Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

هم المؤمن..
إن المؤمن مقبلٌ على سفر بعيد ومصيري ومهم، لذا عليه أن يُعد لهذا السَفرِ عُدتهُ.. فالبعض عندما ينوي السفر في رحلة سياحية، يفكر في مُقدمات ذلك السَفر قبل شهرين.. وبما أن السفر إلى اللهِ -عزَ وجل- أهم؛ فهو أولى بالاستعداد!.. وذلك من خلال اغتنام المواسم العبادية، التي تفضل بها رَب العالمين علينا، حيث جَعلَ في السَنة محطات للتوجه إليه، وكأنّهُ يريدُ أن يَسحب عَبدهُ إليه سَحباً.. فالإنسان الغافل عندما يأتي شهر رمضان المُبارك، أو عندما يذهب للحج والعمرة؛ يستيقظ.. ولو لم يَكن هناك في التشريع: شَهر رمضان، وليالي القَدر، والصيام، وكذلك الحج والعمرة؛ لكانت قلوبنا في منتهى القسوة!.. فشهرُ رمضان مُرطبٌ للأجواء، وموسمُ الحَج يُحيي القلب، والمشاهد والعُمرة كذلك.. وهناك موسما مُحرم وصفر، المؤمن خلالهما يُصفي باطنه، وهذا ما تؤكده رواية الإمام الرضا (عليهِ السلام) حيث يقول: (.. فعلى الحسين فليبك الباكون، فإن البكاء عليه يحط الذنوب العظام).

وكذلك الأمر بالنسبة للأشهر الروحية الثلاثة: رجب، وشعبان، وشهر رمضان المُبارك.. فهذه الأشهر هي ربيع الأرواح، حيث أن هُناكَ تطابقاً بينَ زراعة الأرض وبينَ زراعة القلوب: فكما أن الربيع هو موسم زراعة الأرض، كذلك هذه الأشهر العبادية، هي موسم زراعة القلوب.. والذي يستفيد من هذه الفصول المُباركة، هو الإنسان الذي يحمل همّ قلبه!.. أما الذي يهمل أمر القلب، ولا يهمهُ إلا جوفه الذي هو كناية عن: البطنِ، والفرج، والشهوات، وما لَذّ وطاب من الطعام.. حيث أن بعض الناس هَمهُ من حلقومهِ إلى رجليه، والدُنيا -بالنسبة له- كلها كأنّها في مقام سَد هذهِ الرغبات؛ فالمحلات التي في الأسواق، هي عبارة عن: محلات لبيع الأحذية؛ ليستر الإنسان قدميه.. ومحلات لبيع الملابس؛ ليستر العورتين.. ومحلاتِ الأكلِ والشرب؛ لإدخال الطعام.. وهكذا!.. فإن العالم بالنسبة له كلهُ يدورُ على أساس ستر البدن، وإشباع البطن، وتلبية الرغبات الشهوية؛ هذهِ هيَّ الدُنيا بكُلِ تفاصيلها.. أما المؤمن فلهُ هَمٌ آخر؛ همّه القلب السليم؛ وذلك لأن الله تعالى يقول: ﴿يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾.

القلب المريض..
إن القُرآن الكريم يُعبر عن القلب بأنّهُ هو الإثم، فنحنُ نَعلم: أن الزاني جسمهُ يزني، والناظر عَينهُ ترى الحرام؛ ولكن حقيقة الأمر: أنَ القلب عَصى؛ فالجسمُ زنى.. والقلب أحبّ أن ينظر للحرام؛ فالعينُ نظرت، ولهذا يقول تعالى: ﴿فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾.. وفي النقطة المُقابلة يقول تعالى: ﴿وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾.. فكلّ هذهِ من صفات القلب، ومن أراد أن تكون لهُ جوارح مُطيعة، عليه البدء من باطنه.. هناك رواية عن النبي (صلی الله علیه) هذهِ الرواية تَدل على أنَّ سلامة البَدن مُرتبطة بسلامة الأرواح، يقول (صلی الله علیه): «إذا طاب قلب المرء طاب جسده، وإذا خبث القلب خبث الجسد»… والعلماء هذه الأيام يرجعون الأمراض المختلفة: كأمراضِ الدَم، والشرايينِ، والسكر، والغُدد، وحتى أمراض الجلد؛ إلى اضطراب الباطن!.. ولكن من هو الإنسان المريض في باطنه؟..

