Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

التأسي بالإمام (عليه السلام)..
إن ادعاء الانتساب إلى الإمام (عليه السلام) والانتظار والمحبة؛ لا يُغني عن الاستنانِ بسُنته، فالعُصاةُ من هذهِ الأُمة يَدّعونَ محبة النَبي (صلی الله عليه)، ولكن أيةُ محبةٍ هذه؟!.. لذا، فإنه من المُناسب بينَ وقتٍ وآخر البحث في هذا الأمر، ولهذا نحنُ عندما نَدعو في شَهرِ شَعبان، ونطلُب مِنَ اللهِ عَزَ وجل في آواخر الصلوات الشعبانية أن يُعيننا على الاستنانِ بسُنة النَبي الأكرم (صلی الله عليه) فإن الأمر في موضعهِ، حيث نقول: (اللهمَّ!.. فأعنّا على الاستنان بسنّته فيه).. وينبغي للمؤمن أن يثِق ويتيقَن، إنّه بمقدار الاستنانِ به (عليه السلام)، يتقربُ إلى وجودهِ الشريف!.. فالبَعضُ له رغبة مُلحة في رؤية الإمام (عليه السلام)، فلو تحققَ اللِقاء في مكانٍ ما، وسلم على الإمام وقَبل يَدهُ وجبينَهُ ثُمَّ ودعهُ، هنا المُباركة قد تحققت بلا شَك فهذا فَخرٌ عَظيم، ولكن هذا لا يُغني عَن العَمل!.. بينما التأسي به (عليه السلام) خَيرٌ مِنَ اللقاء مَعَ عَدم التأسي.

بعض صور التأسي..
إن من صور التأسي، أن نتأسى به في:

أولاً: الصلاة..
١. الفرائض..
أ- صلاة أول الوقت: ينبغي للمؤمن أن يتأسى بإمامه (عليه السلام) في الصلوات اليومية، وهناك توصية من بعض العلماء الكبار يقول فيها: عليكم بالدُعاءِ لفرجهِ مَعَ كُلِّ أذان؛ لأنه مَعَ الأذان تفتَحُ أبوابُ السَماء، وخصوصاً في ساعة الزوال، روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: (إذا زالت الشمس فُتحت أبواب السماء، وهبّت الرياح، وقُضي فيها الحوائج الكبار).. فالمؤمن يتذكر إنَّ الإمام في هذهِ الساعة قائِمٌ يُصلي بينَ يَدي اللهِ عَزَّ وجل.. إذن، منْ يُريدُ التشبه بإمامه عليه أن يتشبه به في هذهِ الخِصلَة، فلا يؤخر الصلاة من دون عُذر: عَملاً بالتكليف، وتأسياً بهِ صلوات اللهِ عليه.

ب- الخشوع: لو أنّ الإنسان تخيل في كُلٍّ يوم أنه يُصلي خَلفَ مقام إبراهيم؛ فلا غضاضة في ذلك، بل هذا أمرٌ طَيب؛ لأن هذا التخيُل يوجب له التفاعل!.. يُقال أن إغماض العَينِ في الصلاة أمر مكروه، ولكن البعض يقولُ: لو أن غَمضَ العَين أورث الخشوعَ والتركيز، فهذا الخشوع أولى بالمُراعاة!.. فمن أغمض عينيه وتَصور أنّه خَلفَ المَقام، ما الفَرق بينه وبين من هو خَلفَ المقامِ حقيقةً: فمن هو خَلفَ المقام لو أغمضَ عينيه يتخيل المقام، والذي في المنزل يتخيل أنه خَلفَ المقام انتهى الأمر!.. فإذن، إن التخيل عالمٌ سَهلٌ ومُريح، فما المانع أن يتخيل الإنسان أنه يصلي خلف إمامه؟!.. يجعل الإمام أمامه في المحراب ويتخيل أنه يصلي خَلفَه، كم يُعطيه هذا المعنى من الخشوع؟.. وهنيئاً لمن كانَ في زمان الغيبة لهُ شَرف الصلاةِ جماعة خَلفه، الذينَ يحيطونَ بوجودهِ الشريف مِنَ المُمكن أن يتنعموا بهذهِ النعمة، يا لها من نعمة إمامُ زمانِهم هو إمامِ جماعتِهم!..

