Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

إن سورة الفلق هي من السور الغامضة في القرآن الكريم، رغم أننا نلهج بها، لتعويذ أبنائنا من الآفات.. فسورتا الفلق والناس معوذتان، وكثيراً ما كان النبي (ص) يعوّذ بهما الحسن والحسين (ع).. والمعروف أن هاتين السورتين لدفع الشرور، وخاصة الشرور اللامرئية.. فالناس هذه الأيام يخافون من السحر، ومن العين، ومن هذه الأمور.. إن كان الإنسان يخاف، فعليه بالمعوذتين، ولا داعي لبعض الطلاسم المجهولة، وبعض الأدعية غير المعروفة.. بل عليه بما في كتاب الله -عز وجل-، ومن أصدق من الله حديثاً؟..

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}..

{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}.. {قُلْ}: كان بإمكان رب العالمين أن يقول لنا: “عذ برب الفلق” فلماذا قال: {قُلْ}؟.. هذه القلاقل الأربعة: الكافرون، والتوحيد، والفلق، والناس؛ فيها {قُلْ}.. والله العالم!.. لعل فيها مزيداً من التأكيد.. فالقرآن كله مبلغ، كل السور {قُلْ}؛ ولكن في خصوص هذه السور الأربع، فيها قول إضافي.. وهذا يدل على التأكيد الكثير!.. {أَعُوذُ}: العوذ هو الاعتصام، والتحرز من الشر، بالالتجاء إلى من يدفعه.. و{الْفَلَقِ}: عبارة عن الفجر؛ لأنه المشقوق من الظلام، عندما يدخل الصبح يشق الظلام، فيخرج منه النور.. ولكن لماذا ذكر رب العالمين “الصبح” من بين كل مظاهر الطبيعة؟..

إن رب العالمين هو رب الخسوف والكسوف، والزلازل والبراكين، و..الخ.. ولكنه ذكر الصبح -والله العالم-!.. لعله من باب أن الفجر فرج بعد شدة.. فالليل فيه شدة، لعدة أسباب، منها: أنه مظلم، وفيه مخاطر: فالحيوانات المفترسة تخرج في الليل لاصطياد فريستها، واللصوص يسرقون في الليل.. والإنسان لا يرى طريقه في الليل، هذه الأيام الليل كالنهار، ولكن قبل سنوات كثيرة قبل الكهرباء، كان كل إنسان يبقى في مكانه لا يتحرك، إلا إنْ حصل على إضاءة.. وبالتالي، فإن كل شيء يسكن في الليل، يقول تعالى في كتابه الكريم: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا}.

فإذن، إن الصبح مثال للفرج بعد الشدة!.. وعليه، فهل الذي خلق الصباح والنهار، عاجز أن يقلب ظلام وجود الإنسان إلى نهار؟.. وهل عاجز أن يحول ظلامات الأحوال إلى نور الأحوال؟.. (يا مقلب القلوب والأبصار!.. يا مدبر الليل والنهار!.. يا محول الحول والأحوال!.. حول حالنا إلى أحسن الحال)!..

{مِن شَرِّ مَا خَلَقَ}.. البعض يقول: هذه آية غريبة!.. هل كل ما خلقه الله -عز وجل- فيه شر؟.. بالطبع لا، ولكن المقصود: من شر من يحمل شراً من: الإنس، والجن، والحيوانات، وسائر ما له شر.. لا من كل مخلوق؛ وإلا الأنبياء والمرسلون مخلوقون فأين الشر؟.. فإذن، من شر ما خلق مما فيه شر: كالحيوانات، والحشرات المؤذية: كالجراثيم في عالم الحيوانات، وكالظالمين في عالم البشر.. {مِن شَرِّ مَا خَلَقَ}؛ هنا ينطبق على العقرب، وعلى الحاكم الظالم، وعلى مكروب السل؛ فكلهم في كفة واحدة، لأنهم يزعجون أهل الأرض.

{وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ}..
التفسير الأول: الغسق ما يقابل ذهاب الشفق، أي أول ظلمة الليل، والغاسق هو الليل إذا غاب الشفق.. {وَقَبَ} الوقوب؛ الدخول.. فالمعنى: ومن شر الليل إذا دخل بظلمته.. ونسبة الشر إلى الليل، إنما هي لكونه بظلمته يعين الشرير في شره، لستره عليه، فيقع فيه الشر أكثر مما يقع منه بالنهار.. فالذي ينوي الشر: كالاغتيال أو السرقة، فإنه يختار الليل للقيام بذلك.. ومن هنا علمنا معنى الآية الأولى {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} أي إذا جاء النهار، فإن بعض هذه الحركات تنتهي بمجيئه.

التفسير الثاني: أن الفواحش ترتكب في الليل، الزنا وغيره من المنكرات، مكانه جوف الليل غالباً.. ومن هنا الليل فيه ما فيه من الآفات الأنفسية والخارجية.. وقيل: المراد “بالغاسق” كل هاجم يهجم بشره كائناً ما كان.

{وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ}..
التفسير الأول: أي النساء الساحرات، اللاتي يسحرن بالعقد على المسحور، وينفثن في العقد.. فالسحر موجود عند الكثير، ولكن يبدو أن النساء أشد استعمالاً للسحر من غيرهن.. لأن الرجل له قوة إذا أراد أن يبطش: يضرب، ويقتل، و..الخ.. أما المرأة: فإنها ضعيفة، مسكينة، سلاحها: السحر، والشعوذة، وغيره.. ويبدو أن هناك حقيقة ما، ولولا ذلك لما ذكره القرآن الكريم.. حتى قيل أن هذه السورة نزلت، لأن النبي (ص) أصابه شيء من السحر.. في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد عن زيد بن أسلم قال: سحر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل من اليهود، فاشتكى فأتاه جبريل، فنزل عليه بالمعوذتين، وقال: إن رجلاً من اليهود سحرك، والسحر في بئر فلان، فأرسل علياً، فجاء به.. فأمره أن يحل العقد، ويقرأ آية، فجعل يقرأ ويحل حتى قام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كأنما نشط من عقال.. وما استشكل به بعضهم في مضمون الروايات أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مصوناً من تأثير السحر.. وقال بعضهم، وهو اختيار صاحب الميزان: أن الأنبياء مبرؤون من السحر الذي يسلب العقل، أما الذي يوجب ألماً في الرأس أو ما شابه ذلك، فهذا ممكن.

التفسير الثاني: المراد بالنفاثات في العقد النساء اللاتي يملن آراء أزواجهن إلى ما يرينه، ويردنه.. فالعقد: هو الرأي، والنفث في العقد: كناية عن حله.. فالنفاثات؛ النساء اللواتي يبعثن الوهن في عزم الرجال.. مثلاً: هناك رجل في نيته أن يتصدق بماله في سبيل الله عز وجل، فتحبطه زوجته، وتطلب منه شراء قلادة ذهبية لها، بدلاً من التصدق.. المرأة التي تثبط عزم الرجل نفاثة في العقد، هو عقد على شيء، ولكن المرأة نفثت فيه وأوهنته.

وعليه، فإن معنى النفاثات، هو أحد أمرين: إما المرأة الساحرة، وإما التي توجب وهن عزم الرجال.

{وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}.. أي إذا تلبس بالحسد، وعمل بما في نفسه من الحسد بترتيب الأثر عليه.. تارة يكون الإنسان حاسداً في قلبه؛ أي قلبه يغلي من الحسد، ولكنه يخاف الله عز وجل؛ لذا إذا رأى المحسود، يحتضنه، ويقبله، وفي قلبه كاره له؛ هذا لا بأس به!.. ولكن المشكلة إذا أعمل الحاسد حسده: إما بالعين، أو بالأذى: بالكلام، أو بالبهتان، أو بالنميمة.. مثلاً: موظف يحسد موظفاً آخر، فيرفع تقريراً كاذباً عمن يحسده إلى المسؤولين.. كل هذه من مصاديق {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}.

الخلاصة: إن هذه السورة رغم قصرها، ولكن كم فيها من المعاني؟.. استعاذة برب الفلق، واستعاذة برب الليل، واستعاذة من شر الساحرات، واستعاذة برب الحاسدين والحاسدات.. فإذن، من يخاف شيئاً من الضرر؛ عليه بالمعوذات.

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.