Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

مواسم الرحمة..
إن رَب العالمين رحمتهُ وسعت كُلَّ شيء، فرحمتهُ متجليةٌ في كُل الليالي والأيام، ولكنْ هناك في السَنة: ساعات، وأيام، وأوقات؛ تتضاعف فيها هذه الرحمة وتتجلى.. فكما أن المطر لا يهطل في فصل الصَيف، حيث إن رَب العالمين يُنزِل الغَيث ولكن في مواضعه: أي في أشهر الشتاء والرَبيعِ؛ كذلك فإن رحمة الله غامرةٌ في مواسم، منها: ليالي القَدر، ويوم عَرَفة، وليالي الجُمع، ومنتصف شَهرِ شعبان، وشَهر رَجب الأصب الذي تُصبُ فيه الرحمة صَباً.

التعرض للرحمة الإلهيّة..
إن المؤمن عينهُ على هذهِ الرحمة وذلك:

أولاً: لتقصيره.. إن الإنسان المُقصّر ذنوبهُ تحجبه عن الرحمة المُتعارفة، ولكن في مواسم الرحمة الغامرة؛ فإن الرحمة الإلهيّة تشمله.

ثانياً: استجابة الدعاء.. إن الإنسان الذي يدعو في أرض الوطن قَد لا يُستجابُ له، ولكن عندما يَشدُ الرِحال إلى بيت اللهِ عَزَ وجل، فإن الرحمة الإلهية في عصرِ عَرَفة تغمرُه؛ لأنها تغمر الجميع!.. فالإنسان من الممكن أن يكون من الغافلين أثناء الطواف، أما يوم عرفة فلا يمكن أن تكون هذه حاله؛ لأن الكُل عينهُ إلى السماء، وخاصةً عند الغروب، يرفعون أيديهما وهم يعيشون مشاعرَ المسكَنَة.

ثالثاً: استنزال الرحمة.. إن عَرَفة يَومٌ في السَنة، ولكنَ المؤمن لَهُ ما له من القدرات، فبفضل اللهِ عزَّ وجل يستطيع أنّ يستنزل الرحمة، كما يحدث هذه الأيام في عالم التكنولوجيا: حيث إنهم يرشون مادة مُعينة على السُحب غَير الماطرة، فإذا بهذهِ السُحب تُنزل الأمطار، هذهِ وسيلة مستحدثة؛ فالسَحابة عقيمة، ولكن بفضل هذا الفِعل البَشري تُصبحُ السحابة مُمطِرَة.. كذلك المؤمن في الأيام المُتعارفَة، بإمكانهِ أن يستنزل الرِحمة.

طُرقِ استنزال الرَحمة الإلهيّة..
إن من هذهِ الطُرق، ومن أفضل الطُرق، ومن أهمِ هذهِ الطُرق:

أولاً: التحلي بصفة الرحمة.. إن من أهم السُبُل لاستنزال الرحمة الإلهيّة، هي أن يتحلى الإنسان بصفة الرحمة، لا بمعنى أن يرحم الإنسان ولده؛ لأن هذا أمرٌ مُتعارف ومتوقَع، فهذهِ رحمة فِطريّة، ولكن أن يَرحمَ مَن هو تحت يده؛ أي: إن كان عندهُ مشكلة مع أحدهم، وفي يوم من الأيام صارَ رئيساً عليه، ولم ينتقم منه، بل رحمهُ وهو صاحبُ قُدرة؛ هذهِ الرحمة البشريّة تستنزُل الرحمة الإلهيّة.. هناك رواية تقول: (قُدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلی الله عليه) بِسَبْيٍ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ تَسْعَى، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ فَأَخَذَتْهُ، فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله عليه): أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟.. قُلْنَا: لا وَاللَّهِ، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله عليه): اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ بِوَلَدِهَا)!..

-(فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ تَسْعَى، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ).. لعل هذا الصَبي أجنبيٌ عنها؛ لأن الرواية ما قالت: وجدت صبيها، وأيضاً تعبير “وجدت” يعني تفاجأت بصَبيٍّ في ضمن السَبي.

-(فَأَخَذَتْهُ، فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا، وَأَرْضَعَتْهُ).. هذهِ المرأة يبدو عليها بأنّها رحيمة لأنها من الممكن أن تقول: ما لي ولطفل الغَير!.. ولكن لما رأت الصَبي أرضعته.

-(أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّار)؟.. هذهِ المرأة المسبية التي تقوم بإرضاع طفل أجنبي عنها، لو كانَ لها صَبيٌ من رحمِها هل تُلقيهِ في النار؟..

