Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

تثبيت دعائم الحياة الأسرية..
إن تثبيت دعائم الحياة الأسرية موضوع مهم؛ لأنه يترتب عليه أيضاً علاقة العبد بربه.. فالبعضُ يظن أن علاقتهُ معَ رَب العالمين، مفصولة عن علاقتهِ معَ مجتمعه!.. ولكن هذا الظن ليس في محله؛ لأن العلاقة المتوترة معَ الغير، لها سلبيتان:

الأولى: تجاوز الحدود.. إنَ التوتر يوجب فقدان السيطرة، وبالتالي تجاوز الحدود.. فالإنسان عادةً يتجاوز الحدود مع من لا يحبه، حيث أنه ليس هناك إنسان يغتابُ أمهُ أو أباه؛ لأنّهُ يحبهما.. وإنّما يغتاب من له مُشكلة معه: كالشريك المخاصم، أو الزوجة المخاصمة، وإلا ليس هناك إنسان يذكر عيوبَ زوجتهِ التي يحبها!..

الثانية: الغيبة.. قد يكون الإنسان عادلاً، وقمة العدالة: أن يلتزمَ الإنسان الحدود في الرضا والغضب، فكما أنه لا يغتاب أمهُ وأباه، لا يغتاب أيضاً شَريكهُ الذي لُه معه مشكلة في المحاكم مثلاً!.. لأن الغيبة هي الغيبة، إلا من ظُلم التي هي من استثناءات الغيبة، كما في قوله تعالى: ﴿لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ﴾.. فالإنسان الذي لَهُ مشكلة معَ الغير -وإن كان عادلاً- هذا الأمر يشوش باله؛ لأن هذهِ الخصومات تأتيه في الصلاة، وفي المنام، وفي اليقظة، إلى درجة أنه -بعض الأوقات- قد يتحدث معَ نفسه حديثاً مسموعاً، والأمرُ إذا تفاعلَ أكثر قد يصل إلى مراحل خفيفة من الجنون.

فإذن، لابدَ أن تكون لنا بيئة آمنة.. هذهِ الأيام المنظمات العالمية، تعمل دعايات حولَ سلامة البيئة من الحشرات والحيوانات الضارة، والحال بأننا بحاجة إلى سلامة البيئة الباطنية!.. فالمؤمن لَهُ بيئة سليمة في الباطن، ومن علامات سلامة البيئة: أن يكون الإنسان مستولياً على ساعات نومهِ ويقظته؛ أي لَهُ سيطرة على باطنه.. بخلاف الذينَ يتقلبونَ في الفراشِ إلى الصباح، ولا ينامونَ من القلقِ والاضطرابِ وغيرهِ.. هذهِ إحدى العلامات، وإلا قد يكون الإنسان مُضطرباً، وينامُ لشدة اضطرابه.. ولكن بشكل عام: المؤمن الذي لهُ علاقة سوية معَ الجميع؛ إنسان هادئ المزاج.

العلاقة مع الغير..
إن العلاقة معَ الغير على قسمين:
– علاقةٌ متقطعة: وهي العلاقة التي تكون مع من هم خارج الأسرة؛ كزميل العمل، والشريك، والجار، والصديق، والأرحام أيضاً يمكن أن نعتبرهم خارج دائرة الأسرة.. إن التعامل مع الغير خارج الأسرة، يختلف عن التعامل داخل الأسرة.. حيث أن التعامل خارج الأسرة فيهِ: ضوابط، وحشمة، وحدود قهرية.. فالإنسان في العمل يُراعي آداب الوظيفة والعمل؛ لأنّهُ إذا احتدَ في الكلام، قد يُرفع عنهُ تقرير، وإذا تكرر هذا الأمر يُنذر، ثمَّ يُفصل منَ العمل.. لذا، قد يكون الإنسان حاد المزاج، ولا يُطاق في المنزل؛ ولكن في العمل يكون في غاية الانضباط؛ خوفاً على سمعته.. بعض الموظفين لهم نظرية لا بأسَ بها؛ ولكنها ناقصة!.. يقول: إياكَ أن تقوم بمخالفات أخلاقية داخل دائرة العمل؛ لأن هذا يضرُ برزقك، ويشوه سمعتك!.. هذا الانضباط جيد، ولكن لابدَ أن يُضافَ إليهِ الانضباط في كًلِ ميادين الحياة.