ج- إتقان الصلاة: إن هذهِ الفريضة تُشابهُ فريضته (عليه السلام)، وكُلما تشابهت الفريضة مَعَ فريضتهِ كانت قريبة منه، هذهِ الصلاة تُرفَعُ إلى السَماء، ثُمَّ الصلاة الأكثر خشوعاً فالأكثر وهكذا!.. عندما ترفع صلاةُ صاحب الأمر هذهِ الصلاة في قمةِ صلواتِ من على وجه الأرض، لذا المؤمن يحاول أن يجعل صلاته في الصفوف الأولى بَعدَ صلاةِ ولي الأمر فهذا أمر مُمكن، لأن صلاتهُ لا نَصلُ إليها ولكن بينَ المأمومين بينَ عامة المُحبين المؤمن يجعل صلاته في أفضلِ صورةٍ مُمكنة؛ أي: إن صلى في المسجد، وصلى جماعة، وفي الصف الأول، وعلى يمين الإمام، وكان خاشعاً في صلاته؛ يكون قد جمع المزايا كلها ظاهرةً وباطنة.

٢. النوافل:
أ- صلاة الليل: إن الأئمة السابقين على إمامِ زماننا كانوا يبدونَ أشواقهم إلى ولدِهم الغائب الذي سيأتي، يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (سيدي!.. غيبتُكَ نَفت رُقادي، وضيّقت عليّ مهادي، وأسرت مني راحة فؤادي)، هذا حَديثُ الإمام الذي سَبقه، وعن يحيى بن الفضل النوفلي قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) ببغداد حين فرغ من صلاة العصر، فرفغ يديه إلى السماء وسمعته يقول: (أنت الله لا إله إلاّ أنت الأول والآخر والظاهر والباطن ….) إلى أن قال: (أسألك أن تصلّي على محمد وآل محمد، وأن تعجّل فرج المنتقم لك من أعدائك، وأنجز له ما وعدته يا ذا الجلال و الإكرام)!.. قلت: مَن المدعو له؟.. قال (عليه السلام): (ذاك المهدي من آل محمد (صلی الله عليه)).. ثم قال (عليه السلام): (بأبي المنتدح البطن، المقرون الحاجبين، أحمش الساقين، بعيد ما بين المنكبين، أسمر اللون، يعتوره مع سمرته صفرة من سهر الليل!.. بأبي من ليله يرعى النجوم ساجداً وراكعاً!.. بأبي مَن لا يأخذه في الله لومة لائم، مصباح الدجى!.. بأبي القائم بأمر الله). فالسُمرة من حيث البَشرة، والصُفرة من حيث سَهر الليل.. وعليه، فإن المؤمن يتأسى بإمامه في قيام الليل.

ب- الدعاء للغير: إن المؤمن الذي يدعو في صلاة الليل لفرج إمامه (عليه السلام)، قد يردّ الإمام لَهُ الجميل يوماً ما ويدعو لفرجهِ أيضاً؛ فالإمام الآن مُبتلى بالغَيبة، أما الإنسان فإنه مُبتلى: بالشَهوة، والغضب، والوهم، والجهل، والبُعد، والسهو، والبُخل، والكِبر، و..الخ.. لو أنَّ الإمام في جَوف الليل، في يومٍ من الأيام قال: اللهم!.. يسر أمرَ فُلان، وأخرجهُ ممَّا هو فيه!.. وإذا به بدعوةٍ مهدوية تنقلب أموره رأساً على عَقِب، وإلا من أين هذا الانقلاب الذي يحدث للبعض؟!.. فبعض كِبار الفَسقة والمُجرمين في لحظة من اللحظات تتغير مسيرة حياتهم، رغم أن لهم تاريخاً أسود، في لحظة من اللحظات استيقظَ من نومتهِ وصارَ من كِبار الصالحين.. فإذن، إن هذهِ الانقلابات الفُجائيّة رهينةٌ بدعوة الغَير، وعلى رأس الغَير إمامُنا صلوات اللهِ وسلامهُ عليه، لذا المؤمن يحاول أن يختم ليله بالدُعاءِ لَهُ (عليه السلام).

