Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

الآداب الباطنية لحضور المجالس الحسينية..
إنَّ لكُل حَركةٍ عبادية ظاهراً وباطناً، كالحج، والصلاة والصوم.. فالصلاةُ أركان عبادية جوارحية، من التكبيرِ إلى التسليم، ولكن باطن الصلاة؛ أنها معراج المؤمن!.. فالذي لا يعيش بُعدَاً باطنياً في الصلاة، هذا الإنسان ما أقامَ الصلاةَ حَقَ إقامتها، إنما أدى ظاهرها.. وحضورِ المجالسِ أيضاً في هذا السياق: فالإنسان الذي يذهب إلى المجالس، ويستمع، ويتأثر، وقد يبكي؛ ثمَّ يعود وكأن شيئاً لم يكن؛ هذا الإنسان كأنه لم يحضر المجالس.. فالبعض قد تَمرُ عليه عشرات المواسم، وهو على هيئتهِ لا يتغير فيه شيء.. حيث أن هناك محطات عديدة في السنة: كشهرِ رمضان المُبارك، وموسم الحَج، وشَهرِي مُحرم وصفر، وشهري رَجب وشعبان؛ هذه المحطات إذا أتقنا الاستفادة منها؛ خرجنا بفائدة كبيرة.. والذينَ لا يجدونَ في أنفسهم تَقدماً للأمام؛ عليهم أن يعيدوا النظر!.. فالإنسان الذي لَهُ محل تجاري في وسط السوق، ورأس مالهِ مليون دينار، ولكن في آخر السنة لا يجد في حسابهِ إلا ألفَ دينار؛ فهو في موضع المساءلة!.. لأن الرأس مال يُعتد بهِ، والموقع يُعتدُ بهِ، فلمَ هذا الربح القليل؟.. فكيفَ إذا كان هناك خسارة، كما يقول القرآن الكريم: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾.

ميزان حرارة القلب..
إن الإنسان بإمكانه أن يعلم وضعه من خلال الصلاة بينَ يدي الله -عز وجل-؛ فهي المقياس.. ووصية علي -عليه السلام- لمحمد بن أبي بكر، من أروع الوصايا في هذا المجال، فقد قال في كلمة جامعة: (واعلم أنّ كل شيء من عملك؛ تبع لصلاتك.. فمَن ضيّع الصلاة؛ فإنّه لغيرها أضيع)!.. وعليه، فإن الصلاة هي ميزان الحرارة بالنسبة للقلب.. فالبعضُ صلاته بعد خمسين عاماً، كصلاته في أول يومٍ منَ التكليف.. بينما المؤمن يتأسى بسيد الشُهداء -عليه السلام- في هذا المجال بأمرين:

الأمر الأول: حب الصلاة.. إن الإمام الحسين -عليه السلام- طلبَ مُهلة من القوم ليلة إضافية، حتى يُصلي للهِ -عَزَ وجل-.. فأمنيتهُ من هذهِ الدُنيا، أن يُصلي بينَ يدي رَبه، قال الإمام الحسين -عليه السلام- لأخيه العباس: (ارجع إليهم!.. فإن استطعت أن تؤخرهم إلى غد، وتدفعهم عنا العشية.. لعلنا نصلي لربنا الليلة، وندعوه، ونستغفره.. فهو يعلم أني قد كنت أحب الصلاة له، وتلاوة كتابه، وكثرة الدعاء، والاستغفار).

الأمر الثاني: صلاة أول الوقت.. إن الإمام الحسين -عليه السلام- يوم عاشوراء، صلى صلاة أول الوقت، ولكن هذه الصلاة كانت مميزة ومكلفة، بسبب ما أصابَ أصحابهُ منَ الأذى في ذلكَ اليوم العصيب أثناء الصلاة!.. حيث “قام الحسين إلى الصلاة، فقيل: إنه صلى بمن بقي من أصحابه صلاة الخوف، وتقدم أمامه زهير بن القين، وسعيد بن عبد الله الحنفي في نصف من أصحابه، يصدون عنه ما يرمى به من: رماح، وسيوف، وسهام، وحجارة.. حتى أُثخن سعيد بالجراح، فسقط إلى الأرض وهو يقول: اللهم!.. العنهم لعن عاد وثمود، وأبلغ نبيك مني السلام، وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح؛ فإني أردت بذلك ثوابك في نصرة ذرية نبيك -صلى الله عليه وآله وسلم-، والتفت إلى الحسين قائلاً: أوفيت يا ابن رسول الله؟.. قال: نعم، أنت أمامي في الجنة.. وقضى نحبه، فوجدوا فيه ثلاثة عشر سهماً غير الضرب والطعن”.