إن البعض يكون منضبطاً في التعامل مع الغير: شهوياً وغضبياً، آداباً وسلوكاً.. ولكن هذا كلهُ يعودُ إلى حُب الدُنيا؛ لأنه يخافُ على لقمة عيشه، لذا فإنه يتجاوز النظرة المحرمة، والحديث الشهوي؛ حفاظاً على رزقه.. وعليه، فإن حب الدُنيا هو الذي يجعلهُ منضبطاً، كما في بلاد الغرب، حيث يسود النظام؛ مما يجعل المرء ينظر إلى غير المسلمين بإعجاب!.. ولكن هذه النظرة غير دقيقة؛ لأن هذا الانضباط منشؤه حُب الدُنيا وحُب الذات.. فهؤلاء عندما يأتون إلى بلاد المُسلمين، قد يقتلون ويبيدون ويفسدون في الأرض؛ دون أي رادع!.. وبالتالي، فإن هؤلاء ليسَ لديهم أخلاق، وإنما دنياهم متوقفةٌ على الانضباط، هم يُريدون أن يستمتعوا وأن يعيشوا عِيشة جميلة، لذا يتفق الجميع على احترام القوانين كي يعيشوا عيشة هنيئة.. وإلا فإنهم مستعدون أن يضعوا القوانين الإلهية والبشرية تحتَ أقدامهم في أي وقت!.. وبالتالي، فإن هذا ليسَ منَ الأخلاق في شيء، إنما هو عبارة عن انضباط عَملي؛ هم في مقام العمل كالجنود في المُعسكرات: يمشون بكل أدب، وعندما يخرجون منَ المُعسكر يرتكبون الجرائم.. فإذن، ينبغي أن لا ننبهرَ بذلك.. فلو أن هذا الإنسان المنضبط في بلاده، كانَ منضبطاً في كُل أيام حياته، حتى معَ من يخالفهُ الرأي، عندئذ تعتبر هذهِ مزية أخلاقية؛ وإلا فلا!..

– علاقةٌ رتيبة: وهي العلاقة التي تكون مع الأبوين، والزوجة، والأولاد.. هذهِ المعاشرة اللصيقة لها مشاكل، من مشاكلها:
أولاً: الرتابة والملل.. إن الشاب المقبل على الزواج، قبلَ أن يبحث عن جمال المرأة، عليه أن ينظر إلى رصيدها الباطني.. فبعض الفتيات كالثمرة الخاوية: شكلها جميل ومُغرٍّ، ولكن عند الأكل لا يجد فيها: لا حلاوة، ولا طراوة.. بعض الفتيات هكذا: تملك جمالاً ملفتاً، ولكن بعد الانتهاء من شهر العسل، ينتهي كل شيء ويبقى البَدن.. وإذا بها لا تملك فِكراً متوقداً، ولا إيماناً مُنيراً، ولا أنساً بالله عزَ وجل.. وهذه قاعدة: لكلِ جديدٍ بهجة!.. فرب العالمين ابتلى أهل الدنيا بهذه البلية: فأفخم القصور بعد يوم أو يومين، لا يرى صاحبها فيها جمالاً.. والناس الذين يعيشون في بلاد الاصطياف، حيث المناظر الخلابة، لا يرون فيها أي جمال؛ لأنهم اعتادوا النظر إليها!..

ثانياً: ذِهابُ الحِشمة.. إن بعض الأزواج قد يكون من المواظبين على المساجد، وكأنّهُ من الذائبينَ في محبة اللهِ تعالى.. ولكن عندما يأتي إلى البيت، يصبح إنساناً آخر: يتكلم بكلام فاحش، وغير لائق، ولو أنَ هذا الكلام وصلَ للحاكم الشرعي، قد يُقام عليهِ الحَد.. وما ذلك إلا لأنَ الحشمة زالت، فهو لا يرى أمامهُ أحداً.. هو في العمل، وفي المسجد، وأمامَ الأقران، وأمامَ النظراء؛ في غاية الأدب.. ولكن عندما يعود إلى المنزل، كما ينزع ثيابهُ ينزعُ حياءهُ.. والحال بأنَ المؤمن ليسَ هكذا!.. بعض المؤمنين عندما يجلس معَ زوجتهِ، يجلس بكل أدب واحترام، ويتكلم بأدب، ويخاطبها بألفاظ المحبةِ واللطف؛ وكأنّهُ في اليوم الأول للزواج، والبعض لا ينادي زوجتهُ إلا بأمِ فُلان.. نعم، هذا أدب المؤمن إذ أنه لا يُسقط الحِشمة إلى آخرِ أيامِ حياته؛ لأنَ الرقيب هو الرقيب.. فهو يحترم زميلتهُ في العمل؛ لأنَ هُنالكَ كاميرا مُسلطة عليه، والمُديرُ يُراقبه.. وفي المنزل أحكم الحاكمين وأشد المعاقبين، يُراقبهُ في كُلِ سَكنة وحَركة.. ولهذا المؤمن ليسَ لَهُ جدار في حياتهِ، بل كأنّهُ يعيش في قاعة مفتوحة: ليسَ هُنالكَ عَمل، وليس هُنالكَ منزل، وليس هُنالكَ وطن، وليس هُنالكَ سَفر.. الدُنيا عندهُ قاعة واحدة، ورَب العالمين هو الرقيب في هذهِ القاعة الكُبرى.