ثانياً: قضاء حوائج الآخرين..
يجب التأسي بهِ صلوات اللهِ عليه في تفقدِ شؤون الأُمّة، وفي حَملِ همومِ الغَير، ففي زمان الغَيبة توسلَ الكثيرون به وجاءهم الفَرج، فالإمام لَهُ من يقضي حوائجه، والمؤمن أيضاً يبحث بينَ المؤمنين عَن القلوب الملهوفة!.. لذا من يصادف في يَومٍ من الأيام مؤمناً ملهوفاً ومتميزاً في إيمانه، عليه أن يفرّج همه، لأن من يرى كافراً في الصحراءِ يموت من العطش ويسقيه شَربةً من الماء هو مأجور؛ لأن هذه كَبد حرى، فالطبيب لا يستنكفُ عَن إنقاذِ كافر إنْ كانَ ينزفُ دَماً، روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: (إنّ الله تبارك وتعالى يحبّ إبراد الكبد الحرّاء، ومن سقى كبداً حرّاء من بهيمةٍ وغيرها، أظلّه الله في عرشه يوم لا ظلّ إلا ظلّه).. وبالتالي، فإنه لو سقى مُسلماً في هذهِ الصحراء فإن أجره يتضاعَف، ولو سقى مؤمناً يكون الأجر أعظم؛ ولكن لو سقى ولياً من أولياء الله فما هو أجره؟!.. وعليه، فإن المؤمن الذي يرى إنساناً متميزاً في إيمانه، ولياً للهِ عَزَّ وجل، ويَمرُ في ظَرفٍ صعب، يجب أن يبادر لتفريج همه، فهذه مُعاملة العُمر؛ لأنَّ المؤمن المتميز في طبيعتهِ شكور، إذ يكفي أن يَدعو لمن ساعده في جَوف الليل قائلاً: يا رَب!.. فُلان أعانني، اللهم أعنهُ في أمره؛ هذهِ الدعوة لا تُرد!..

فإذن، من صور التأسي بالإمام (عليه السلام) تَفقُد أحوال الإخوان، وقضاء الحوائج.. علماً أنَّ قضاء الحاجة بَعدَ الطَلب لا يُقاس بقضاء الحاجة قَبلَ الطَلب، لأن هناك فرقاً بين من أراقَ ماءَ وجهه ثُمَّ قُضيت حاجته، وبينَ إنسان قُضيت حاجته دون طلب!.. المؤمن يتأسى بإمامِ زمانه وبأئمته، فالأئمة (عليهم السلام) كانوا يعطون المال لصاحب الحاجة من وراءِ ستار؛ لئلا يُرى في وجههِ أثرَ الذُل!.. ورد في الرواية: (كنت أنا في مجلس أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أحدّثه وقد اجتمع إليه خلقٌ كثيرٌ يسألونه عن الحلال والحرام، إذ دخل عليه رجلٌ طوال آدم، فقال له: السلام عليك يا بن رسول الله!.. رجلٌ من محبيك ومحبي آبائك وأجدادك (عليهم السلام)، مصدري من الحجّ وقد افتقدت نفقتي وما معي ما أبلغ به مرحلة، فإن رأيت أن تنهضني إلى بلدي ولله عليّ نعمةٌ، فإذا بلغتُ بلدي تصدّقتُ بالذي توليني عنك، فلست موضع صدقة.. فقال له: اجلس رحمك الله!.. وأقبل على الناس يحدّثهم حتى تفرّقوا، وبقي هو وسليمان الجعفري وخيثمة وأنا، فقال: أتأذنون لي في الدخول؟.. فقال له: يا سليمان!.. قدَّم الله أمرك، فقام فدخل الحجرة وبقي ساعةً ثم خرج وردّ الباب وأخرج يده من أعلى الباب وقال: أين الخراساني؟.. فقال: ها أنا ذا، فقال: خذ هذه المائتي دينار، واستعن بها في مؤنتك ونفقتك وتبرّك بها ولا تصدّق بها عني، واخرج فلا أراك ولا تراني.. ثم خرج فقال سليمان: جُعلت فداك!.. لقد أجزلت ورحمت، فلماذا سترت وجهك عنه؟.. فقال: مخافة أن أرى ذلّ السؤال في وجهه لقضائي حاجته، أما سمعت حديث رسول الله (صلی الله عليه): “المستتر بالحسنة تعدل سبعين حجّة، والمذيع بالسيئة مخذولٌ، والمستتر بها مغفورٌ له”، أما سمعت قول الأول: متى آته يوما لأطلب حاجة *** رجعت إلى أهلي ووجهي بمائه).. وهذهِ الأيام الناس لهم حسابات في المصارف، فبإمكان الإنسان أن يُدخل له مَبلَغاً في حسابه من دونِ أن يشعُر بذلك!..

