Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

اغتنام الفرص..
إن المؤمن صَيادُ الفُرص، لأنها تَمُر مرّ السِحاب، ومن تلك الفرص:
١. العشرة الأخيرة من شَهر رمضان المُبارك.
٢. العَشرة الأولى من شَهرِ ذي الحِجّة.
٣. أيام مُحرم الحرام.
٤. أسبوع الولاية.

أسبوع الولاية..
إن هذا الأسبوع هو أغلى أسبوعٍ في السَنة!.. لذا فإن المؤمنين ينتظرونه طِوالَ العام؛ فهو يتضمن مناسبات مهمة جداً؛ ألا وهي: عيد الغدير، ويوم المباهلة، والتصدق بالخاتم، ونزول سورة ﴿هل أتى﴾؛ كُلُ هذا في أسبوعٍ واحد، يا لَهُ من أسبوعٍ مُبارك!.. فمن أرادَ أن يقوم بِعَمل، أو بمشروع، أو بزيجة؛ فإن أفضل أسبوعٍ في العام لتنفيذه مثل هذه الأمور؛ هو هذا الأسبوع المُبارك!..

أولأً: عيد الغدير..
إن أسبوع الولاية هو ذلك الأسبوع الذي يبدأ بعِيد الغَدير الأغَر، يقول تعالى في سورة “المائدة”: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾؛ فعِيدُ الغَدير أعظمُ الأعياد؛ وذلك لأنَّ عِيد الفطر هو احتفال بانتهاءِ فَرع من فروع الدٍين، وعِيد الأضحى أيضاً مُتعلق بفرعٍ من فروع الدِين وهو الحَج؛ أما عيد الغَدير فهو مُتعلق بأصلٍ من أصول الدِين، إذ:

١. لولا الغَدير لَما بَدأ خَط الإمامة.
٢. لولا الغَدير لما قامَ الحُسين (عليه السلام) بما قامَ به.
٣. لولا الغدير لما كُنّا اليَوم على مأدبةِ ومائدة إمامنا الحُجة (عليه السلام).

إن يَوم الغَدير لَم يَكُن تنصيباً لأمير المؤمنين (عليه السلام) فحَسب؛ وإنّما كان تأسيساً لخَط الولاية؛ فالأئمة الاثنا عَشَر في يَوم الغَدير أصبحوا ولاةَ الأمر في هذهِ الأمّة، والقضية قضية رياضية واضحة: النَبي (صلی الله عليه) رفعَ يَدَ أمير المؤمنين (عليه السلام) وجَعلهُ ولياً على هذهِ الأُمّة، وأميرُ المؤمنين جعل هذه الولاية في ولده الحَسَن (عليهِ السلام)، والحسن جعلها في أخيه إلى التسعة المعصومين من ذُرية الحُسينِ (عليهم السلام).

ثانياً” يوم المباهلة..
إن المُباهلة أيضاً حدثت في أسبوع الولاية، وهيَّ قَضية قُرآنية وليست روائية، يقول تعالى في سورة “آل عمران”: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾.

ثالثاً: التصدق بالخاتم..
أي عندما تَصدَقَ الإمام علي (عليه السلام) بِخاتمه، يقول تعالى في سورة “المائدة”: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾، هذهِ الاية نَزَلت في التصدقِ بالخاتم.