إن كل همّ وغمّ؛ يشغل البال، ويذيب الجسد، لذا يقال: (الهمّ نصف الهرم).. أما المؤمن، فإن هَمهُ مُفرح!.. حيث أن هناك فرقاً بين هَمّ فقدِ المال، وبينَ هَمّ فقد القُربِ من اللهِ عزَ وجل!.. فالإنسان الذي يخسر في تجارة، ويفقد مالاً وفيراً؛ فإنه يحتاج أن يعمل من جديد لسنوات وسنوات، كي يرجع إلى نقطة الصفر.. ولكن الذي يعيش الإفلاس الروحي؛ فإنه لا يحتاج إلا إلى لحظات، وإذا به خلال ثوان يرجعُ غنياً.. إذ يكفي أن يُصلي ركعتين، سواء في جَوف الليل أو في أي وقت، في البيتِ أو في المسجد، ويقول: “إلهي!.. العفو” ثلاث مرات؛ فتعود المياه إلى مجاريها.. فهل هذا الإنسان يحملُ هَماً؟..

بالعكس هو في مقام العَمل أذنبَ ذنباً عن غير قصدٍ (وعزتك وجلالك، ما أردت بمعصيتي مخالفتك.. وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاك، ولا بنكالك جاهل، ولا لعقوبتك متعرض.. ولكن سولت لي نفسي، وأعانني على ذلك سترك المرخى عليّ).. ولكن إحساسهُ بالتقصير، وبحقارة الذاتِ والباطن؛ يدعوهُ للعمل.. مثلاً: هو اليوم نظرَ إلى امرأة أجنبية؛ فاحتقرَ نفسهُ.. أو خرجَ من المسجد، ومُباشرةً وقعَ في الحرام؛ فاحتقرَ نفسه، وصمم على الذهاب إلى بيت الله الحرام؛ كي يستغفر ويتوب إلى الله تعالى: تحتَ الميزاب، وعندَ المستجار، وعندَ الحَجر.. فإذا وصل إلى بيت اللهِ يقول: يا لها من نظرة!.. هذه النظرة كانت سبباً في زيارة بيت اللهِ الحرام!.. ولكن ليس معنى ذلك أن نرتكب الذنب، على أملِ أن نعوض.. المؤمن عليه أن لا يرتكب الذنب عمداً، ولكن إن وقع في الخطيئة هُناكَ مجال للتدارك.

فإذن، إن قسماً كبيراً من أمراض البدن يعودُ إلى مرض الروح، والشاهد على ذلك: أن بعض كبار السن، الذينَ تبلغ أعمارهم القَرن -هذه الأيام- هُم من مراجع التقليد، والبعضُ منهم تجاوزَ القرن، وهو بكاملِ وعيهِ وفهمه.. فهذا الإنسان أكثر من قرن، وهو: يُفكر، ويستنبط، ويجيبُ على الأسئلة، ويُصدر الفتاوى؛ وهذا ليس بالأمر السهل!.. فبعض المراجع الماضين، عندما كانَ يجيبُ على الفتاوى، كانت يَدهُ ترتعش؛ لأنّهُ يريد أن يخطَ حكمَ اللهِ عزَ وجل؛ يا لهُ من موقفٍ رَهيب!..