-(اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ بِوَلَدِهَا).. إن النَبي (صلی الله عليه) كان يغتنم المواضع والفُرص كي يعلم الناس، أراد هنا أن يقول: إن رَب العالمين أرحمُ بنا من هذهِ المرأة!..

وعليه، فإن الذي يُريد أن يستنزل الرحمة الإلهيّة يجب أن يكون على مستوى هذا المعنى، فمن أرادَ أن يتخَلَقَ بأخلاقَ الله عز وجل، ومن أرادَ أن يستنزلَ آثار الأسماء الحُسنى، لا يأخذ ذلك الاسم ويردده عدة مرات في اليوم كما يفعل البعض؛ حيث إن هناك ممن يريد أن يكون قويّاً في الناس، وإذ به يأخذ ورداً باسم (القَوي)، فيقول: يا قوي!.. يا قوي!.. ألفَ مرة –مَثلاً- بينَ الطلوعين، وذلك لأنه قرأ هذا في كتاب عَن بعض العارفين؛ ولكن:

١. لماذا يلتزم الإنسان بوردٍ غيرِ مأثور؟!..
٢. من قالَ بأنَّ ترديد هذهِ الكلمة كذا مرة لها أثر؟!..
٣. إذا فُتح هذا الباب، يعني كُل واحدٍ منّا يُعطي وِرداً للناس أسوةً بالمعصومين؛ فأين التميز؟!..
٤. لا نلتزم إلا بما وردَ عن المعصوم، مثل تسبيحات الزهراء (عليها السلام)، هذا الوِرد يلتزم بهِ المؤمن دائماً.
٥. إذا لم يكن هُنالِكَ حَديث في هذا المجال، وأراد الإنسان أن يكونَ محبوباً في الناس؛ عليه التشبه بالصفة الإلهيّة المُناسِبة، فمثلاً:

أ- منْ يرغب في أن يتجلى لَهُ رَب العالمين بصفة الرحمة؛ عليه أن يكون رَحيماً!..
ب- منْ يرغب أن تصبح صفة الجود عنده ملكة؛ عليه أن يكون جَواداً!.. فالإنسان الجواد هو أقربُ إلى هذا الاسم -اسم الجواد- من الذي يقرأ كلمة “الجواد” ألفَ مرة في اليَوم؛ لأن هذا يتلفَظ وهذا يَعمل.

فإذن، إن من موجبات نزول الرحمة الإلهيّة على العَبد، أن يكون العَبدُ راحِماً، وخاصةً في مواضع الانتقام.

ثانياً: المناجاة الفطرية.. إن الرحمة الإلهيّة رحمةٌ سابغة شاملة، فالإنسان عندما يمر على مزرعةٍ أو على بُستانٍ في فصل الخَريف أو في فصل الشتاء، يتعجب من هذهِ الأعواد اليابسة كيف أنها بعدَ أشهُر تتحولُ إلى حاملةٍ للثمار!.. يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، بعض الأوقات يُستحب للإنسان أن يناجي ربه مُناجاةٍ فطرية بلُغة الحال، وهذه تختلف عن مُناجاة المُحبين والمُناجيات الخَمس عَشرة التي هي نِعمَ المناجاة!.. فمثلاً: عندما ينظر إلانسان إلى شَجرةٍ يابسة في منزله، وهو يعلم أنه بَعدَ أشهُر سيقطف منها فاكهةً طرية نَديّة، فليقل: “يا رَب!.. هذا الغُصن لم يطلب منكَ شيئاً، فهو لم يتكلّم، ولم تجر لَهُ دَمعة، إنه غُصنَ يابس، فيا من يُحيي الأرض بَعدَ موتِها!.. ويا من تُثمر هذهِ الخَشبة اليابسة!.. يا رَب!.. يا رَب!.. أحيي قلبي، لأنه ميت كالخشبة اليابسة”، وهذا ينطبق أيضاً على: من يذهب إلى عرفة، ولم تجر له دَمعة!.. ومن تمر عليه ليلة الجُمعة، ولم تجر دمعته من خَشية الله عز وجل، حيث إن ليلة الجُمعة هي ليلةُ قَدرٍ مُصغَرَة، وليلَةُ العِتق من النار!.. ومن يذهَب إلى المشاهد الشريفة، ولا يَرقّ قلبه.. فالرحمة الإلهيّة إذا جاءت للإنسان يكون من الفائزين، لذا المؤمن عليه أن لا ييأس من روحِ اللهِ عَزَّ وجل.