رابعاً: نزول سورةِ ﴿هَلْ أَتَى﴾..
إن هذهِ السورة مرتبطة بعَلي والزهراء (عليهما السلام)، كما أن سورة “الفَجر” مرتبطةٌ بسَيد الشُهداء (عليه السلام) باعتبار الآية الأخيرة ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾، هذهِ السورة -سورة “الدَهر” أو “الإنسان”- مرتبطةٌ أيضاً بالولاية.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.. إن الجلوس على مائدة القرآن الكريم هو من ألذ لذائذ الوجود، لا الجلوس على موائد الملوك!.. فالإنسان الذي يُدعى إلى مأدبةِ مَلكٍ من الملوك، مِنذُ أسبوع يُمني نفسه بتلكَ المائدة الشَهيّة، بل في شهرِ رمضان المُبارك عندما يكون الإنسان في قِمة الجوعِ والعَطَش، وهُناكَ إفطارٌ شهي، من الصباح ينتظر ساعة الغروب ليأكلَ من ذلك الطعامِ، ولكن لَذة الطعام هِيَّ لثوانٍ فقط لا ساعات ولا دقائق، لأن اللذة هي عندما يَمُر الطعام على حُليمات التذوقِ في اللسان: فقبل الأكل ليس هناك لَذة، وبعد نزول الطعام إلى المريء أيضاً ليس هناك لَذةَ!.. بينما لذة الجِلوس على مائدة القرآن الكريم؛ فهي عندما يكتشفُ الإنسان معنىً طَريفاً أو يقرأ معنىً جديداً!.. قد يقرأ البعض التفسير من أولهِ إلى آخرهِ ولا يكتشف شيئاً، ولكنهُ يستفيد من كلام الغَير، لذا ينبغي للمؤمن أن يَمر على تَفسيرٍ واحدٍ على الأقل طوال العمر، حيث هناك التفسير البسيط الخفيف المُيسر، وهُنالكَ التفسير الوَسط، وهنُاكَ التفاسير المُعمقة.

-﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا﴾..
﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ﴾: إن طبيعة القُرآن الكريم قائمة على تحريك الأفكار، بالنسبة إلى هذا الاستفهام البَعضُ يقول: ﴿هَلْ﴾ هُنا بمعنى “قَد” أي: قَد أتى على الإنسان، ولكن ما المانع أن نجعل ذلكَ في قالب الاستفهام؟.. هذا أسلوبٌ تربوي: فإن رأى الإنسان -مَثلاً- ولده على مُنكر، أو يَميلُ إلى الحرام؛ أيضاً يستطيع أن يستعمل أسلوب الاستفهام!.. فأحد العلماء الماضين كان له هذا الأسلوب، فهو يقول: قُل للمرأة أو للولد: هل تُريدون -مَثلاً- قُطعَة ذَهبية صَغيرة، أو منجماً من الذَهب؛ فلو منعتكم الآن من قطعةٍ ذَهبية صَغيرة، وأعطيتكم المَنجَم مُستقبَلاً آلا تصبِرون؟!.. منجمُ الذَهب فيهِ أطنان من الذَهب، لذا العاقل يقول: المنجم أفضل!.. كذلك الأمر بالنسبة إلى النفس؛ فإنها تقتنع بهذا المنطق، فليقل: يا نَفس، تجاوزي عَن بعض اللذائذ العاجلة -هذهِ القطعة الصغيرة- وسَوفَ تصلينَ إلى منجم اللذائذ بل إلى قمتها!.. وهذا ما قاله القرآن الكريم.

﴿لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا﴾: إن قصة الخَلق هذا عنوان بعض الأفلام العلميّة المتعلقة بخِلقةِ بني آدم، يُنصح ولو في العُمرِ مَرة واحدة أن ينظر الإنسان إلى قصة الخَلق، فالتجهيزات الحَديثة والكاميرات المتطورة هذهِ الأيام تصور تَكوّن الإنسان وهو في بَطنِ أُمه، إنها صورة حقيقيّة من أروعِ صُورِ الخَليقة على الإطلاق، فخُلقة بني آدم ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾!.. إذ ليس هُنالكَ قُصة وجود -لا المجرات ولا الأفلاك ولا..الخ- كقصة تكّون بَني آدم، هذهِ أعظمُ قصة في الوجود!..

أولاً: إن رَب العالمين جَعلَ الشَهوة بينَ الزوجين، فلولا هذهِ الشَهوة الغريزيّة ليس هناك إنسان يُدخلُ في بيتهِ إنسانة، لـ: يُنفقَ عليها، ويتحمل آذاها، ويُنجب منها أطفالأً!.. فالشرارة الأولى هيَّ هذهِ الغَريزة المُباركة.

ثانياً: الالتقاء.

ثالثاً: بدء نمو هذا الموجود الذي لا يُرى إلا من خِلال المَجهَر!..

-﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾..
﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ﴾: إن ملايين البَشَر إذا جعلناهم على نَحو نُطفَة، وإذا بملعقة من ملاعق الطعام بإمكانها أن تحتوي على الملايين من هذا الحيوان المنوي الذي فيهِ خارطة الوجود!.. فالجينات الوراثية، والكروموسومات، وطريقةُ التلاقُح مَعَ البويضة، هذه الأمور التي اكتشفها العلم، إنها قصة رهيبة من حيث هذهِ الحركة وهذا السِباق نَحو بويضةٍ واحدة، وكَيفَ أن هذا الحَيوان الأصم الأعمى يَجدُ بُغيته، فإذا وَجدَ البويضة كَيفَ يحفر فيها حُفرَة، ثُمَّ يدخَل، ثُمَّ ينقطع ذيله، ثُمَّ يتفاعَل!.. إن ما يحدث خلال هذهِ التسعة أشهُر شيء مذهل، فالإنسان إذا أرادَ أن يبني منزلاً في تسعةِ أشهُر، قد لا يتمكن إلا من رفع بعض القوائم، ولكنَ اللهَ عَزَّ وجل في تسعةِ أشهر يُخرج من هذهِ النطفة إنساناً، فخليفته في الوجود من هذهِ النطفة القَذِرَة.. والحديث عن خلقة بني آدم، يجعل الإنسان يعيش مشاعر التذلل، عندما يتفكر في توزيع مهام خلايا الجسم، من خلية واحدة إلى خليتين ثُمَّ أربع ثُمَّ ثَمان؛ مَن قال لهذهِ الخَلية: كوني أُذُنَاً؟.. من قال لهذهِ الخَليّة: كوني قَلباً؟.. هُناكَ يَدٌ ترسم ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾!..

﴿فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾: إن هذا الذَيل من هذهِ الآية فيهِ أبحاث، فما معنى ﴿سَمِيعًا بَصِيرًا﴾؟..
أولاً: المعنى الظاهري.. هُناكَ معنى أولي يعني: أن رَب العالمين جَعلَ بني آدم يَسمَع ويُبصِر: يَسمَعُ بغشاءِ كقشرة البَصل التي هي طَبلةُ الأُذن إلى أن يموت، ويُبصرُ بقطعةٍ من الشَحم وهيَّ العَين؛ يا لهُ من إعجاز!.. إذن بقشرة وشَحمَة الإنسان فَتحَ آفاق الوجود، وهاتان الكلمتان: ﴿سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ هما صيغة المبالغة من الفعلين: سمع وأبصر:

١. إن البعض قد يهمِسُ هَمساً في زاوية المسجد، وإذا بإنسان يسمع هذا الكلام الذي لا يمكن للاقطة حديثة متطورة أن تلتقط هذا الصَوت، بينما طبلَته تحسُ بذلِك!..

٢. إن الذين لهم حِدّة في النظر، بإمكانهم أن يروا هِلال ليلة العِيد الذي حتى الآلة قَد لا تستطيع رؤيته، ولكن هو يرى القَمر على بُعد آلاف الكيلومترات!..