ثالثاً: القرآن..
إن من صور التأسي به (عليه السلام) ما نقرأهُ في زيارة آلِ ياسين: (السلامُ عليكَ يا تاليَ كِتاب الله وترجمانه)!..

١. التلاوة: إن المؤمن الذي لا أنسَ له بكتاب اللهِ عَزَ وجل، هذا الإنسان هُناك نَقصٌ في إيمانه!.. فأحدنا هذهِ الأيام عندما يرى اضطراباً في قلبه؛ يذهب إلى المستشفى فيفحصون القلب ويرونَ ذبذباته ونبضه، المؤمن كذلك إن أراد أن يعلم مدى حياة القلب لديه، عليه أن ينظر إلى ميله إلى كلام اللهِ عَزَّ وجل: فإن رأى ثِقلاً في التلاوة، أو عدَمَ رَغبةِ في ذلك؛ فليعلم أن هنالك انحرافاً في المزاج.. فإذن، من خلال تلك العبارة الواردة في الزيارة، نعلم أن تلاوة الكتاب من سِمات الإمام صلوات اللهِ عليه.

٢. الفهم: وأيضاً من سمات الإمام (عليه السلام) التي ينبغي للمؤمن أن يتأسى بها أنه تُرجمان القرآن الكريم:

أ- إن الإنسان الناطق باللغة العربية لا يحتاج إلى مؤونة في هذا المجال.

ب- إن أغلب المؤمنين -بحمد الله تعالى- لهم تخصص علمي هذهِ الأيام، فخريجو الجامعات يمضون أربع سنوات وهُم ينظرونَ إلى الكِتابِ والأستاذ، يقرأون من هُنا وهُناك، وبعض التخصصات النادرة جِداً، تتطلب من الإنسان أن يُمضي أربع سنوات من عمره في فَهمِ جهاز، أو نبتة، أو في كشفِ جرثومة تحتِ المجهر.

إن الأمر الملفت: أن الإنسان مستعد لأن يعطي هذه الأشياء أربع سنوات مِن عُمره ويذهَب إلى أقصى بلاد العالم، ليَبحث عَن كل ما يتعلق بتخصصه ذاك، ولكنه لا يعرف معاني الكلمات التي في كتاب الله عز وجل، فالكثير من المؤمنينَ والمسلمين لا يعلمون معاني مفردات سورة “الفَلق” على قِصرِها، ولا مفردات سورة “الكوثر” التي هي أقصر سورة في القرآن الكريم، فمثلاً: ما معنى ﴿الْكَوْثَرَ﴾ تحديداً؟.. ولماذا قالَ: ﴿إِنَّا﴾ ما قال: أنا؛ ما الفرق بين إنّا وأنا؟.. لماذا قال: ﴿أَعْطَيْنَاكَ﴾ ما قال: وهبناك؛ ما الفرق بينَ العَطية والهِبة؟.. ما العلاقة بين إعطاء الكوثر والصلاة؟.. ما معنى ﴿انْحَرْ﴾؟.. انحر الإبل، أو اجعل يَدكَ إلى النحر في تكبيرة الإحرام، هل أتى في بال البعض أن ﴿انْحَرْ﴾ أي: اجعل يَدكَ إلى جِهة النَحر؟.. هذا هو المروي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، في المجمع، “في الآية عن عمر بن يزيد قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول في قوله ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾: (هو رفع يديك حذاء وجهك)”. لماذا قال: صَلِّ وانحر؛ لماذا ذُكرَ التكبير؟.. ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ﴾؛ ما معنى الشانئ، وما معنى الأبتر؟.. ومن اللطيف أن نَعلم إنَّ في هذهِ السورة على قصرِها رَبُّ العالمين يُخاطِبُ النَبي (صلی الله عليه) عدة مرات: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ﴾ يا رسولَ الله، ﴿فَصَلِّ﴾ يا رسول الله، ﴿وَانْحَرْ﴾ يا رسولَ الله، ﴿إِنَّ شَانِئَكَ﴾ يا رسول الله، ﴿هُوَ الأَبْتَر﴾.