آداب حضور المجالس الحسينية..
أولاً: البكاء.. إن من أهمِ آداب الحضور؛ التفاعل والبكاء.. فالبكاء وإن كان في ظاهره عبارة عن غُدة دمعية في زاوية العين، تفرز قطرات ملحية؛ إلا أنه من الظواهر العجيبة في عالم الوجود!.. فالأعضاء في بدن الإنسان قسمان: قسم غير اختياري: كالقلب، والرئتين.. وقسم اختياري: كاليد والرجل.. فالإنسان بإمكانه أن يقفَ على رجليه، ويمدَ يديه؛ ولكن إن أراد أن يوقف قلبه؛ فالأمرُ ليس بيده.. وهذهِ من نعم الله -عزَ وجل- علينا أن جعل هذهِ الأعضاء خارج الاختيار!.. والدمعة أيضاً غير اختيارية، إنما هي حصيلة تفاعل القلبِ معَ الفكرة.. فمثلاً: الإنسان الذي مات له ابن قبلَ سنوات، أو قبلَ أشهر؛ فإنه يتذكر ولده بمجرد أن يرى شاباً يمر أمامه.. فيرق قلبهُ، وإذا بالدمعة تجري على خديه؛ وهذهِ من أعاجيب عالم الوجود!..

كيفَ نبكي في هذا الموسم؟..
لو كانَ الأمرُ بيد الإنسان، لسكب ما أراد منَ الدموع؛ ولكن الأمر ليسَّ باختياره.. فالإنسان يبكي عندما يرقّ قلبه، والقلب يرقّ في حالتين:

– الحالة الأولى: عندما يصير القلب متفاعلاً معَ الفكرة.. فالإنسان الذي لا يحضرُ المجالس، ويدّعي أنه يفكر في قضية الحُسينِ -عليهِ السلام- وهو جالس على شاطئ البحر -مثلاً- أو أمام التلفاز؛ فهذا الإنسان قد لا يتفاعل!.. حيث أن هناك من يستغني عن حضور المجالس الحسينية، بدعوى مشاهدة القنوات الفضائية التي تبث المجالس؛ فهذا الأمر غير مقبول، ولا يُعدُ حضوراً لمجالس الحُسينِ -عليهِ السلام-، إنما هو استماع ومشاركة جيدة!.. فهذا الأمر يكون في محله: للمعذور، والمريض، والذي في غير بلاد المسلمين.. فهل الإنسان الذي ينظر في موسم الحَج إلى التلفاز، ويرى الطواف والسعي؛ له أجر من يطوف ويسعى؟.. شتانَ بين البث المُباشر لمراسم الحَج، وبين من يهرول بينَ الصفا والمروة!.. وكذلك بالنسبة إلى المجالس، إذ لابدَ من حضور المجالس؛ فهذا الحضور لَهُ خصوصية مُضاعفة، لأسباب منها:
١. الرحمة الغامرة: إن هنالك رحمة جماعية في هذه الأماكن، وهنالك فيض ومدد إلهي ورحمة إلهية؛ تغمرنا ببركة البعض.
٢. النفحات الإلهية: إن هنالك تأثيرات غير مرئية في أماكن العبادة؛ أي هنالك نفحات إلهية، وعناية إلهية لهذا الجمع.. وهذه النفحات لا تأتي من خلال الجلوس أمام التلفاز.
٣. إحياء أمرهم: إن حضور هذه المجالس، ينطبق عليه قول الإمام الصادق -عليه السلام-: (أحيوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا)!..
٤. تعظيم الشعائر: إن عدم الحضور، يوجب الوهن في إقامة الشعائر.. فنفس التواجد الكثيف؛ فيه توقير لتلك المناسبة، وتعظيم لتلك الشعيرة.. ورب العالمين يحب أن تعظم شعائره.

