Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

النقلة الفجائية..
إن بعض من أتقن الأعمال في شهر رمضان المبارك، فـ: صام نهاره، وقام ليله، وإذا به بعد انتهاء الشهر كأنه يعيش حالة العجب والرضا عن نفسه؛ باعتبار أنه أمضى شهرا كاملا بالعبادة والصيام، فيعتقد أنه الآن أصبح في حلّ من بعض التزاماته، ولهذا هناك من يسافر أيام العيد، ولكن -مع الأسف- في سفره هذا ينسى كثيرا من القواعد، وقد يرتكب بعض المخالفات، كـ: مخالفات النظر، ومخالفات القول، أو على الأقل يعيش حالة اللهوية!.. وعليه، فإن هناك فرقاً شاسعاً جداً بين الليلة الثانية والثالثة والرابعة من العيد، وبين الليلة السابعة والعشرين والثامنة والعشرين والتاسعة والعشرين من شهر رمضان!.. فالبعض ينتقل نقلة فجائية من عالم النور، إلى عالم لعله لا نور فيه، إن لم يكن فيه ظلمة.

الاحتفال بالعيد..
إن الناس -هذه الأيام- تحتفل بالعيد لأيام وليال، وهذا شيء طبيعي، ولكن الحديث الشريف يقول: (ليس العيد لمن لبس الجديد، إنما العيد لمن أمن الوعيد)؛ فالوعيد هنا بمعنى التهديد، وإلا فإنّ أمن الوعيد ليس بأمر طيب، إن كان بمعنى الأمن من مكر الله عز وجل!.. ولكن والله العالم: لمن أمن الوعيد؛ أي التهديد، فالوعيد عكس الوعد الذي هو وعد بالأمور الطيبة التي فيها فرح وسرور، أما الوعيد فهو التهديد بالعقاب.. فيكون المعنى: أمن العقاب، أي أن صحيفته نظيفة بيضاء، ولهذا المؤمن بعد مواسم الطاعة: بعد الحج، وبعد شهر رمضان، لو غلب عليه الرجاء قليلا، فهذا لا يتنافى مع حديث: أن المؤمن يعيش بين الخوف والرجاء، فقد روي عن أبي عبد الله (عليه السلام): (كان أبي يقول: إنّه ليس من عبد مؤمن إلّا وفي قلبه نوران: نور خيفة، ونور رجاء؛ لو وُزن هذا لم يزد على هذا، ولو وُزن هذا لم يزد على هذا)، والله العالم: أن الخوف والرجاء لا يراد به هنا كفتي الميزان مئة بالمئة؛ أي أنه يعيش خمسين بالمئة خوف، وخمسين بالمئة رجاء.. فمن الطبيعي أن الخوف يرتفع عند المعصية، والرجاء يرتفع عند الطاعة، وفي الأيام العادية يتساوى الخوف والرجاء.

إن أيام العيد هي أيام سرور، يعيش فيها الإنسان الإنتعاش، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (للصائم فرحتان: فرحةٌ عند الإفطار، وفرحةٌ عند لقاء الله عزّ وجلّ): فلقاء الله يتم عند الموت، المؤمن عندما يموت يعيش فرحة اللقاء الإلهي، أما فرحه عند إفطاره، فإنه يفسر بمعنيين:

المعنى الأول: عند الإفطار.. أي في كل غروب يفرح، ويحمد الله عز وجل أنه صام هذا اليوم!.. وحق للمؤمن أن يفرح، وخاصة إذا كان الصيام مرهقا، فمن يصوم في الصيف الحار، ويكون عمله خارج المنزل؛ فإنه من الطبيعي أن يفرح فرحاً بليغاً عند الإفطار.

المعنى الثاني: عند انتهاء الصيام.. أي يوم العيد، فهو اليوم الذي يفطر فيه الإنسان.

فإذن، إن فرحة الصائم الكبرى تكون ليلة العيد؛ لأنه أنجز صيام الشهر بتمامه وكماله، ويوم العيد كذلك هو يوم الفرح الأكبر!..