ثالثاً: المقارنة.. إن من سلبيات المعاشرة اللصيقة، عنصر المقارنة.. حيث أن الزوج بحكم رؤيته لزوجته صباحاً ومساءً، أصبح يعرف كل عيوبها؛ لذا فإنه عندما يرى امرأة أخرى فإنه يعجب بها ويتمنى لو أنه تزوجها، حتى ولو بعدَ مرور ثلاثين سنة على زواجه، وبعدما أنجب من زوجته ما أنجب!.. بينما المؤمن يرضى بما قَسمَ الله -عزَ وجل- له، حتى لو ابتلي بما ابتليَ بهِ بعض الأنبياء: كنوح ولوط (عليهما السلام) اللذين ابتليا بأسوءِ نساء في التأريخ.. حيث أن بعض الأمور لا يُمكن التراجع فيها، وبما أنه مشى في هذا الطريق، فليس هُنالكَ من دوران إلى الخلف.. ولو فُرضَ وابتُلي بمشكلة المقارنة، عليه أن يتصف بـ:

١. الواقعية: إن المؤمن إنسان واقعي، يعلم أنه لم يتزوج امرأة مثالية، فكما أنه هو ليس بزوج مثالي، وليس خالٍ من العيوب؛ هي كذلك!.. فكل إنسان غير المعصوم خطاء، كُلنا أصحاب عيوب.. لذا، عليه أن يرضى بما قسمَ الله -عزَ وجل- له.

٢. الصبر: فقد حثّ رسول الله () الزوج على الصبر على سوء خلق الزوجة، فقال: (من صبر على سوء خلق امرأته؛ أعطاه الله من الأجر ما أعطى أيوب (عليه السلام) على بلائه.. ومن صبرت على سوء خلق زوجها؛ أعطاها الله مثل ثواب آسية بنت مزاحم).

٣. الأمل: إن المؤمن كله أمل بالله -سبحانه وتعالى- لذا فإنه يطلب التعويض في الذُرية؛ لأن الله تعالى ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾.. فبعضُ كبار أصحاب الأئمة (عليهم السلام) كانوا من أصول غير مُسلمة.. أي أن آباءهم كانوا كافرين، ولكن أنجبوا أولاداً صاروا من كبار أصحاب أئمة أهل البيت، وأسماؤهم مُسجلة في التأريخ.. فمن بَطنِ كافر يَخرجُ وَلد مؤمن، يصبحُ من أصحاب الإمام الصادقِ (عليهِ السلام) مثلاً.. فإذن، المؤمن يسأل الله -عزَ وجل- أن يعوضه في ذُريته وفي أحفاده.

استراتيجية أخذ القرار..
إن الإنسان الذي يأخذ سَيفاً أو بندقية ويقتل بهِ إنساناً؛ هذهِ حركة نهائية.. فهو قبلَ أن يُطلق الرصاص على الخَصم، مرَّ بتفاعلات كثيرة، ولعله بقي لعدة سنوات وهو يتفاعل، وفي لحظة من اللحظات قامَ بما قام.. فإذن، هنالك:
١. التصور: كأن يرى الإنسان بعض الحركات من أحدهم، فيجعله في خانة الأعداء، مثلاً: ألقى عليه التحية، فرد عليه السلام بفتور؛ فيعتبر أن هذا الإنسان يضمرُ له شَراً .. ثم طَلب منهُ حاجةً، فلم يقضها له؛ يعتبرها قرينة ثانية.. ودعاه للمنزل في وليمةِ عِرسٍ أو غيرهِ، ولم يستجب؛ فهذهِ علامة ثالثة.. وهكذا تجتمع القرائن، فيصور الإنسان في بالهِ صورةً موحشة، لدرجة أنه عندما يتذكره قد تبدو علامات الاشمئزاز على وجهه.. فإذن، هو رَكبَ في ذهنهِ صورةً قبيحةً عن هذا الإنسان.. هُنا الرَيشة بيده، ولكن الذي يرسم هو الشيطان اللعين الرجيم، حيث يصور لهَ الأمور على خلاف ما هيَ عليه.