ثانياً: المعنى الباطني.. إن هذه الآية قد تكون إشارة إلى السَمع الباطني والبصيرة الباطنية، فالبعض لَهُ سَمعٌ وبَصرٌ ظاهري، ولَهُ سَمعٌ وبَصرٌ باطني.. إذ هناك من يَذهَب إلى المقابِر ينظر إلى القبور، ويقرأ أسماء الموتى، ويرجع بلا استفادة!.. وهناك من يذهب إلى المقبرة ليرجِع وقَد كَرِهَ الدُنيا وما فيها، يرى قَبرَ أبيه، أو قَبر أمه، أو قَبرَ زوجته، أو قبرَ ولده؛ فيتذكر هذهِ الوحشة التي نَحنُ صائرون إليها، لذا عندما يرجِعُ إلى المنزل لا يكاد يُفكرُ في الحرام، وهذه الحالة هي من بركات زيارة القبور، فهذا إنسانٌ بَصير، ذَهبَ فاعتبرَ ورَجِع!.. بل إن البَعض يَصلُ إلى مرحلة يتلقى فيها ذَبذبات عالم الغَيب، فهذا الفضاء مشحونٌ بأمواج الفضائيات، وأجهزة الاتصال، ولكن الذي لا جِهازَ لَهُ لا يستقبِل شيئاً، بَعضُ القلوب المُرهَفة كهذهِ الأجهزة النَقالة، تلتقط ذبذبات عالم الغَيب!.. فالمؤمن بَعدَ فترة من المُجاهدَة والصبر، رَبُ العالمين يفتـَحُ لَهُ شيئاً من أبواب عالم الغَيب، كأولئك الذين يمرون في ابتلاءٍ شَديد ويصبرون صَبراً جَميلاً، مُكافأتهُم أنَّ اللهَ عزَّ وجل يفتح لهم نافذة من عالم الغَيب، ويكلمهم في ذاتِ عقولِهم، كما ورد عن الإمام علي (عليه السلام) حيث قال: (وما برح لله -عزت آلاؤه- في البرهة بعد البرهة، وفي أزمان الفترات، عباد ناجاهم في فكرهم، وكلمهم في ذات عقولهم؛ فاستصبحوا بنور يقظة في الأبصار والسماع والأفئدة…).

-﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾..
﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ﴾: إن رَب العالمين هدانا السَبيل خارٍجاً وباطناً: فالرسول الخارجي هم الأنبياء والمُرسلون، والرسول الباطني هو ما يُعبر عنه بنداء الفطرة!.. بعض العاصين عندما يتذكر ذنوبهِ الكَبيرة: تجري دمعته، ويبكي بكاءً شديداً، ويعيش حالة الاستحياء من رب العالمين، فيتمنى لو أن الأرض تبتلعه!.. هذا أمرٌ طَيب، فنداء الباطن يجعله يحتقرُ نفسه، حتى أن بعض كبار العُصاة والمُجرمين ينهون حياتهم بالانتحار، كذاك الرجل الذي ألقى القُنبلة النووية التي أهلَكت الحَرثَ والنَسل، فالذي يقوم بجريمة كَبيرة في بَعض الحالات لا يُطيقُ نفسَه فيقتلها، هذا من أثر وخز الضَمير، فالنداء الباطني هو الذي يجعلهُ كذلك!..

﴿إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾: إن القرآن الكريم عَجيبٌ في آياته، ما قال: إمّا شكوراً وإمّا كفورا، بل ﴿إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾، لأن بني آدم في مقام الكُفران يُبالغ، فكلمة ﴿كَفُورًا﴾ فيها مُبالغة، ولكن في مقام الشُكر لا يُبالغ، يشكر اللهَ عَزَّ وجل بدون مبالغة!.. فمن أراد يكون مُبالغاً في الشُكر لابُدَ وأن يشكر اللهَ عَزَّ وجل في كُلِّ نَفَس؛ لأنَّ كُل نَفسٍ هِبة وهذهِ الهِبَة تحتاجُ إلى شُكر، فمن مِنّا يمكنهُ الشُكر مَعَ كُلِّ شَهيقٍ وزَفير؟!..

-﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾..
﴿يُوفُونَ بِالنَّذْر﴾ِ: لابد هُنا من ذكر بعض الملاحظات التربوية:
أولاً: إن البعض يُكثُر من النَذور، في كُلِّ صَغيرة وكَبيرة يُقدِمُ نَذَراً، وبعض النذور قد تكون مُرهِقَة، كنذر صيام الدهر مثلاً، حيث إن أحدهم نَذر أن يصوم الدَهر ما عَدا العيدين، ولكنه بَعدَ فترة من العَمل بنذرهِ سَقطَ مريضاً، إذ لا يمكن لإنسان أن يَصوم طَوالَ العُمر!.. وعليه، فإن النَذر لابُدَ أن يَكونَ مَعقولاً!..