كيفَ نُهيئ القلوب لتلقي الفيض الإلهي؟..
إن الإنسان عليهِ أن يُهيئ الأرضية، ورَب العالمين يكملُ الفيض.. هُناكَ عبارة جميلة تبعث الأمل في النفوس، هذه العبارة تقول: إنّ منع الفياض فيضهُ عن القابل؛ يعد نوعاً من أنواع البخل!.. فالإنسان الذي يأتيه فقير يطلبُ منه مالاً؛ فإن لم يعطه؛ لا يلام كثيراً، وليس معنى ذلك أنه بخيل حَتماً!.. ولكن رب العالمين أكرم الأكرمين، لا يُقاسُ بنا، فإن كان لا يُقاسُ بالنبي أحد؛ فكيفَ برب العالمين؟.. رَب العالمين إذا رأى روحاً قابلة للفيض، إذا ما أعطاها من العطاء المُناسب لكرمه؛ هذا يُعدُ بُخلاً في جانبه؛ لأن رَب العالمين واسعٌ كريم.. ألا نقول في شهر رجب: (يا من أرجوه لكل خير!.. وآمن سخطه عند كل شر!.. يا من يعطي الكثير بالقليل!.. يا من يعطي من سأله!.. يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحننا منه ورحمة!.. أعطني بمسألتي إياك جميع خير الدنيا وجميع خير الآخرة، واصرف عني بمسألتي إياك جميع شر الدنيا وشر الآخرة؛ فإنه غير منقوص ما أعطيت، وزدني من فضلك يا كريم).. أن يعطي من سأله؛ هذا أمر طبيعي جداً، ولكن الأمر الغريب أن يعطي من لم يسأله، والأغرب أن يعطي من لم يعرفه!.. فهذه الأيام الكُفار أكثرُ استحواذاً لمزايا الأرضِ والطبيعة من المسلمين الفقراء المساكين: فخيرات الأرض، وجمالها، وغاباتها، وورودها، هي في بلاد الكفار، يستمتعون بها!.. نعم، البعض منهم من أهل الكتاب، ولكن الكثيرينَ منهم لا يعترفونَ بربٍ، ولا بكتابٍ، ولا برسولٍ؛ هذا هو الرَب الذي يُعطي من سأله ومن لم يسأله.. وعليه فإن تهيئة الأرضية تكون من خلال النقاط التالية:

أولاً: حسن التعامل.. إن بعض الروايات تُعطينا مُعادلة الحياة، ومنها هذه الرواية عن النبي (صلی الله علیه): “ألا وإن لله أوانيَ في أرضه؛ وهي القلوب.. فأحب الأواني إلى الله تعالى: أصفاها، وأصلبها، وأرقُّها!.. أصفاها من الذنوب، وأصلبها في الدين، وأرقها على الإخوان” فالصلابة والرقة صفتان متنافرتان!..

١. الصلابة: يقول رسول الله (صلی الله علیه): (وأصلبها في الدين)؛ أي أن المؤمن في الحَق، لا يخافُ في اللهِ لومةَ لائم.. فمن صفات المؤمن أنّهُ صَموت، ولكنَ عندَ الكلام، وعندَ الدفاعِ عن الحَق؛ يتحولُ إلى ليث الغاب، كما جاء في وصف المؤمنين على لسان رسول الله (صلی الله علیه): (رهبان بالليل، أسدٌ بالنهار)؛ أي عند الدفاع عن الدين؛ فإنهم ليوث العرين، يخرجونَ ليهاجموا أعداءَ اللهِ ورسوله.

٢. الرقة: يقول رسول الله (صلی الله علیه): (وأرقها على الإخوان)؛ أي الرقة على الغير.. فالمؤمن القاسي في تعاملهِ معَ أهله ومعَ أسرته، والخشن، والذي يُخافُ من لسانه؛ هذا الإنسان ساقطٌ من عين الله عز وجل.. فالذي يُكرم اتقاءً لشره؛ هذا من أسوء الناس، كما ورد عن النبي (صلی الله علیه) حيث قال: (أَلاَ إنّ شرّ أُمّتي الذين يُكرَمون مخافة شرّهم، ألاَ ومَن أكرمه الناس اتقاء شرّه؛ فليس مني).. البعض يُكرم زميله في العمل، ويهش في وجهه، لا حباً فيه، ولا احتراماً له؛ ولكن لئلا يصل إليه مكروه منه.. وقد يصل الأمر أن يُقدم له الهدايا الباهظة؛ كي يتقي شره، وهذا المعنى يقع في الحياة الزوجية، ويا لها من كارثة أن يصل الأمر إلى هذا الحد، فهذا في منتهى الخطورة!..