فإذن، نَحنُ فقراءٌ في القرآن الكريم، لا تعمقاً إنما بَحثاً!.. ينبغي للمؤمن في أيِّ وقت من عمره، أن يتخصص في القرآن الكريم ولو تخصصاً إجمالياً، فهذا أمر ممتع جداً.. نَحنُ بحمد الله متشرفونَ من بَينِ عامة المُسلمين أننا تمسكنا بالعِترة، وهذا شَرفٌ لنا، فلو أضفنا إلى ذلك التمسك في القرآن؛ لتمت الصفقة.

رابعاً: الذكر الدائم..
إن الذكر المستمر من صور التأسي بهِ صلوات اللهِ وسلامه عليه، فرَبُّ العالمين يذكرنا في كُلِّ آن فهو جلا وعلا ﴿لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ﴾، أما الإنسان النائم فإنه يتقلب، وقَد يرى أضغاث أحلام، وقد يرى منامات شهوية -مَثلاً- ورَب العالمين ينظرُ إليه!.. الإنسان في النَوم لا يُطالب بشيء، ولكن بمجرد أن يستيقظ عليه أن يذكر رب العالمين، لذا فإن هذهِ الفقرة مِنَ الدُعاء: (خَيْرُكَ اِلَيْنا نازِلٌ، وَشُّرنا اِلَيْكَ صاعِدٌ) فقرة مُبكية: ففي كُل آن رَب العالمين يُعطينا نَفسَاً: شَهيقاً وزَفيراً، وهذا النَفَس نصرفهُ في الحرام؛ هل هذا هو شكرِ نعمة الوجود؟!.. ولكنَ ما ورد في زيارةِ آلِ ياسين: (اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا تالِيَ كِتابِ اللهِ وَتَرْجُمانَهُ اَلسَّلامُ عَلَيْكَ في آناءِ لَيْلِكَ وَاَطْرافِ نَهارِكَ، … اَلسَّلامُ عَلَيْكَ حينَ تَقوُمُ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ حينَ تَقْعُدُ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ حينَ تَقْرَأُ وَتُبَيِّنُ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ حينَ تُصَلّي وَتَقْنُتُ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ حينَ تَرْكَعُ وَتَسْجُدُ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ حينَ تُهَلِّلُ وَتُكَبِّرُ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ حينَ تَحْمَدُ وَتَسْتَغْفِرُ) يدل على أن الإمام في ذِكرٍ مُستمر؛ فهل نتأسى بهِ في هذا الأمر؟.. كلا، هذا دونَهُ خَرط القتاد، القتاد: نوع من الأشجار له أشواك كالإبر، والخرط: بمعنى نزع لحاء الشجر جذبا بالكف!.. هذا يُضرب بهِ المثل في الصعوبة، فالذكرُ المستمر تقريباً مستحيل، ولكن الذِكر الغالب أمر مُمكن!.. فبعضُ الناس يكون: في المسجد، وفي الصلاة، وفي الطواف؛ وفكرهُ في الدنيا، وهذا ليسَ من الإنصاف!.. فالإنسان في العَمل لا يذكر الصلاة، لذا من باب الانتقام عليه أن لا يذكر العمل في الصلاة، فهو بذلك يجعل موازنة.. ولكن أغلب الناس في العَمل لا يذكر الصلاة، وفي الصلاة يذكر العمل؛ فأينَ الموازنة وأينَ الإنصاف؟!.. والوصول إلى الذِكر الكَثير أو المستمر يكمن في كلمة واحدة؛ ألا وهي: “المحبة”.. فالحُبُّ يورثُ الذِكر؛ وإلا الأمرُ في دائرة التَكلُّف.