الحذر والخوف..
إن المؤمن بموازاة الفرح بالإفطار، يجب أن يكون له أيضا محاسبة ومراقبة!.. يمكن تشبيهه بالإنسان الذي يدخل المصرف: فهو عند دخوله؛ يكون مسترخياً، ولكن عندما يأخذ الآلاف ويجعلها في جيبه، فإنه عندما يخرج من المصرف: يكون حذراً وجلاً، يده على جيبه، ينظر يمينا شمالا؛ يخشى أن يتربص به أحد في الطريق، وخاصة في البلاد التي لا أمان فيها.. فالإنسان عندما يخرج من محل بيع الجواهر؛ يعيش حالة القلق إلى أن يصل إلى المأمن.. والصائم في شهر رمضان المبارك، وبعد موسم الحج، هو كمن دخل إلى تلك المحال، وحمل الجواهر، لذا فإنه يخرج وهو خائف من مصادرة الشياطين، وسلبها لما هو فيه!.. وهذا ما يجعله يعيش مزيجا من المشاعر: الفرح بانتهاء الشهر، والفرح بالمكاسب، والهلع من انتقام الشياطين التي كانت مغلولة، وبغروب ليلة العيد تخرج من أغلالها، ومن قماقمها!.. فالحيوان عندما يُحبس في مكان بلا طعام ولا شراب لمدة شهر؛ ينتقم من صاحبه عندما يخرج، حتى الهرة تخمش وجه صاحبها في مقابل هذا الحبس؛ فكيف بالشياطين التي هي أعدى أعداء بني آدم، والتي لها خبرة آلاف السنين في إغوائه!.. فالإنسان الذي يعمل في مجال معين لمدة سنة أو سنتين أو عشر سنوات؛ يصبح خبيراً واستشارياً في ذلك المجال، والشيطان استشاري الإغواء منذ أن خلق الله تعالى آدم (عليه السلام) من آلاف السنين، له خبرة عريقة في إغواء أنواع البشر، فقد أخرج آدم (عليه السلام) من الجنة؛ فما بال الإنسان العادي؟!.. فإذن، المؤمن يعيش أيضا حالة الخوف، من أن تصادر هذه المكاسب!..

الاحتفاظ بالمكاسب..
أولا: شكر النعمة.. ويكون ذلك بالإبقاء على موجبات النعمة، فالإنسان عاش في شهر رمضان أجواء مميزة؛ لأنه كان ملتزما بـ:

١. قيام الليل: فمن يقوم قسماً من الليل؛ يكون قد أبقى قسماً من بركات شهر رمضان.

٢. الصيام: ومن يصوم الأيام الثلاثة في كل شهر -والتي تسمى بصيام الدهر- كأنه صام الشهر كله، فهذه الثلاثة أيام هي في حكم سورة “التوحيد”: فكما أن قراءة التوحيد ثلاث مرات يقابلها ختمة القرآن، كذلك صيام ثلاثة أيام من الشهر يساوي صيام الشهر بل الدهر.. سئل الإمام الصادق (عليه السلام): عما جرت به السنة في الصوم من رسول الله (صلی الله عليه)؟.. قال: (ثلاثة أيام في كل شهر: خميس في العشر الأول، وأربعاء في العشر الأوسط، وخميس في العشر الأخير، يعدل صيامهن صيام الدهر، يقول الله عز وجل: ﴿مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾، فمن لم يقدر عليها لضعف، فصدقة درهم أفضل له من صيام يوم).

٣. تلاوة القرآن: من كانت له ختمة في الشهر مرة، ما المانع أن تبقى هذه الختمة إلى آخر العام؟!.. فقراءة جزء من القرآن الكريم يأخذ نصف ساعة من الوقت في اليوم، يعطيها لكتاب الله عزّ وجلّ.

٤. إحياء ليالي القدر: البعض يحول ليالي الجمع إلى ليالي قدر مصغرة، فيعيش بعض أجواء ليالي القدر في كل ليلة جمعة!..

فإذن، إن شكر هذه النعمة، يكون بالإبقاء على بعض هذه الأجواء: الاستمرار بقيام الليل، المداومة على قراءة القرآن، صيام الأيام الثلاثة، وإحياء ليالي الجمعة؛ فمن يعمل بهذه التوصيات؛ تأته النفحات الإلهية.. وبالتالي، فإن شكر هذه النعمة هو من أهم الأمور.