– الحالة الثانية: عندما يصير القلب طاهراً بدرجةٍ من الدرجاتِ.. والقلب يصير طاهراً من خلال:
١. ترك المعاصي والذنوب: احتراماً لهذه الليالي والأيام، على الإنسان أن لا يرتكب أدنى صور المعاصي.. فكم من القبيح أن يرجع الإنسان من مجلس حسيني، وقد تفاعل فيه، وإذا به يبيع كل هذه المكاسب بنظرة محرمة!..
٢. الاستغفار: ينبغي للإنسان في أول كل موسم عبادي -أول مًحرم، وفي أول أيام شهر رمضان المُبارك، وقبلَ السفر إلى الحج- أن يجعل له جلسة مصافاة مع رب العالمين.. فالذي لا يجلس بين يدي الله -عز وجل- مستغفراً، من الطبيعي أن لا يذرف دمعة واحدة، سواء في الحج، أو ليالي القدر، أو ليالي محرم.
٣. الالتجاء إلى الله: أول خطوة يقوم بها الإنسان، هي أن يلتجئ إلى اللهِ -عَزَ وجل-، ويطلب منه أن لا يختم على قلبه في هذهِ الأيام.. فالقلب القاسي مرتبط بالجوارح العاصية، والجوارح العاصية مرتبطةٌ بالدموع الجافة والعيون الجامدة، فعن الإمام علي -عليه السلام- أنه قال: (ما جفت الدموع إلا لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب).

ثانياً: قصد التعلم.. يجب أن تكون نية الحضور هي: الاطلاع على ما يفتح القلب على الهدى الإلهي، والاستفادة الحقيقية والصادقة.. فهذه المجالس مجالس مُباركة جداً، وهي بحق جامعة كبرى!.. ومن هنا لا نرى أمة متمسكة، وملمة، ولها معرفة بعقيدتها؛ كإلمامِ أتباعِ مذهبِ أهل البيت -عليهم السلام-.. فالطفل الصغير منهم، يعلم معالم الدين، وله معرفة بأحداثِ عاشوراء، وبأبطال كربلاء.. وهذهِ الأيام هُناكَ جيل من الخُطباء الحسينيين دونَ سِنَ البلوغ، أحدهم لا يتجاوز الثالثة عشر من العمر، يرقى المِنبر، ويتكلم بما لا يعرفهُ كبار القوم.. وهذا من بركاتِ الدم الطاهر، الذي سُكبَ في يومِ عاشوراء.

ثالثاً: استنزال الرحمة الغامرة.. إنه موسم مبارك بعطائه، وإن كنا نعيش حالة الحزن والأسى.. فقتل الحُسين -عليهِ السلام- فجيعة، ولكنه من أكبرِ نعم اللهِ -عزَ وجل- على هذهِ الأمة.. فلو أنَّ الحُسين -عليهِ السلام- لم يُقتل، وماتَ ميتةً طبيعية؛ لما كُنا اليوم على ما نحنُ فيه: فرَحمة الله غامرةٌ هذهِ الأيام على من يمشي في هذا الركب: ركب الإباءِ والصمود.. فعن الإمام الرضا -عليه السلام- أنه قال: (يا بن شبيب!.. إن سرك أن تلقى الله -عز وجل- ولا ذنب عليك؛ فزر الحسين -عليه السلام-).. (يا بن شبيب!.. إن سرك أن تسكن الغرف المبنية في الجنة مع النبي (صلی الله عليه) فالعن قتلة الحسين -عليه السلام).. (يا بن شبيب!.. إن سرك أن يكون لك من الثواب مثل ما لمن استشهد مع الحسين -عليه السلام- فقل متى ما ذكرته: يا ليتني كنت معهم؛ فأفوز فوزا عظيما).. (يا بن شبيب!.. إن سرك أن تكون معنا في الدرجات العلى من الجنان: فاحزن لحزننا، وافرح لفرحنا، وعليك بولايتنا.. فلو أن رجلا تولى حجرا؛ لحشره الله -تعالى- معه يوم القيامة).