ثالثاً: الدعاء للغير.. إن من موجباتِ نزول الرحمة الإلهيّة، أن يدعو الإنسان للغير بنزول الرحمة، فبعض الآباء والأمهات يشكون من تمرد أولادهم، رغم التحذير الشديد الذي ورد في القرآن الكريم، حيث يقول تعالى: ﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا﴾، ولكن بعض الأولاد يقومون بما هو أسوأ من ذلك!.. لذا، يجب على الآباء تقديم النصحية دائماً لهم، ولا ينبغي أن ييأسوا من الدُعاء، قائلين: يا رَب!.. أنزل عليهِ الرحمة، أنزل عليهِ الهِداية، اللهم!.. لَين قَلبهُ للطريق المُستقيم، يجب الدُعاءِ لَه، هذا الدُعاء قَد يُستجاب؛ فإن أُستجيب؛ أنقذَه مما هو فيه من عقوق الأولاد.. وكذلك ينبغي للإنسان أن يدعو لمن تعلم منهُ حَرفاً؛ لأن رَب العالمين يعطيه مثليه أو أضعافَه، وقد ذُكر موضوع الدعاء للغير والرحمة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ومنها على سبيل المثال في:

١. القرآن الكريم: يقول تعالى في سورة ” غافر”: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾.. إن الإنسان عندما يصل إلى هذه الآية يطمَعُ في رحمة اللهِ عزَّ وجل، وخاصة من يذهَب إلى المشاهد الشريفة ويدعو لأخيه المؤمن الذي أوصاهَ بالدُعاء.. هذه الآية تذكر صنفاً من الملائكة وهم الذينَ يحملون العَرش ومن حوله، فالملائكة -معَ فارق التشبيه- كالعساكر: هُناكَ جُنديٌ يعمَل، وهُنالكَ عَقيد، وهُنالكَ لِواء، وغيرها من التقسيمات العسكريّة.. إذ فَرقٌ بينَ مَلَكٍ يكتبُ سيئات الإنسان وحسناته، وبينَ مَلَكٍ يحملُ عَرشَ اللهِ عَزَ وجل، وعلى رأس الملائكة أمين اللهِ على وحيه، الذي كانَ يخاطبهُ النَبي (صلی الله عليه) بكلمة “حبيبي جبرائيل”.. فهؤلاء الملائكة الحاملة للعرش لهم وظيفتان:

الوظيفة الأولى: التسبيح.. ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾؛ إذا رَجِعَ الضَمير إلى العَرش؛ فهذا يعني أن ملائكة العَرش على قسمين: قِسمٌ يحمل العرش، وقِسمٌ حَولَ العَرش.. عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: “قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ آيَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَيْكَ أَعْظَمُ؟.. قَالَ: (آيَةُ الْكُرْسِيِّ)، ثُمَّ قَالَ: (يَا أَبَا ذَرٍّ!.. مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ فِي الْكُرْسِيِّ؛ إِلا كَحَلَقَةٍ مُلْقَاةٍ فِي أَرْضٍ فَلاةٍ، وَفَضْلُ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْفَلاةِ عَلَى تِلْكَ الْحَلَقَةِ)”.

الوظيفة الثانية: الاستغفار.. ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ إن الملائكة تحمل العرش وعينها علينا: فإذا أذنب العبد ذَنباً، ملائكةُ العَرش تقول: اللهم أغفر لهذا العَبد العاصي!.. وإن نظر في جَوف الليل إلى منظرٍ حرام؛ فإن ملائكة العَرش تنظرُ إليه لا بازدراءٍ واحتقار وإنّما بشَفَقة، وتقول: يا رَب، اغفر له!.. وذلك لأن علمه واسع، ورحمته واسعة ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا﴾، ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾؛ الملائكة تستغفر لنا، ولكن لا لكُل أحد إنما ﴿فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ﴾؛ عيونهم على التائبين من هذهِ الأمة.

فإذن، إن الداعينَ للغَير بالرحمة؛ هؤلاء في مواضع الرحمة الإلهيّة.

٢. السنة النبوية الشريفة: ورد عن المعصومين (عليهم السلام) روايات تتعلق بالرحمة الإلهية، منها:
أ- الرواية الأولى: نُقل عن النَبي (صلی الله عليه) قوله: (إنَّ اللهَ عز وجل خَلَقَ مئةَ رَحمة: فرحمةٌ بينَ خَلقهِ يتراحمون بِها، وادّخَرَ لأوليائِه تِسعَةً وتسعين)، فالرحمة المتجلية في الدنيا، منها رحمة الأم لولدها، هذه قسم من مئة رحمة، وتسعة وتسعون ادّخرها لأوليائه.