ثانياً: إن البعض يُكثرُ من النَذر وكأنّهُ قالَ كلمة، وبَعدَ فترة ينسى ما الذي نَذره!.. ولكن هذهِ ورطة كَبيرة، فالفقهاء يقولون: إذا نَذرتَ نَذراً ولم تَعلم ما نَذرت، عليكَ بإتيان المحتملات، فلو كان هُناكَ عَشر احتمالات عَليكَ بالعَشَرة حتى تتيقَن أنّكَ أتيتَ بما عَليك؛ هذهِ الأمور توجب الكُلفَة للإنسان.. وعليه، فإن من ينذر نِذراً يجب أن يكون حريصاً على الوفاء به، لذا عليه أن يسجل: ما هو النَذر، وكَم نَذر، ومتى نَذر، وهل قضيت الحاجة أم لَم تُقضَ؟..

ثالثاً: إن النذر ليس بالقضية السهلة، إنما هي مسألة خَطيرة!.. فالنَذر يجعل الأمر واجباً: فمن نَذَرَ قيامَ الليل؛ تصبح صلاةُ الليل واجباً كالظُهرين والعشائين وصلاة الفَجر، وإن لم يصلِّ في ليلة من الليالي فهو إنسان عاص؛ لأن النَذر يحول المُستحبَ إلى واجب، والمكروه إلى حرام!.. لذا يجب أن يكون الإنسان دَقيقاً في النَذر!..

رَحِمَ الله أحدِ العُلماء السَلف، كان إذا أرادَ أن ينذرَ نَذراً، ينذرُ نَذراً مؤثراً ومريحاً؛ فهو عندما تكونُ لَهُ حاجة يقول: “يا رب، إن قضيتَ حاجتي؛ لأُصلينَ مرة أو ثلاث مرات على مُحمد وآل محمد”!.. هذا العالم بَعدَ فترة لا يَعلَم كم نَذَرَ؛ هل نذر عَشرة أو عشرين نَذراً، فيأخذ سُبحة ويُصلي على النَبي (صلی الله عليه) مئةَ مَرة -تقريباً- وبذلك يقطَع أنه وفى بنَذرِه.. ولكن ينبغي أن يكون الوفاء بالنذر؛ أي الصلاة على النَبي (صلی الله عليه) بتوجه، ولا بأس أن يكون النَذر هو الصلاة على النَبي (صلی الله عليه) في الروضة، فإذا ذَهب للعُمرة والحَج يجمع النذورات، ويقف أمامَ قَبر النَبي (صلی الله عليه) ويصلي على النَبي (صلی الله عليه) وهو مُقبِل، فهذا نَذرٌ يُعتَدَ به!..

﴿وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾: شَر ذَلكَ اليَوم شَرٌ مُتطاير، مستوعب لكُل مَن على وجه الخَليقة.

-﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾..
﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾: ما المُراد بحُبهِ هُنا: هل هو حُب الطعام، أم هو حُب اللهِ عَزَّ وجل؟..

أولاً: قيل: ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾؛ هو حُب اللهِ عَزَّ وجل.

ثانياً: يقول البعض: إن مرجع الضمير في ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾ هو الطعام؛ أي المَيلُ إليه، فالإنسان الذي يصومُ ثلاثة أيام ولا يُفطرُ إلا على الماء، وفي اليوم الثالث يقدم الطعام؛ هذا مصداق ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾.. ولهذا يقول أصحاب هذا التفسير: أن حُب اللهِ عز وجل مذكورٌ في الآية اللاحقة ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا﴾.

فإذن، يمكن أن يقال: أن المَيل هو للطعامِ، أما الإطعامُ فهو لوجه الله تعالى.

-﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا﴾..
﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾: نَحنُ عندما نُصلي نقول: أُصلي لوجه الله، وأحجُ لوجه الله، فكلمة “نعمل لوجه الله” مُتكررة، ولكن الذي لا يعلم ما هو هذا الوجه، وما جَمالُ هذا الوجه؛ كَيفَ يَعملُ لَه؟.. فلو قالت الأُم لولدها الشاب الذي يحتاجُ إلى زواج: اخترنا لَكَ امرأة من أجملِ نساءِ الأرض!.. فإنه لا يعيش فَرحة اختيار الزوجة الجميلة إن لم يرها، أما لو رأى شيئاً من ملامحها؛ فإنه يتسلَقُ الجِبال، ويغوصُ في أعماق البحار ليَصلَ إليها؛ لأنّهُ رأى وجهاً جَميلاً!.. هذا وجهٌ فانٍ، فجمال المرأة في الجِلد، هذا الجلد الجميل الأملس المُشرق، فلو رفعتَ هذهِ الجِلدَة عَن وجهِ أجمل النِساء، لتحول إلى أقبح الوجوه، عبارة عن مجموعة من العضلات المشدودة والدَم والقيح!.. وعليه، فإن الناس يموتون ويدخلون نارَ جَهنَم بسبب هذا النقاب الجميل الذي لا يتجاوز سمكهُ الملي ميكرون، ولكن أينَ هذا الجِلد المُنمق المُزين، وأينَ ذلك الوجه الذي تذكرهُ هذهِ الآية ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾؟.. فبعض المؤمنين عندما يَدخُل الجَنّة يرى شيئاً من جمال هذا الوجه ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾، فيصعب عليه أن يرفع طَرفَهُ عَن هذا الجَمال الإلهي، فلا الحُور ولا الغِلمان ولا القصور، بإمكانهم أن يشغلوه عَن النظر.. فهنيئاً لمن وَصلَ إلى هذهِ الدَرجة مِن اكتشاف ذلك الجمال!.. ومَن أراد أن يرى هذا الجَمال عليهِ بإتقان صلاة الليل؛ فالليالي عادَةً هي: أُنسُ الرجال بالنساء، وأنسُ أولياءِ اللهِ مع ذلك الجَمال.

-﴿عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾..
﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾: لقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في ذيل قوله تعالى: ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾: (يطهرهم عن كل شيء سوى الله، إذ لا طاهر من تدنس بشيء من الأكوان إلا الله).. إن المؤمن يسأل الله عزَ وجل أنَ يسقيه من هذا الشَراب الطهور!..

رواية نذر أهل البيت..
إن هذا الحَديث رواهُ العامة والخاصة، كالزمخشري في كشافه، وعلمائنا في كتبهم، في الكشاف: عن ابن عباس: (أن الحسن والحسين مرضا فعادهما رسول الله (صلی الله عليه) في ناس معه فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك، فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما إن برءا مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام، فشفيا وما معهم شيء. فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوع من شعير، فطحنت فاطمة صاعا، واختبزت خمسة أقراص على عددهم، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل وقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة!.. فآثروه، وباتوا لم يذوقوا إلا الماء، وأصبحوا صياما. فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم، وقف عليهم يتيم فآثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك. فلما أصبحوا أخذ علي بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله (صلی الله عليه) فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال: ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم!.. فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها، وغارت عيناها، فساءه ذلك فنزل جبريل وقال: خذها يا محمد، هنأك الله في أهل بيتك!.. فأقرأه السورة).

-(أن الحسن والحسين مرضا فعادهما رسول الله (صلی الله عليه) في ناس معه).. مرض الحسنان، فعادهما رسول الله (صلی الله عليه) ومعهُ أناس من أصحابه. فرسولُ الله (صلی الله عليه) لم يتحمَل إلا وأخذَ معهُ مجموعة من الصحابة لزيارة سبطيه: الحَسن والحُسين، فهؤلاء ريحانتا رسول الله (صلی الله عليه)، وزينة العَرش، ومهجة المصطفى (صلی الله عليه)، عندما مَرِضا النَبي (صلی الله عليه) ما سألَ عنهما، بل ذَهبَ لزيارتهما مَعَ وفدٍ من المسلمين.

-( فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك).. هؤلاء دُونَ عليٍ (عليه السلام) في المرتبة، ولكنهم قدموا اقتراحاً وأمير المؤمنين (عليه السلام) قَبِلَ الاقتراح؛ وما المانع!.. فسلمان اقترح على النَبي (صلی الله عليه) حَفرَ الخَندق، وهؤلاء صحابة اقترحوا على عَليٍّ (عليه السلام) النَذر، والمؤمن يستمعُ أحسنَ القَول، ألا يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾!..

