إن أحاديث الفضائل أمر جيد، ولابد أن نروّج لفضائل النبي وآله، فرب العالمين أول المروّجين لفضائل نبيه وأوصياء نبيه.. ولكن بالإضافة إلى روايات الفضائل والكرامات والأمور الباهرة؛ -إذ أن رب العالمين يجري بعض الأمور على أيدي أوليائه؛ إظهارا لعظمتهم- لابد أن نكون على موائدهم العلمية أيضا.. من منا بحث في حياته على آداب النبي (ص): في سلوكه وقيامه وجلوسه، مع نسائه وأصحابه، وفي علاجه للسلبيات الاجتماعية، وكيفية مواجهة العصاة في أمته؟..
إن عليا (ع) له كلاماته الحكمية المبثوثة في بطون الكتب، ومن تلك الكلمات: (ألا وإن من البلاء الفاقة، وأشد من الفاقة مرض البدن، وأشد من مرض البدن مرض القلب).. علي (ع) يصف أنواع البلاء في حياة الناس:
(من البلاء الفاقة)؛ أي الفقر.. فرق بين فقر إلهي مقدّر، وبين فقر بشري: تارة يتقاعس الإنسان فيفتقر، وتارة يبذّر فيفتقر؛ هذا بلاء وفقر وفاقة لا يؤجر عليه صاحبه.. وهناك فقر يسوقه رب العالمين إلى عبده؛ رأفة ولطفا به؛ لئلا ينسى ذكر ربه.. يعطيه الكفاف تارة، ويبتليه بالفقر تارة أخرى؛ لتكون له حالة من الإنابة المتصلة إلى الله عز وجل.
(وأشد من الفاقة مرض البدن).. الإنسان الفقير بإمكانه أن يصلي صلاته تامة، وبإمكانه أن يذهب إلى بيوت الرحمن، وبإمكانه أن يتحرك في علاقته مع ربه كيفما يريد.. بخلاف الإنسان المريض الذي قعد به المرض.. حيث أن الإنسان المريض في بعض الحالات: تفوته الصلاة الواجبة، وقد لا يستطيع الصلاة من قيام، أو الصلاة التامة مع الطهارة.. البعض وهو في فراش المرض، يتمنى أن يصلي صلاة بحدودها الشرعية.. وعليه، فإن أشد من الفاقة مرض البدن.
إن البعض يأخذ المرض ذريعة للخروج من طوره وطبعه الأولي: فيبيع دينه، ويحتد في طبعه، ويتكلم بما لا يليق.. بدعوى أنه مريض، وكأنه معذور في حال المرض، وقد رفع عنه القلم.. والحال أن الإنسان المريض محتاج إلى الرحمة الإلهية؛ لذا يفترض أن يكون عكس ذلك تماما: أي إذا لم يكن يتقن العبادة، مثلا: إن لم يكن يصلي في أول الوقت، وهو في المستشفى على فراش المرض؛ يصلي أول الوقت.. وإن كان حادا في طبعه في الأيام العادية، يكون عكس ذلك أثناء مرضه.
(وأشد من مرض البدن مرض القلب).. والقلب هنا ليس القلب المادي الصنوبري، إنما المراد به مرض الباطن.. ومن مظاهر مرض القلب؛ قسوة القلب.. الإنسان تارة يريد أن يصلي صلاة خاشعة، ويعاهد نفسه على أن يكون من الخاشعين، ولكن كلما تقدم خطوة يتراجع خطوتين.. يذهب إلى الحج، لا يتفاعل مع حجاج بيت الله الحرام.. يأتي شهر رمضان، وهو طوال السنة ينتظر ليالي القدر، ويقرأ سورة القدر؛ عسى أن يرزق ليلة قدر متميزة؛ ولكن أيضا يصاب بقسوة القلب.
إن مرض القلب من أشد الأمراض؛ لأنه قد يستتبع الفاقة، وقد يستتبع مرض البدن أيضا.. وذلك لأن القلب إذا أصبح قاسيا؛ عندئذ الإنسان لا يدعو دعاء حقيقيا.. وإذا لم يدع دعاء حقيقيا؛ لا يُرفع عنه البلاءان السابقان.. عن الإمام الباقر (ع): (إنّ لله عقوبات في القلوب والأبدان: ضنك في المعيشة، ووهن في العبادة، وما ضُرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب).. إذن، النتيجة النهائية لقسوة القلب؛ أن الإنسان لا يتفاعل مع ربه: في دعائه، وفي مناجاته، وفي صلاته.
إن العبد يطلب من ربه في ساعات الاستجابة العافية.. فالإنسان وهو معافى، عليه أن يدعو لإدامة العافية؛ وهذا مؤثر في دفع الأمراض.. ومن هذه الأدعية: (يا ولي العافية!.. نسألك العافية؛ عافية الدين والدنيا والآخرة).. (إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أنّ عافيتك هي أوسع لي).. إذن، المؤمن أولا يطلب العافية، فلا يتبختر ولا يعتمد على قدرته، ويقول: يارب اختبرني أنا أهل لأن أقاوم!.. إن كان ولابد من البلاء فليقل العبد لربه: (اللهم!.. لا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا)؛ أن تكون مصيبة الإنسان في دينه؛ هذا هو البلاء الأعظم!..
إن الإمام زين العابدين (ع) يطلب من الله عز وجل: (وعمرني ما كان عمري بذلةً في طاعتك، فإذا كان عمري مرتعاً للشيطان، فاقبضني إليك قبل أن يسبق مقتك إلي، أو يستحكم غضبك علي).. أي ما لي وللحياة في هذه الدنيا، أنا لا أحب العيش الطويل في هذه الحياة: من دون فائدة، ومن دون بركة؟!.. أربعة من المعصومين ذهبوا من الدنيا في ريعان شبابهم: الزهراء (ع)، والإمام الجواد (ع)، والإمام الهادي (ع)، والإمام العسكري (ع).. ولكن إلى يومنا هذا، الأمة تعيش على بركات على هذه الوجودات الطاهرة، التي ما لبثت في هذه الدنيا مدة طويلة.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.