ب- الرواية الثانية: تقول: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله عليه): (لَوْ تَعْلَمُونَ قَدْرَ سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لاتَّكَلْتُمْ عَلَيْهَا، وَمَا عَمِلْتُمْ إِلَّا قَلِيلا.. وَلَوْ تَعْلَمُونَ قَدْرَ غَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لَظَنَنْتُمْ أَنْ لا تَنْجُوا، وَأَنْ لا يَنْفَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ).. ولهذا ربما النَبي وآل النَبي (صلی الله عليه) كتموا روايات الرحمة؛ لأنّهم لو بيّنوا هذهِ الروايات من الممكن أن يتمادى البعض في المعصية، تعويلاً على رحمة الله عز وجل التي وسعت كُلّ شَيء!..

ج- الرواية الثالثة: قيل للإمام زين العابدين (عليهِ السلام): “إن الحسن البصري قال: “ليس العجب ممن هلك كيف هلك؛ وإنما العجب ممن نجا كيف نجا!.. فقال: (أنا أقول: ليس العجب ممن نجا كيف نجا؛ إنما العجب ممن هلك كيف هلك مع سعة رحمة الله)”!..

-(ليسَ العَجَب مِمّن َهَلَكَ كَيفَ هَلَك؛ وإنّما العَجَب مِمن نجا كيفَ نجا).. إن الطائرة التي تسقط من ارتفاع سِتة وثلاثين ألف قَدَم، لو قُتل جميع ركابها، فهذا ليسَ بأمر عجيب، ولكن المعجزة في النجاة!.. هذا كلام الحَسن البصري.

-(أنا أقول: ليس العجب ممن نجا كيف نجا؛ إنما العجب ممن هلك كيف هلك مع سعة رحمة الله)!.. أي أن العجب هو في دخول الإنسان نار جَهَنّم معَ وجود هذهِ الرحمة الإلهيّة، كيف لم يستفد منها؟!.. هذا كلام الإمام زين العابدين (عليه السلام).. فالأُم التي تأخذ ولدها من مستشفى الولادة إلى المنزل هذا ليسَ بعَجيب، ولكن الأم التي تخرج من مستشفى الولادة وترمي بولدها في سَلة المُهملات؛ هنا العجب؟!.. هي لم تُقدم على مثل هذا الأمر إلا لسبب قوي جداً، كأن يكون في غاية القُبح لدرجة لا تُحتمل، فرَب العالمين عندما يَرمي بعبدهِ في النار، وخاصة إذا كانَ ناطِقاً بالشهادتين؛ هذا الإنسان إلى أي درجة من القُبحِ قد وَصل، حتى أن الشهادتين لم تكن مانعة له من دخولِ نارِ جهنم!..

رابعاً: الابتلاء.. إن هذهِ الرحمة الإلهيّة تشمِلُ أقواماً بشَكل خاص، يقول تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾.. بعض الناس عندما تَمرُ بهِ بَليّة، كـ: فُقدان عَزيز، أو فُقدان مال؛ يرى أن صلاتهُ أقرَب للخشوع، في تلكَ الأيام يرى نفحَة إلهيّة، ولهذا إذا وقعَ المؤمن في أزمة، وانكسَرَ قَلبُه لإيذاءِ أحدِهم، أو وهُتك هَتكاً لمظلوميّة، أو فقدَ مالاً وفيراً، أو ماتَ ولدُه؛ فليذهَب إلى زيارةِ أهل البيت، أو العُمرَة، فهذه الأيام هي أيام الرحمة، وهو قريبٌ مِنَ اللهِ عَزَّ وجل.. ولكن -مَعَ الأسف- بعض المُبتلين يشغِل نَفسَهُ بالقُمار، أو ينظر إلى كل ما هَبَّ ودَب في التلفاز بدعوى التخفيف عن النفس!.. إن الرحمة الإلهية تنزل أيامَ المُصيبة، لذا ينبغي للمبتلى أن يذهب إلى مواطن الرحمة الإلهيّة؛ لأن الإنسان الذي يَمر بمُشكِلَة يبكي بُكاءً شَديداً عِندَ ضريح المعصوم؛ وهذا الذي يبكي بهذه الكيفية دعوته مُستجابة!.. فإذن، من موجبات نزولِ الرحمة: أن يَمر الإنسان بهذهِ المحنة.