فإذن، علينا أن نُهيئ الأرضية من خلال التعامل: الرقيق معَ أحباء الله، والغليظِ معَ أعداء الله تبارك وتعالى.

ثانياً: المراقبة والمحاسبة المتصلة.. إن الذي يُريد ليلة قَدرٍ متميزة، فليبدأ من أولِ رَجب؛ لأن إتقان أعمالَ شَهرِ رَجب؛ من موجبات ذلك.. ولكن لا نعنى بالأعمال: أن يصلي الإنسان ليلة الرغائب، ويُحيي ليلة المبعث، ويكون فيما بينهما من الغافلين!.. إنما المقصود هو المُراقبة المتصلة المُمتدة!.. فإن أراد أن يُلامس قلبه ملكوت ليلة القَدر، عليه بما روي عن الإمام الجواد (عليهِ السلام) حيث يقول: (القصد إلى الله بالقلوب، أبلغ من إتعاب الجوارح بالأعمال).. فذكر الله لا يعني التسبيح بالسبحة، والتعبد لا يعني الصلاة، والتقرب لا يعني الذهاب إلى الحج والعمرة.. الأمرُ ليسَ هكذا، هُناكَ ما هو أعمق!..

إن هناك فرقاً بين إنسان ذهب إلى العمرة الرجبية التي هي تالية للحَج في الفضيلة، وتَعَبَ هناكَ وسعى وطاف، ولكنه لم يكن من المُراقبين، وعندما رجع إلى منزله: أخذ يسرح ويمرح، ويضحك، ويتكلم بالباطل وفي الحرام، وهمهُ الأسواق..الخ.. وبين إنسان لم يذهب إلى العمرة، بل أخذ إجازة من العمل لمدة أسبوع، وجلسَ في المنزل، وكان يذهب إلى المساجد أوقات الصلوات الواجبة، وكانَ في حالة مُراقبة لنفسه: يذكر اللهَ في قَلبه متقلباً يميناً وشمالاً؛ مصداقاً لقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾، ويحسب حساباً للكلمة التي يتكلمها، وتحت أي عنوان تندرج: هل هي من الكلام الباطل، أو اللغو، وهل هو كلام: راجح، أو مرجوح، وما فائدة هذا الكلام؟.. وإذا خرجَ من المسجد لا ينظر إلى بيوت المُترفين ليتحسرَ عليها، ولا يذهبُ إلى الأسواق إلا في ساعات الخلوات؛ لئلا يبتلى بالجنس المخالف..الخ.. فذاك الذي ذهب إلى العمرة تعب؛ ولكنه رجع كما كان، لم يتغير فيه شيء!.. بينما هذ الذي جلسَ في منزلهِ أسبوعاً، مستريحاً من عناء العمل، وكان يعيش أجواء روحية، وإذا به يطير إلى الملكوت الأعلى.. ولهذا البعضُ يحج أربعين حِجة، ولكنْ ليس هناك فرق بينهُ وبينَ منْ لم يَحج حِجة واجبة؛ أي ليس هناك أثر للحج!.. وكذلك الأمر بالنسبة للعمرة والزيارة، فقد روي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أنه قال: (من زار جدي الحسين، كمن زار الله تعالى في عرشه)؛ ولكن لا أثر لزيارة الله في العرش!.. فالبعض يرجعُ من هذهِ المشاهد أسوأ مما كانَ عليه؛ لأن الشيطان كانَ تاركاً له، ولكن عندما رأى فيه رغبة في التميز، والخروج من مملكة الأبالسة، فإنه ينتقمُ منه، ويركزُ جهودهُ عليه.