رابعاً: التغيير الجوهري.. إن الغرض من حضور هذه المجالس المباركة، هو أن يخرج الإنسان بثمرة، فيطلب من ربه أن يخرجه من هذهِ العشرة؛ بتغييرٍ باطنيٍّ جوهري.. حيث أن الخطيب قد يتكلم ويعظ خارجَ الموسم، ولكن كلامهُ لا يقع في النفوس.. أما عندما يرقى المنبر، وإذا بالكلام الذي كانَ يتكلمهُ بالأمس؛ صارَ لَهُ نور يدخل القلوب.. والمستمع الذي استمعَ إلى خطبة المتقين قبلَ شهر في مكانٍ ما، ولم يتفاعل؛ وإذا بهذه الخطبة يستمع إليها في عشرةِ مُحرم، وكأنها تدخل إلى شِغاف القلب؛ فهذه هيَ المُباركة الإلهية، يقول تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ}.. فإذن، لنذهب لهذهِ المجالس بدعوى التغيير الجوهري.

وهنيئاً لمن انتهى منَ الموسم، بتغيير جوهري في نفسه!.. والموسمُ للبعض هو أيام عاشوراء فقط، وللبعض شَهرُ محرم، وللبعض الآخر الموسم هو عبارة عن شهرين متكاملين، فإلى أيامِ أربعين الحُسين -عليهِ السلام- وهو ينتقلُ من مجلسٍ إلى مجلس.. والذي يعيش أجواء الحُزن والحداد، من الطبيعي أنه يستحي من النظر إلى محارم المسلمين، والذي يرتدي السواد لا يُعقل أن يستمع للغناء المُحرم!.. وبالتالي، فإنه يصبح مستقيماً.. والإنسان الذي يلتزم بهذين الشهرين، لا بكاء صباحاً ومساءً، وإن كانَ هذا ديدن إمام الزمان -عجل الله تعالى فرجه الشريف- ولكن لهُ مسحة من الحزن في هذهِ الليالي والأيام؛ هذا الإنسان يُرجى أن يخرج منَ الشهرين، وقد أصبح ولياً من أولياء الله -عَزَ وجل-.. وهذه ليست بدعوى جُزافية: فبعض كبار التائبين، سبب عودته إلى طريق الحَق -بعد أن كان عبداً آبقاً- أنه كانت له صلة متميزة بسيد الشهداء -عليه السلام-: كان عندما يدخل شهر محرم، يتوقف عن الفسق والفجور.. والبعض في أيام محرم، يستقيم ويصل إلى درجة يمكن الصلاة خلفه جماعة!.. فلمَ لا يثبت الإنسان هذهِ الاستقامة طوال العام!.. وهنيئاً لمن استقى من نهر الحُسين -عليهِ السلام- وبقى معهُ إلى آخر عُمرهِ، ليلتقي على حوض أبيهِ أمير المؤمنين -عليه السلام-!..

