وهذا معنى أخلاقي وعرفاني.. فالإنسان عندما يرى العظمة الإلهية -عظمة الربوبية-؛ فإنه يستغفره تذللاً؛ لا توبة!.. لأنه ليس هناك من تقصير!.. وذلك كمثل إنسان يلتقي بمرجع التقليد لأول مرة، فهو لم يعاشره، ولم يقصر في حقه، وليس هنالك أي علاقة بينه وبين ذاك المرجع سوى التقليد.. ولكن أول ما يراه، لهيبته ولجلالة قدره؛ يأخذ بالاعتذار إليه، رغم أنه لم يبدر منه أي خطأ؛ ولكن جلالة المقام تستدعي هذا التعبير.

المعنى الخامس: الذنب الذي في بال الناس.. يقول تعالى في سورة الفتح: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾؛ هنا الذنب الذي في بال الناس، لا الذنب الواقعي.

﴿.. وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾.. النبي (ص) لم يمت، ولم يلتحق بالمعدومات، بل هو حقيقة حاضرة، انتقل من مكان إلى مكان.. وعليه، فما المانع أن يذهب الإنسان إلى الروضة، ويقول: يا رسول الله، أمرك ربي أن تستغفر لنا، فاستغفر لنا!.. ليس هذه ببدعة، وليس هذا بشركٍ، فأولاد يعقوب -عليه السلام- طلبوا من أبيهم أن يستغفر لهم، ﴿قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، وإبراهيم الخليل -عليه السلام- استغفر لآزار ﴿قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾!.. فإذن، إن هذه الآية دليل على أنه يجوز التوسل بالنبي (ص)، ليستغفر لنا حياً كان أو ميتاً.

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.