موجبات موت القلب..
أولاً: عشق الأشياء.. إن المؤمن لهُ حالة من حالات التعالي عن حطام الدنيا، فالبعضُ قد يعشقُ سيارة مثلاً، فيستقرض من هُنا وهُناك، ويوقعُ نفسهُ في حَرج.. وإذا به بعد يومين أو أسبوعين، لا يرى جديداً في البين مجرد إطارات تمشي على الأرض، وهو جالس على حديدٍ ينتقل من مكانٍ إلى مكان!.. هذا الإنسان أوقع نفسه في الحَرج؛ لأنّهُ عَشقَ شيئاً.. وبعضُ النساء تعجبها قلادة على صَدرِ امرأة، أو ساعة في يَدِها، وإذا بها ترهقُ زوجها وتدخل معه في معارك؛ لكي تحصل عليها.. ولكن هنا يجب الانتباه إلى أن التي تَلبسُ قلادة بألفِ دينار، أو ساعة بآلاف الدنانير؛ فإن الكمالُ ليسَ لها، إنما لهذا الذهب.. هي تفتخر أنها جعلت عنصراً باسم الذهب على صَدرها، وكأنها تقول بلسان الحال: أيها الناس!.. أنا أتشرفُ بهذا الجماد الذي هو عبارة عن ساعة أو قلادة مثلاً!.. ولكن هل شرافة بني آدم بهذه الأشياء؟.. المؤمن يتشرف بذكر اللهَ عز وجل، وبالقُرب الإلهي.. والذي يحبُ الحلي والذهب والزينة؛ هذا إنسان عاشق لهذه الأشياء، ومتعلق بها.. يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (ومن عشق شيئاً أعشى بصره، وأمرض قلبه.. فهو ينظر بعين غير صحيحة، ويسمع بأذن غير سميعة.. قد خرقت الشهوات عقله، وأماتت الدنيا قلبه، وولهت عليها نفسه.. فهو عبد لها، ولمن في يده شي‏ء منها.. حيثما زالت زال إليها، وحيثما أقبلت أقبل عليها).. كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) دقيق، لم يقل: “من عشقَ امرأةً”؛ لأن عشق النساء شيء متعارف عليه، ولو عشق الإنسان إنسانة مثله؛ فإنه قد يصل إليها، ويأنس معها.. ولكن الكلام في عشق الشيء الجامد، معَ فارق التشبيه: فالطبلُ إذا خُرق يُرمى في سلة المهملات؛ لأنه سَقطَ عن حيز الانتفاع.. أما العقل؛ فإنه يُخرق بالشهوات.

فإذن، إن المؤمن يحاول أن يتعالى عن أي شيء يمكن أن يحوز على اهتمامه.. ولهذا بعضُ كبار المؤمنين، عندما يتعلقُ بسبحة مصنوعة من عقيقٍ أو من فيروزج مثلاً، فإنه يهديها للغير!.. وإن رأى شيئاً يشغلهُ، أو قلبه تعلق به؛ فإنه يتصرف به؛ وبذلك يكون مصداقاً لقوله تعالى: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾.. والجمعيات الخيرية -هذهِ الأيام- توزع الأكياس على البيوت، لتجعل فيها مهملات الملابس، بَدل من أن تُلقى في سلة المهملات في القُمامة؛ وهذا يُقرّب الإنسان إلى اللهِ عزَ وجل!.. فشق تَمرة تقرّب الإنسان من ربه، ولكن ليقدّم ما تَعلقَ به فؤاده.

ثانياً: ارتكاب الذنب على الذنب.. إن الذنب على الذنب من موجبات موت القلب، فعن رسول الله (صلی الله علیه): (إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتةً سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب؛ صقل قلبه.. وإن عاد؛ زيد فيها حتى تعلو على قلبه، وهو الران الذي ذكر الله، ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُون﴾).. ولكن إن استغفر، فإن المعصية لا تُسجل في ديوان العمل، وهذا ما يفهم من بعض روايات أهل البيت (عليهم السلام): أن الإنسان عندما يذنب، يعطى فسحة من الوقت؛ بمعنى: أن الملائكة لا تسجل عليه الذنب.. والذنب الذي لم يسجل، لا يقاس بالذنب الذي سجل ثم غفر!.. صحيح أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولكنّ هناك فرقاً بين ذنب صدر ولم يسجل، وبين ذنب صدر وسجل ثم محي.. فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً، أُجِّلَ فِيهَا سَبْعَ سَاعَاتٍ مِنَ النَّهَارِ.. فَإِنْ قَالَ: أَسْتَغْفِرُ الله الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ -ثَلاثَ مَرَّاتٍ- لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ).