خامساً: التفاعل التوحيدي.. هل هُنالكَ مُنافاة بينَ أن نتوجه إلى سيد الشهداء -عليهِ السلام- وبينَ أن نتوجه إلى رَبه؟!.. فالبعضُ يقسم السنة إلى محطتين: محطة توحيدية، وهي: شهر رمضان المُبارك، حيث المناجاة، والعمرة، والصيام، والإحياء، وقراءة قُرآن.. الخ.. ومحطة ولائية، وهي: شَهري مُحرم وصَفر؛ فمحرم شهر الشهادة، وصفر شهر الصبر والتحمل والتبليغ!.. ولكن لا فرق بينهما، فالحُسين -عليهِ السلام- في يومِ عَرفة، كان يناجي الله -عز وجل- بهذه العبارات العرفانية: (أَيَكُونُ لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهُورِ ما لَيْسَ لَكَ، حَتّى يَكُونَ هُوَ الْمُظْهِرَ لَكَ، مَتى غِبْتَ حَتّى تَحْتاجَ إِلى دَليل يَدُلُّ عَليْكَ؟!.. وَمَتى بَعُدْتَ حَتّى تَكُونَ الآْثارُ هِيّ التّي تُوصِلُ إِلَيْكَ؟!.. عَمِيَتْ عَيْنٌ لا تَراكَ عَلَيْها رَقيباً!… ماذا وَجَدَ مَنْ فَقَدَكَ، وَمَا الَّذي فَقَدَ مَنْ وَجَدَكَ)؟!.. وهذا الذي كان مشتغلاً به يوم عاشوراء أيضاً، فقد كان يعيش أجواء توحيدية عليا، رغم أن الدم يفور من بدنه، وكله جراح وآلام، وهو يناجي رب العالمين قائلاً: (إلهي!.. رضا بقضائك، وتسليماً لأمرك، لا معبود سواك).. فختم حياته بالمناجاة بين يدي الله -عز وجل-، ولم يقطع هذه المناجاة الخاشعة، إلا عندما رأى القوم يهجمون على خيامه، فقال: (يا قوم!.. أقصدوني بنفسي واتركوا حرمي).. ولولا هجوم القوم على حَرمهِ، لبقيَ الإمام -عليهِ السلام- في حالته.. فإذن، إن حالة الإمام -عليه السلام- في يوم عاشوراء، كحالته يوم عرفة.. فالحُسين -عليه السلام- وقّعَ على ورقة التوحيد بدمائهِ الطاهرة!..

سادساً: التعرض لسفينة النجاة.. إن اللحظات الأخيرة التي مرت على سيد الشهداء -عليه السلام-، لا يعلمها إلا الله عَزَ وجل!.. فهذه الدموع التي جرت على خَدهِ في مُناجاةِ رَبه، واختلطت بدماء نحرهِ؛ هذا الخَليط هو رأسُ مال النجاة.. فـ: “الحُسين -عليهِ السلام- مصباح الهدى، وسَفينةُ النجاة”.. فالسُفنُ في البَحرِ على أشكال: هناك سفن تنقلُ البضائع؛ طَلباً للمال.. وهناك سفنٌ لإنقاذ الغرقى، ليس فيها متاع ولا تجارة، إنما عملها البحث عن الغَرقى.. فلو أن هناك إنساناً يغرق في البحرِ، فهذه السفينة -سفينة الإنقاذ- تأتيه؛ لتنقذه.. والحُسين -عليهِ السلام- كذلك، فهو يطوفُ بروحهِ المُباركة هذهِ الأيام على المجالس، وينظر إلى الذينَ يقولون: يا أبا عبد الله، خُذ بأيدينا!.. وإلى الذينَ يقولونَ في دُعائهم: اللهم اجعلني عندكَ وجيهاً بالحُسين -عليهِ السلام-، وإلى الذين يقولون: (اللهم!.. اجعلني في مقامي هذا ممن تناله منك صلوات ورحمة).. لذا، فإن المؤمن يحاول أن يتعرّض لسفينة النجاة.. فالإمام الرضا -عليهِ السلام- في مثلِ هذهِ الأيام يقول لابن شبيب:

