بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}.
{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}.. ليس المراد بالنصر والفتح -كما في تفسير الميزان- صلح الحديبية، الذي سماه الله -تعالى- فتحاً، إذ قال: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا}، لعدم انطباق الآية الثانية بمضمونها عليه.. وأوضح ما يقبل الانطباق عليه النصر والفتح المذكوران في الآية، هو فتح مكة الذي هو أم فتوحاته -صلى الله عليه وآله وسلم- في زمن حياته، والنصر الباهر الذي انهدم به بنيان الشرك في جزيرة العرب.. ويؤيده وعد النصر الذي في الآيات النازلة في الحديبية: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا}.. فإن من القريب جداً أن يكون ما في الآيات وعداً بنصر عزيز، يرتبط بفتح الحديبية، وهو نصره -تعالى- نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- على قريش حتى فتح مكة بعد مضي سنتين من فتح الحديبية.. وبهذا الفتح فتح باب من أبواب عزة الإسلام، ففي فتح مكة ضرب المسمار الأخير في تابوت الوثنية، في شبه الجزيرة العربية.
الدروس العملية:
١. البناء على التدرج: إن رب العالمين بناؤه على التدرج.. فرب العالمين خزائنه بين الكاف والنون، “يقول للشيء: كن!.. فيكون”.. فإذن، لماذا خلق السموات والأرض في ستة أيام؟.. نحن ننتظر مواد البناء حتى نبني، فإذا لم تأت هذه المواد يتعطل البناء.. أما رب العالمين، فقد تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً!.. رب العالمين كان بإمكانه عندما نزل النبي (ص) من غار حراء، أن يفتح له مكة بطريقته الخاصة، ألم ينزل الملائكة المسومة في معركة بدر؟!.. فما المانع أن يأتي النبي (ص) مع بلال وعمار وياسر، وتنزل معهم الملائكة المسددة، ويحتلون مكة المكرمة وانتهت القصة؛ وعندئذ يستغنون عن الهجرة إلى الحبشة، والمدينة، وغيرها؟!.. ما ذلك إلا لأن رب العالمين بناؤه على التدرج.
٢. الصبر: إن الذي يريد الفتوحات الربانية، لابد أن يكون صبوراً، وواسع الصدر.. فالبعض يتدين: يحضر المسجد، ويصلي جماعة، ولعله يقيم الليل أربعين يوماً، أو شهراً، أو شهرين، ولعله سنة؛ ولا يرى أموراً متميزة.. بينما طريق رب العالمين، يحتاج إلى صبر وإلى مثابرة.. فموسى (ع) استجيبت دعوته بعد أربعين سنة، يقول تعالى: {..قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا}.. ألا نقرأ في الدعاء: (ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي، لعلمك بعاقبة الأمور).
فإذن، إن الذي يريد الفتوحات الإلهية في عالم الأنفس، لابد أن يصبر كصبر النبي (ص).. فالنبي (ص) فتحت له مكة في أواخر أيام حياته، وإلا فإن النبي (ص) كل حياته كانت محناً.. فقط بعد فتح مكة، استطاع المسلمون أن يتنفسوا الصعداء إجمالاً.. لذا ينبغي للمؤمن أن يسأل ربه الفتح، إذا فتح الباب جاءت البركات.. هذه الأيام السدود عندما تفتح أبوابها، يأتي سيل من المياه، وإذا بالوادي الذي كان جافاً، بلحظة واحدة يمتلئ بالماء.. رب العالمين إذا فتح أبواب اللطف، ففي ليلة واحدة تفتح الأبواب.
{وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}.. الفوج: الجماعة المارة المسرعة، وجمعه أفواج.. الهداية فيها تدخّل رباني، فرب العالمين هو الذي يزين الإيمان في صدور عباده.. لذا الذي يشتكي من ولد غير مطيع، أو من بنت غير مطيعة، أو من زوجة عاصية؛ فمع السعي ليسأل رب العالمين أن يقلب القلوب، فـ(قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن).. إن شاء قلب النفوس، وهذه حقيقة قرآنية، يقول تعالى: {..ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}.. التسبيح؛ تنزيه.. ولكن لماذا التسبيح والتنزيه هنا؟.. النبي (ص) عملياً نزّه البيت الحرام من الأوثان، وعلي (ع) هو الذي صعد على كتف النبي (ص) وحطم الأصنام.. فعلي (ع) الذي كرّم الله -عز وجل- وجهه عن السجود لصنم، كان هو المرشح لتكسير الأصنام.. إن فتح مكة طاعة، وفتح رباني؛ فما موقع الاستغفار هنا؟.. هذا محيّر، فليس كل من يفسر القرآن، ملم بكل أسرار القرآن.. وكذلك بالنسبة إلى سورة الفتح: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا}؛ فما دور الاستغفار مع الفتح؟.. والله العالم!.. كأن الإنسان عندما تأتيه الفتوحات الربانية، عليه أن يستشعر ضعفه دائماً وأبداً، فلا يقول: الآن فتحت لي الأبواب، فأنا بألف خير!.. بل عليه أن يعود متذللاً إلى ربه.. فالله -تعالى- يقول: يا رسول الله، فتحنا لك مكة.. فاليوم هو يوم المرحمة، والذين كانوا يؤذونه بالأمس، وقعوا داخرين.. ولكن عليك أن تستغفر الله عز وجل.. نعم، هكذا طبيعة المؤمن، فهو مع ربه دائماً: يعيش التذلل في المعصية، وفي الطاعة: في المعصية يعيش التذلل؛ لتقصيره.. وفي الطاعة يعيش التذلل؛ لأن هذه منحة من الله -عز وجل-.. في صدر السورة يقول: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} يا رسول الله، هذا النصر وهذا الفتح فتح إلهي، لذا عليك أن تتذكر هذا المعنى!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.