ثالثاً: مُعاشرة الموتى.. قال النبي (صلی الله علیه): (أربع يمتن القلوب: الذنب على الذنب، وكثرة مناقشة النساء -يعني محادثتهن- ومماراة الأحمق، تقول ويقول ولا يرجع إلى خير، ومجالسة الموتى، قيل له: يا رسول الله!.. وما الموتى؟.. قال: كل غني مترف).. إن الجلوس مع الغني المترف يُقسي القلب: فهو لا يعطيكَ من دنياه، ويأخذ من آخرتك!.. بينما مُعاشرة العُلماء؛ فإنها تُحيي القلب.. فالإنسان عندما ينظر إلى وجه بعض العلماء، من دون حَديث يمتصُ منهُ رحيق الهُدى.. وذلك مثل الإنسان الذي يدخل المسجد الحرام، ولو لم يصلّ أو يقوم بأي نوع من أنواع العبادة؛ فإنه يرى جَواً روحياً مُميزاً .. بينما عندما ينظر الإنسان إلى بعض المترفين الذينَ عَشقوا المال؛ فإنه يرى الإشمئزازَ في باطنه.. إنسان ليسَ لَهُ حَظ من التقوى، يتبجح بماله ويتكلمُ كلاماً فوقياً، هو لا يقول: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾، ولكن في مقام العَمل هكذا يقول!.. هذا الإنسان المُترف يجب الابتعاد عَنه، وإن كان لا بد من الذهاب إليه، فليخرج من عنده بسرعة، وقبلَ الذهاب وبعدَ الذهاب عليه أن يستغفر اللهَ عزَ وجل.

رابعاً: كثرة الضحك.. إن المؤمن له قَلبٌ حَزين، لأن أمامهُ أهوال البَرزخ، وعقبات الآخرة، ولهذا ضحكه التبسم؛ تأسياً بالنبي (صلی الله علیه) حيث روي عنه أنه (كان جلّ ضحكه التبسم).. أما الإنسان الذي يكثر من الضحك؛ فهو إنسان بعيدٌ عن اللهِ عزَ وجل، والبعض يتجاوزَ الضحك إلى حَد التهريج!.. بينما رسول الله (صلی الله علیه) يقول: (كثرة المزاح تذهب بماء الوجه، وكثرة الضحك تمحو الإيمان، وكثرة الكذب تذهب بالبهاء).. وقد روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (كثرة الضحك، تميت القلب).. وبالتالي، فإن كثرة التَفكر من موجباتِ حياة القلب.

خامساً: عدم الذِكر في الخلوات.. سُئلَ الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام): ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجهاً؟.. قال: «لأنهم خلو بربهم؛ فكساهم الله من نوره».. وعن الإمام الباقر (عليه السلام): (تَعَرَّضْ لِرِقَّةِ القَلْبِ بِكثْرَةِ الذِّكْرِ في الخَلَوَاتِ).

سادساً: عدم تفقد الآخرين.. إن الذي يريد أن يصل إلى درجات القرب من الله عز وجل، فإن من أوسع أبواب القرب، هو تفقد من حوله، وإدخال البسمة على وجه بائس، وإطعام الفقير الجائع.. روي عنه (صلی الله علیه) أنه قال: (إن أردت أن يلين قلبك: فأطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم).. فإذن، إن تَكفل الفقراء والأيتام، والمسحِ على رؤوسهم؛ من موجباتِ رقة القلب.

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.