إن في روايات أهل البيت (ع) هناك دعوة للتفكر والتدبر والتأمل، عن الحسن الصيقل قال: سألت أبا عبد الله (ع) عما يروي الناس (تفكر ساعة خير من قيام ليلة)؟.. قال: (نعم، قال رسول الله (ص): تفكر ساعة خير من قيام ليلة).. قلت: كيف يتفكر؟.. قال: (يمر بالخربة وبالدار، فيتفكر ويقول: أين ساكنوك، أين بانوك، ما لك لا تتكلمين)؟..
إن التفكير على أقسام ثلاثة:
القسم الأول: التفكير المبعثر.. وهو ما يُسمى بالوسواس، أو بالتخيلات.. فمن المشاكل الكبرى في حياتنا اليوم، وفي حياة البشر منذ أن خلق الله -عز وجل- آدم (ع)؛ غلبة الهواجس والأفكار الخبيثة إلى درجة يقطع الإنسان بأن ما يفكر فيه هو خطأ، ولكن مع ذلك يرتب عليه الآثار.. ولهذا وهو يقول: أعوذ بالله من الشيطان اللعين الرجيم، هو يعلم بأن هذا التفكر هو تفكر سوداوي.. مثلاً: إذا رأى إنساناً قام أمامه بفعل يُحمل على الصحة، ويُحمل على الخطأ.. يُحمل على الأحسن، ويُحمل على الأسوأ.. الاحتمالات بحسب المنطق الرياضي متساويان، فلماذا يرجح جانب الشر؟.. إما أن يتوقف، أو يُغلّب جانب الخير!.. قال الرسول الأكرم -صلى الله عليه وآله وسلم-: (إحمل أخاك المؤمن على سبعين محملاً من الخير).
فإذن، إن التفكير قسم منه سوداوي خيالي، والشيطان له صولات وجولات في نفس الإنسان.. فلو كان هناك محل تجاري فيه جواهر مثلاً، وليس لهذا المحل أبواب، عندئذ الكل يدخل إلى ذلك المحل؛ فهل يبقى شيء في ذلك المكان؟.. كذلك قلب الإنسان محل مفتوح، وفي داخل القلب جوهرة الإيمان، والاطمئنان، والرضا بقضاء الله وقدره.. ولكن الشيطان يده مفتوحة، فرب العالمين سمح لإبليس أن يعمل ما يشاء في عالم الوسوسة، لا في عالم الأبدان.. في عالم الخارج الشيطان ليس له الحق أن يدفع الإنسان بيده إلى محل القمار -مثلا- ولكن يوسوس له.. لهذا في يوم القيامة يبرئ نفسه قائلاً: {…إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم..}.
إن هذا القسم من التفكير يغلب على النساء وغير النساء.. ومن لم يتحكم في هواجسه وأفكاره وخياله، لا يهنأ بالعيش ولو كان في قصر، وأمامه نساء العالم.. ولكن ما دامت له نفس مضطربة؛ لا يتهنأ بعيش أبداً.. لهذا ينشأ الخلاف بين الزوجين من شهر العسل بسبب: الوهم، والخيال، والوسواس، وسوء الظن.
القسم الثاني: التفكير في الذات المقدسة.. إن التفكر في الله عز وجل، وفي الذات المقدسة؛ منهي عنه.. لأن الإنسان يدور في حلقة محدودة، ورب العالمين فوق هذه الدائرة.. وكل ما يتصوره الإنسان بأوهامه؛ فهو مخلوق له مردود إليه.. إذن التفكر في الذات المقدسة منهي عنه، وإذا ذهب فكره إلى هذا العالم؛ فليكثر من الحوقلة فإنه باب خطير!..
القسم الثالث: التفكير في قدرة الله.. قال الرضا (ع): (ليس العبادة كثرة الصلاة والصوم، إنما العبادة التفكر في أمر الله عزّ وجلّ).. والإمام الصادق (ع) يعلمنا كيف نفكر!.. نحن نمر على بعض البلاد الأثرية، ننظر للأعمدة القديمة، أيام الرومان وكسرى وأنوشروان؛ فنلتقط بعض الصور؛ ولكن ليس هذا هو المطلوب!.. يقول الإمام الصادق (ع): (يمر بالخربة وبالدار، فيتفكر ويقول: أين ساكنوك، أين بانوك، ما لك لا تتكلمين)؟.. الإمام (ع) يعلمنا كيف نحول الجماد إلى فكر، وكيف نحول الصامت إلى ناطق!.. البعض يذهب إلى المقبرة ذهابا بليغاً مؤثراً، لا كذهاب البعض.. -حيث أن البعض قد يرتكب الحرام في المقابر، كأن ينظر إلى النساء؛ فتزيده المقبرة وبالاً-!.. وهناك من يترك الحرام بسبب فيلم شاهده، يذكر بالقيامة والقبر.. نعم منظر بليغ من هذا القبيل، يقلب كيان الإنسان.
الخلاصة: أن الإنسان موجود مفكر، لذا فإنه يجلس للتعقيبات بعد الصلاة، ومن أهم التعقيبات: الذكر، والدعاء، والفكر.. إذا جلس الإنسان إلى جهة القبلة، وقال مائة مرة: “سبحان الله”؛ هذا ذكر.. وإذا قرأ فقرات من دعاء أبي حمزة وبكى؛ هذا دعاء.. وإذا أطرق برأسه إلى الأرض، لا يكلم أحداً: ساجداً أو جالساً لا فرق، وإن كان السجود أفضل، ويتفكر فيما هو فيه: من أين؟.. وإلى أين؟.. وفي أين؟.. بعض الناس إذا نام ساعة زائدة، يصبح في ذلك اليوم حزيناً كئيباً.. ولهذا في جوف الليل، يتقن صلاة الليل؛ ليعوّض نومه الزائد في النهار مثلاً.. هذه بركة من بركات التفكر، هنيئا لمن كان لسانه ذكراً، وفكره عبرة!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.