خامساً: البكاء على الحسين..
١. لو سمع الإنسان أن أُمّاً فَقدت ولدها وبَعدَ شَهرٍ ماتَت مِنَ الغَم، فإنه يقول: هذا الأمر متوقع وليسَ بغريب!.. البَعض هكذا يفتقدُ إمامه في زمان الغَيبة، أحدهم ضاقت بهِ الدُنيا لغيبة إمامه، وكَرِهَ الحياة إلى درجةٍ كانَ يُخشى عليه، فقيل لَهُ: إن أردتَ أن تحظى بعنايته؛ تأسى بهِ في هذهِ الصِفة المهدوية، أندُب جَدهُ الحُسين صباحاً ومساءً!.. ألا يقول الإمام (عليه السلام) في دعاء الندبة: (لأنْدُبَنَّكَ صَبَاحاً وَمَسَاءً، وَلأبْكِيَنَّ عَلَيكَ بَدَل الدُّمُوعِ دَماً)؟!.. التزم ذاك المحب بهذا الأمر، فرأى ما رأى، ووصلَ إلى ما وَصل إليه!.. ليس المطلوب من المؤمن أن يعمل كهذا الإنسان المُحب، ولكن لا ينتظر أيامَ مُحرم وصَفر، لا ينتظر السفر إلى كربلاء، لا ينتظر ليالي الجُمعة، فهذه الأيام وسائل الاتصالات والاستماع متوفرة، لذا بينَ وقتٍ وآخر، في أي زمان ومكان: في جوف الليل، أو في السيارة، أو في العَمل، أو في الطريقِ إلى العَمل، يمكنه أن يتذكر ما جرى على الحُسينِ (عليهِ السلام) في ذلكَ اليَوم، وإن نَزلت منه قَطرة مِنَ الدموع؛ فإن هذهِ الدمعة لها وَزنٌ عَظيم!.. لأن البكاء يَومِ عاشوراء هو بكاء على القاعدة؛ فحتى غير المسلمين في بلاد الهِند من المعروف أنهم يُقيمون عزاء سيد الشهداء يوم عاشوراء ويبكون!.. ذاك المحب الذي وَصلَ إلى ما وصل إليه، لم يكن من أهل العِلم، كان يملك محلاً يكدّ فيه على عياله -فالمؤمن ليسَ بعاطل باطل، بل يعمل ويتعَب- كان فُجأةً يُغلق المحل ويَذهب، وعندما يُسأل عن سبب ترك المحل في غير وقته في وسط العمل، يقول: تّذكرتُ فُجأةً مُصيبة عليٍّ الأكبر، فلم أُطق التَحمُل، كَيفَ أبيعُ وأشتري وصورةُ عليٍّ في بالي!.. هل رأيتم البعض إلى أينَ وَصل، ونَحنُ إلى أينَ وصلنا؟!.. فإذن، من يُريد أن يحظى بعنايته، فليجعل لنفسه وقفة في الصباح وفي الليل للبكاء على الحُسين (عليه السلام)، ومن يطلب هذا المقام الرفيع يسهُل عليهِ هذا الأمر.

٢. يقول أحد المراجع العظام: إن الإمام (عليه السلام) في زمان الغَيبة مُتألمٌ من شيعته؛ لأنه يرى ما لا يسره، وهذا المعنى وردَ في التوقيع الشريف: (ولو أن أشياعنا وفقهم الله لطاعته، على اجتماع من القلوب، في الوفاء بالعهد عليهم؛ لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا، ولتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة، وصدقها منهم بنا.. فما يحبسنا عنهم إلا ما يتصل بنا مما نكرهه، ولا نؤثره منهم.. والله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلواته على سيدنا البشير النذير محمد وآله الطاهرين وسلم)!.. يقول: في زمان الغيبة الإمام أبدى عَدم ارتياحه، ولكنه قالَ كلمة، مضمون هذهِ الكلمة المنقولة في تِلك القصة: “الذي يربطنا بِكم ذِكركم لمُصيبة جَدي الحُسين”.. وهذا الخَط لا زالَ موجوداً، فهنيئاً: لمن كانت له هذه الحالة، ولمن تشرفَ بزيارة مشاهدهم، ولمن أقام عزاءهم، ولمن أحيا أمرهم!..

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.