(يا بن شبيب!.. إنَّ المحرم هو الشهر الذي كان أهل الجاهلية فيما مضى، يحرّمون فيه الظلم والقتال لحرمته، فما عرفت هذه الأُمة حرمة شهرها ولا حرمة نبيها (صلی الله عليه)، لقد قتلوا في هذا الشهر ذريته، وسبوا نساءه، وانتهبوا ثقله؛ فلا غفر الله لهم ذلك أبداً…..)؛ أهل الوأد والزنا والقتل والغارات، يحترمون هذا الشهر.. وإذا بأمة الإسلام، يقومون بذلك العمل؟!..
(يا بن شبيب!.. إن كنت باكياً لشيء، فابك للحسين بن علي بن أبي طالب -عليهما السلام-؛ فإنه ذبح كما يذبح الكبش، وقتل معه ثمانية عشر رجلا من أهل بيته، ما لهم في الأرض شبيهون.. ولقد بكت السماوات السبع والأرضون لقتله، ولقد نزل إلى الأرض من الملائكة أربعة آلاف لنصره، فوجدوه قد قتل، فهم عند قبره شعث غبر إلى أن يقوم القائم (ع) فيكونون من أنصاره، وشعارهم: “يا لثارات الحسين”).. وصفَ جَدهُ بعبارةٍ واحدة، هذهِ العبارة كافيه لأن تحرق القلوب إلى يوم القيامة.. ولكن كيف نظرت ملائكة السموات إلى ذلكَ اللعين، وهو جالسٌ على صَدره؟.. ذلكَ الصدر الذي طالما قَبلهُ رسول الله!.. يومٌ على صدرُ المصطفى، ويومٌ على وجه الثرى يجودُ بنفسه!..
(يا بن شبيب!.. إن بكيت على الحسين -عليه السلام- حتى تصير دموعك على خديك، غفر الله لك كل ذنب أذنبته، صغيراً كان أو كبيراً ، قليلاً كان أو كثيراً).. ولكن مهما بكينا، ومهما ذرفنا الدموع، لا نَصلُ إلى مستوى الإمام الحجة -عجل الله تعالى فرجه الشريف- حيث يخاطب جده الحسين -عليه السلام- قائلاً: (يا جداه!.. لئن أخرتني الدهور، وعاقني عن نصرك المقدور.. ولم أكن لمن حاربك محارباً، ولمن نصب لك العداوة ناصباً.. لأندبنك صباحاً ومساءً، ولأبكين عليك بدل الدموع دماً).. فمن أعظم المصائب عليه -عجل الله تعالى فرجه الشريف- ما جرى على نساء الإمام، لأن المؤمن غيور؛ فكيفَ بإمام المؤمنين؟!..

الخلاصة:

١. أن لكُل حَركةٍ عبادية ظاهراً وباطناً، وحضورِ المجالسِ أيضاً في هذا السياق: فالذي يذهب إلى المجالس، ثمَّ يعود وهو على هيئتهِ لا يتغير فيه شيء؛ فهذا لم يحضر المجالس.

٢. أن الإنسان بإمكانه أن يعلم وضعه من خلال الصلاة بينَ يدي الله -عز وجل-؛ فهي ميزان الحرارة بالنسبة لسلامة القلب.

٣. إن التفاعل والبكاء من أهمِ آداب الحضور ،وهما حصيلة لطهارة القلب وتفاعلهِ معَ الفكرة.

٤. أن على المؤمن ألاّ يكتفي بمشاهدة المجالس الحسينية من خلال التلفاز بل لابدَ من الحضور فيها؛ لأن للحضور خصوصية مُضاعفة، ففيه تعرض للرحمة الغامرة والنفحات الإلهية، وتعظيم للشعائر وأحياء الأمر.

٥. أنه من أراد التفاعل والبكاء مع مصائب أهل البيت –عليهم السلام- عليه أول كل موسم عبادي أن يجعل له جلسة مصافاة مع رب العالمين، فيكثر الاستغفار، ويلتجئ إلى اللهِ -عَزَ وجل-ويطلب منه أن لا يختم على قلبه في هذهِ الأيام، ويجتنب ارتكاب حتى أدنى صور المعاصي.

٦. أنه على المؤمن أن تكون نية حضوره هي: الاطلاع على ما يفتح القلب على الهدى الإلهي، والاستفادة الحقيقية والصادقة، واستنزال الرحمة الغامرة، وأن يخرج منها بتغييرٍ باطنيٍّ جوهري.

٧. أن الإنسان الذي يلتزم في هذين الشهرين، بمسحة من الحزن في هذهِ الليالي والأيام؛ يُرجى أن يخرج منهما، وقد أصبح ولياً من أولياء الله -عَزَ وجل-، فبعض كبار التائبين، كانت صلته المتميزة بسيد الشهداء -عليه السلام- سببا لعودته إلى طريق الحَق .

٨. أن الحُسين -عليه السلام- وقّعَ على ورقة التوحيد بدمائهِ الطاهرة، فقد كان يعيش أجواء توحيدية عليا، رغم أن الدم يفور من بدنه الشريف.

٩. أن على المؤمن أن يحاول التعرّض لسفينة النجاة، فدموع الحسين –عليه السلام -التي جرت على خَدهِ في مُناجاةِ رَبه، واختلطت بدماء نحرهِ؛ هذا الخَليط هو رأسُ مال النجاة.

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.