٢. التصديق: بعدَ فترة تتحول هذهِ الهواجس إلى رؤية حقيقية، فيحكم على ذلك الشخص.. وإذا حَكمَ عليه، فإن هذهِ الفكرة تُغلف بغلاف عاطفي: حُباً وبغضاً.. وكما هو معلوم أن حُب الشيء يُعمي ويُصم: فالشاب الذي تبتسم له فتاة، يعتقد أنها تريده زوجاً لها، وهكذا العكس: الفتاة تعتقد أن هذا هو فارس أحلامها.. فالتغليف العاطفي يأتي حُباً هُنا، وبغضاً هُناك.. تكون الفكرة في جانب، والتغليف العاطفي في جانب، وإذا بهما يتفاعلان، كما في الإنفجار الذري: حيث هُناكَ كُتلتان إذا التصقتا؛ تَولدَ الوزن الذري للإنفجار.. فالفكرة السيئة أو الإيجابية معَ الحُبِ أو البغض إذا التصقتا؛ تُولد الإرادة.. عندئذ الإنسان يُقدم إما على الزواج أو على الطلاق: إذا كانَ حباً للزواج، وإذا كانَ بغضاً للانفصال.. هذهِ تقريباً آلية أخذ القرار في وجود الإنسان.

كيفية التحكم في آلية أخذ القرار..
– في عالم التصور:
١. تصفية الروافد الباطنية: إن المؤمن يحاول أن لا يفكر إلا كما ينبغي، ولا يجعل الوهم يغلب عليه!..

٢. الفراسة: كما في الدعاء: (اللهمَ!.. أرنا الأشياءَ كما هي).. يقول: يا ربِ، عَرفني نفسي.. عرفني من أتعامل معها: زوجتي هذهِ من؟.. ما وزنها عندك؟.. كيف أتعامل معها؟.. ما هيَ خصوصياتها الأخلاقية؟.. البعضُ لا يعلم من زوجتهِ إلا بشرتها، ولا يعلم شيئاً عن باطنها!.. فإذن، من أكبر النعم على المؤمن، أن يرى الأشياءَ كما هيَّ، بلا رتوش، لا زيادةً ولا نُقصاناً.. فالمؤمن يُعطى فراسة، لذا فهو من اليوم الأول الذي يتعرف فيهِ على شخص، يعلم صدقه من كذبه، وأمانته من خيانته.. طبعاً هذا سِر لا يجوز ذكره لأحد، ولكن معَ الأيام وإذا بهِ يرى أنَ ما توقعهُ كانَ في محله.

٣. التوسل: إن المؤمن يدعو ربه دائماً، ويتوسل بأوصيائه؛ كي يلهمه حسن التصرف، ويعرّفه نفسه، ومن يتعامل معه.

٤. حسن الظن: إن المؤمن يحاول أن لا يجعل للشيطانِ عليهِ سبيلاً، وكُلما جاءته تصورات، ينظر إلى المنشأ: إن كانَ يُطابق سوء الظن يرفضه، ويجعل المؤمنين في خانةِ حُسن الظَن، فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (فإن شهد عندك خمسون قسامة، أنه قال قولاً، وقال: لم أقله.. فصدقه، وكذبهم).

الدرس العملي:
١. إن الإنسان الذي يريد أن يأخذَ قراراً صائباً، عليه أن يتحكم في روافد الوهمِ والخيالِ عندهُ.. لأنه إن تحكم في رافد الوهمِ والخيال، فإن التغليف العاطفي والإرادة العملية عنده، تصبح تحتَ السيطرة.

٢. إن المؤمن يدعو اللهَ -عز وجل- دائماً وأبداً قائلاً: “اللهم!.. عَرفني نَفسك، وعَرفني نبيك، وعرفني حُجتك”.. ثمَ يقول: “اللهم!.. عَرفني نفسي”.. فمن وصايا النبي الأكرم () لأبي ذر: (يا أبا ذر!.. إذا أراد الله -عزّ وجلّ- بعبد خيراً : فقّهه في الدّين، وزهّده في الدنيا، وبصّره بعيوب نفسه).

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.