-(فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما).. هُناكَ خادمةٌ نَذرت مَعَ أمير المؤمنين (عليه السلام) إنها فضة الخادمة، هنيئاً لمن كانَ معهم!.. ففضة الخادمة هذهِ من أعلام النساءِ في التأريخ؛ لأنّها عاشت مَعَ فاطمة (عليها السلام) فَترة من حياتِها، فمن عاشَ مَعَ أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بقلبهِ وسلوكه؛ يتحول إلى ما يَقربُ من هذا المعنى.

-(إن برءا مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام، فشفيا).. إن نَذر عَلي (عليه السلام) يخرقُ الحُجب، ونَذر فاطمة (عليها السلام) يَصلُ إلى العَرش، لذا من الطبيعي أن يكون الشِفاء مضموناً.

-(وما معهم شيء. فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوع من شعير).. عَليٌ (عليه السلام) يُريدُ أن يصوم، والصائم يحتاجُ إلى طعام، والطعامُ يحتاجُ إلى مال، ولا مالَ عِندَ عَلي (عليه السلام) ليشتري بهِ إفطاراً لفاطمة، فاستقرضَ من شمعون الخيبري ثلاثة أصوع من شعير لا من القمح.

-(فطحنت فاطمة صاعا، واختبزت خمسة أقراص على عددهم).. أي على عددهم: عَليٌ، وفاطمة، وفضة، والحسنين.

-(فوضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل وقال: السلام عليكم أهل بيت محمد).. يبدو أن هذا المعنى كانَ مغروساً في أذهان المُسلمين، فالسائل لم يقل: السلام عليكم أهلَ بيت عَلي، بل مُباشرةً ربطَ البيت بالنَبي الأعظم (صلی الله عليه)!.. والغريب في الأمر: أن سائلاً فقيراً من فقراء المسلمين يعرفُ هذا المعنى، وفي يومنا هذا بعض العقول المتحجرة لا تفهَمُ هذا المعنى؛ هذا بيتُ النَبي (صلی الله عليه) لا بيت عَلي فحسب!..

-(أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة)!.. يجب أن يكون الإنسان مؤدباً، وعندما يطلب شيئاً من أحد عليه أن يدعو لصاحب الخَير، مثلما قال هذا السائل: أطعمكم الله من موائد الجَنّة.

-(فآثروه، وباتوا لم يذوقوا إلا الماء، وأصبحوا صياما. فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم، وقف عليهم يتيم فآثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك).. الحسنان برءا من المرض، والمريض يحتاجُ إلى طعام، ولكن مع ذلك لا الإمام ولا فاطمة ولا الحسنان أكلا شيئاً في هذهِ الأيام الثلاثة!..

-(فلما أصبحوا أخذ علي بيد الحسن والحسين، وأقبلوا إلى رسول الله (صلی الله عليه)).. كأنّهُ بلسان الحال يُريدُ أن يقول للنَبي (صلی الله عليه): هذه حالُ أولادي!..

-(فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع).. عَلي وفاطمة والحَسنان يرتعشون كالفراخ من شِدة الجُوع!.. هؤلاءِ ملوك الأرض وأعمدتها؛ فأينَ الملوك من هذا: وصيُ النَبي (صلی الله عليه) وصِهرُه وذُريته (صلی الله عليه) هكذا حالهم؟!..

-(قال: ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم).. فلمّا رأهُم النَبي (صلی الله عليه) ساءه حالهم!..

-(فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها).. يبدو من الرواية أن أنفال فاطمة (عليها السلام) لم تتأثر بحالتها، فقد كانت في محرابِ عبادتها.

-(قد التصق ظهرها ببطنها، وغارت عيناها).. كيف حالُ النَبي (صلی الله عليه) وهو يرى فاطمة (عليها السلام) وقَد التصقَ ظهرها ببطنها، وغارت عيناها؟!..

-(فساءه ذلك فنزل جبريل وقال: خذها يا محمد، هنأك الله في أهل بيتك!.. فأقرأه السورة).. أي أقرأهُ سورة الدَهر، لذا عندما يصل المؤمن إلى سورة “الدَهر” ينبغي أن يتذَكَر قُصة علي وفاطمة (عليهم السلام) وما جرى عليهم.

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.