خامساً: بر الوالدين.. إن النشاط الروحي تارة يأتي من وراء المُصيبة، ولكن في بعض الحالات تأتي الرقة بلا مُصيبة، كأن يستيقظ الصباح وهو مُنشرح الصدر، مُبتَسِم، يرى الدُنيا جميلة، ويرى كُلَّ شَيءٍ حوله جميلاً؛ هذه نفحَةٌ إلهيّة نَزَلت عليه.. ربما قام بزيارة أمه المريضة في اليوم السابق، أو جَلبَ لها دواءً أراحها، وفي جَوف الليل دعت له بالرحمة!.. هو لم يعلَم بدعوةِ أُمه، ولكنه أصبح وهو مُبتهِج؛ هذهِ نفحَة فليغتنم الإنسان هذه الفرصة، وليدعُ اللهَ عَزَّ وجل في هكذا مواطن!.. يقول النَبيُ الأكرم (صلی الله عليه): (إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَات!.. فَتَعَرَّضُوا لَهُا، لَعَلَّهُ أَنْ يُصِيبَكُمْ نَفْحَةٌ مِنْهَا؛ فَلَا تَشْقَوْنَ بَعْدَهَا أَبَدً)!.. لا في كُلِّ أسبوع، ولا في السَنة؛ بل في الدهر.. إن النفحات التي تأتي يوم عَرفة أو ليلة الجمعة؛ هذا أمر طبيعي!.. ولكن النفحات التي تأتي بلا مُناسَبة، وبلا موجِب، وفي أوقات غَير مُبارَكة، ينبغي للإنسان أن يغتنم تلك الفرصة الذهبية!..

سادساً: السجود.. كان المعصوم (عليه السلام) -في بعض الأوقات- على عظمتهِ يسجد في مكان غَير مُناسِب، ويدعو اللهَ عَزَّ وجل، تقول الرواية: (كنت مع الصادق (عليه السلام) بالمدينة وهو راكب حماره، فنزل وقد كنا صرنا إلى السوق أو قريباً من السوق، فنزل وسجد وأطال السجود وأنا أنتظره، ثم رفع رأسه.. قلت: جعلت فداك!.. رأيتك نزلت فسجدت!.. قال: إني ذكرت نعمة الله عليّ، قلت: قرب السوق، والناس يجيئون ويذهبون؟.. قال: إنه لم يرني أحد).. إن جاءت هذهِ الرِقة للإنسان عليه أن يغتنم الفُرصة؛ لأن الباب فُتح له، فيصلي ركعتين بتوجه، ويسأل اللهَ عَزَّ وجل ما يشاء من الرحمة، لعلهُ لا يشقى بعدها أبدا!..

سابعاً: توطيد العلاقة بالإمام.. إن ملائكة العرش تدعو للمؤمنين؛ فكيفَ بإمامِ الزمان (عليه السلام)؟.. لذا، من يحب أن يكون مرحوماً في هذا العصر؛ عليه أن يتوجه إلى وليِّ أمره، ويجعل لنفسه علاقة مميزة معه، وذلك من خلال:

١. الصدقة: عندما يدفع الصَدقة ليقل: يا رَب، إدفع البَلاءَ عَن وليك أولاً.. وثانياً: عمن يُحبهُ وليُك.. وثالثاً: عني وعَن ولدي.
٢. تقديم قربان: إن بعض المؤمنين يلتزم بذَبيحة لسلامة الحُجّة (عليه السلام)، في كُلِّ شَهرٍ يُقدم قُرباناً دَفعاً للبلاءِ عَن ولي أمره.
٣. الدعاء لفرجه: إن المؤمن المحب لولي أمره في كُلِّ قنوت صلاة، أو في أغلبها يلهَجُ بدُعاء الفَرَج؛ لأن الإمام عندئذ قد يرحمه ويدعو له، فيكون على رأس الفائزين.
٤. الحج: إن البعض يذهب إلى الحَج والعُمرة نيابةً عن إمامه (عليه السلام).
٥. الزيارة: ينبغي أن لا يفوت الإنسان زيارة جَد إمامه ولو مرة في العامِ، ومن يذهب إلى كَربلاء فليُعرج على سامراء، فليس الكُل لَهُ حالة مُميزة في أرضِ آبائهِ وأجداده، بعض الناس عندما يزور قَبرَ أبويه: السيدة نرجس، والإمام العسكري، وقبر جدهِ الهادي (عليهم السلام)، وعمته السيدة حكيمة؛ يعيش بعض المشاعر المميزة.. فمن يصل إلى أرضِ سامراء، وفي سرداب الغَيبة وغيره من الأماكن، عليه أن يحاول لفت نَظرَ ولي أمره، فاستنزل الرحمة الإلهيّة في ذلك الموطن الشريف أمر ممكن، وما ذلك على اللهِ بعزيز!..

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.