ثانيا: تغيير المحور.. إن رب العالمين يمنّ على البعض بالإنقلاب الجوهري، والذي قد لا يُوفق له كل إنسان، وهذا الانقلاب يكون: بالتمرد على الذات، والانقلاب عليها، وقيام ثورة في باطنه؛ أي أنه يعزم عزمة من عزمات الملوك، وإن كان الملوك كما يقول القرآن: ﴿إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً﴾، ولكن بعض الملوك إذا عزم أمرا؛ ينفذه!.. المؤمن له هذه العزيمة، يقول: يارب، أريد بعد شهر رمضان هذا أن أغير مسيرة الحياة، ولكن: ليس بالاعتكاف؛ لأنه لا رهبانية في الإسلام!.. ولا بالتقوقع؛ لأنه لا عزلة في الإسلام!.. وإنما بهجر السيئات وليس المحرمات؛ لأن التعبير بالسيئات أشمل!.. فالسيئة تعبير جامع لأمرين: سيئة الجوارح، وسيئة الجوانح:

١. سيئة الجوارح: أي أن يُنقّي الإنسان الحواس من المحرمات، فحدود: حرمة النظر، وحرمة السمع، وحرمة الفم، هي بالسيطرة على هذا المثلث الصغير؛ الذي هو شبرٌ في نصف شبر، والفرج ملحق به!.. فالسيطرة على هذا المثلث الصغير؛ نتيجته جنة عرضها السماوات والأرض، ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾؛ يا لها من معاملة: يبيع الإنسان لله شبرا في نصف شبر؛ فيأخذ جنة عرضها السماوات والأرض!..

٢. سيئة الجوانح: إن بعض الناس قد لا تكون له محرمات الجوارح المعروفة، ولكن باطنه ملوث بأنواع السيئات، كـ: سيئة الحسد، وسيئة الكبر، وسيئة الحقد، وسيئة سوء الظن، وسيئة الهواجس الكفرية والباطلة!.. هو يصلي ويصوم؛ ولكنه: حقود، وحسود، ومتكبر، ووسواسي، و..الخ؛ كل هذه السيئات في الباطن!..

فإذن، هذا هو معنى هجران السيئات في الجوارح والجوانح، لذا فإن المؤمن يعمل على تصفية العالمين: عالم الجوارح، وعالم الجوانح.

وعليه، فإن من أهم بركات الشهر الكريم؛ هو خروج الإنسان بهذه النقلة الجوهرية، بهذه الثورة الذاتية، وبعبارة أخرى: تغيير محور الميل، فلكل كوكب محور يدور حوله، ولكن البعض يغير هذا المحور؛ يغير محور وجوده، ومحور حركته في الحياة؛ عندئذ يعيش البركات العظمى!..

ثالثاً: الدعاء للإمام.. إن من أهم أعمال يوم عيد الفطر، والأضحى، والجمعة، والغدير -الأعياد الأربعة-: أن يتوجه الإنسان إلى إمام زمانه، من خلال دعاء الندبة، فالمؤمن في أول ساعات السرور والفرح؛ يعيش جو الندبة والبكاء، (هَلْ مِنْ مُعينٍ فَاُطيلَ مَعَهُ الْعَويلَ وَالْبُكاءَ، هَلْ مِنْ جَزُوعٍ فَاُساعِدَ جَزَعَهُ اِذا خَلا، ..الخ)؛ لأن قلبه في الأعياد الأربعة يكون مع إمامه، فمن دون فرج ليس هناك فرح ولا سرور حقيقيان!.. وهو ما ورد عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) في هذه الأبيات:

يفــرح هــذا الورى بعيدهـم *** ونحــن أعيـادنــا مآتمنــا

إن من يريد أن يعيش السرور الواقعي، فليدعو الله عز وجل بلهفة كي يعجل في فرج الموعود، ذلك الإمام الذي بفرجه تفرج الهموم: لا عن المؤمنين، ولا عن المسلمين فحسب؛ بل عن المستضعفين في شرق الأرض وغربها، فقد روي أن الإمام الصادق (عليه السلام) كان كثيراً ما يكرر هذا البيت:

لكل أُناس دولة يرقبونها *** ودولتنا في آخر الدهر تظهر

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.