Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

شكورية الرب..
إن ربّ العالمين شكور؛ يشكرُ عبده، رغم أنَ النعمةَ منه.. ومن مظاهرِ شكورية الله -عزَ وجل- ما جعلهُ في هذهِ الأمة من ذكر للأنبياء السلف، ومن هؤلاء الأنبياء: نبي الله إبراهيم -عليه السلام-.. فهذا النبي هو من أكثر الأنبياء حضوراً في حياة المسلمين؛ وذلك من خلال حركة الحج، وقد احتل مساحة كبيرة في القرآن الكريم.. حيث يصرّحُ باسم إبراهيم -عليه السلام- في حوالي سبعين آية.. وقد خُصَ من بين الأنبياء جميعاً بمزيتين:

المزية الأولى: أنّهُ جَدّ نبينا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-.
المزية الثانية: أنَّ حَجهُ صارَ سُنةً ثابتةً في هذهِ الأمة.

يقول تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}؛ أي ما من مسلم قادر، إلا وأُلزمَ أن يَشد الرحال إلى المعالم الإبراهيمية التي في وادٍ غير ذي زرع.. فرب العالمين بناؤهُ على التعويض لمن قدمَ شيئاً في سبيله في الدُنيا قبلَ الآخرة.. والدليل على ذلك: إبراهيم الخليل -عليه السلام- الذي حطم الأصنام، وحاول ذبح ولده، وأقام البيت؛ فخُلد ذكره في مكة: فنحن نطوف تأسياً بإبراهيم -عليه السلام-، ونسعى ونهرول تأسياً بزوجته هاجر، فالحج كله إحياء لذكر إبراهيم وهاجر وإسماعيل (ع): حجر إسماعيل، والجمرات، وماء زمزم، ومنى، ومسجد الخيف؛ كلها أعمال تذكر بإخلاص ذاك النبي الذي جُعل إماماً، بعد اجتيازه لبلاءات كبيرة وعظيمة.. هكذا عوضه رب العالمين؛ فإلى قيام الساعة وهذا الحج لن ينقطع!..

الدروس العملية:
إن إبراهيم الخليل -عليه السلام- هو نبي من أنبياء أولي العزم، ومن الممكن أن نستلهم الكثير من حياته:

أولاً: تهيئة الأرضية.. إنَّ الهبات الإلهية لا تُعطى جزافاً، إنما يجب على العَبد أن يُهيئ الأرضية؛ عندئذ يأتي المدد الإلهي.. يقول تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}؛ فلولا المدد؛ لما نفعت العبد أرضيتهُ.. ولولا أرضية العبد؛ لما نَزل َالمدد، وكذلك يقول الله -عز وجل- في كتابه الكريم: {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}؟.. أي رَبّ العالمين هو الذي أنبتَ النبات، ولكن لمن بَذرَ البذرة، وسقى الزرع.. فإبراهيم الخليل -عليه السلام- لم يصل إلى ما وصل إليه جزافاً، إنما اجتاز وبنجاح ابتلاءات كثيرة، يقول تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}.. إذاً هُنالكَ ابتلاءٌ ثُمَ اصطفاء!.. بعض الناس همتهُ ضعيفة، وتحملهُ للبلاءِ ضعيف، يُريد بدعوةٍ في جوف الليل، أو بسفرةٍ إلى المشاهد المشرفة، أن يصل إلى أعلى الدرجات الإلهية؛ بينما المقام مقام تمحيص!.. وما يؤكد هذا القول، بعض الآيات التي وردت في القرآن الكريم: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}، {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا}، {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ}..الخ.. وما ذلك إلا {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}.. فإذن، إن الأمر يحتاج إلى صبر ومجاهدة!..

ثانياً: نفي الظلم.. يقول تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}.. رب العالمين لا يجعل عدله وفضلهُ ولطفهُ؛ إلا في الإناء القابل.. والإنسان الظالم لنفسه أو لغيرهِ، هذا بعيدٌ عن الرحمة الإلهية الغامرة.. فرب العالمين بعثَ إبراهيم إماماً بعدَ أن كانَ نبياً، عندما نفى الظُلم عن نفسه.. لذا، ينبغي للمؤمن أن يكتشف ثغرات الظلمِ في حياته؛ لينفيها عن نفسه.

ثالثاً: الوجل.. من الصور الإبراهيمية في القُرآن الكريم حالة الخَجلِ والوجل، فبعد بناء البيت يقول إبراهيم -عليه السلام-: {… رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.. أي: يا ربَ العالمين، أنا وإسماعيل نبني بيتك الحرام، ولكن القَبول منك، ولولا هذا القبول ما قيمة هذا العمل؟.. المؤمن لا يَركنُ إلى شيءٍ من عمله، فهذهِ الكعبة تعرضت للهدمِ والغَرقِ والسيلِ وغيره، وطوال التأريخ هناك الكثيرون قاموا ببنائها، ولكن ليس كُل من بنى الكعبة قُبلَ عمله!.. إبراهيم فقط هو الذي تقبل اللهُ -عزَ وجل- عملهُ؛ فصارَ خالداً!.. إذ أنه ليس هناك عَمل أعظم من بناء البيت!.. ولكن هذا البناء إذا لم يكن مرضياً وممضياً؛ فلا قيمة له.. ولو بنى الإنسان بيتاً لزوجتهِ؛ قُربةً إلى اللهِ عزَ وجل؛ أشرف من أن يبني بيت الله -عز وجل- ولكن للمباهاةِ والتفاخر!.. فرَب العالمين ينظر إلى قلوبكم ولا ينظر إلى أبدانكم.. عن رسول الله -صلى الله عليه وآله- في وصيته لأبي ذر: (إنّ الله -تبارك وتعالى- لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم؛ ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).

رابعاً: الدعاء.. العامل عادةً عندما يعمل يطلب أجرتهُ، وإبراهيم -عليهِ السلام- عندما بنى البيت، طَلبَ من الله -عزَ وجل- الجائزة فقال: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.. ما معنى الإسلام هُنا: هل المراد به الشهادتين؟.. أم المراد العمل بالظواهر والفروع الدينية؟.. والله العالم هُنا إشارة إلى الملكات والصفات الباطنية، يقول صاحب تفسير الميزان: “فقد ظهر أن المراد بالإسلام غير المعنى الذي يشير إليه قوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}؛ بل معنى أرقى وأعلى منه!… فقد تبين أن المراد بالإسلام والبصيرة في العبادة، غير المعنى الشائع المتعارف”.. وفي تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ}؛ أي “في جميع أمورنا، والدعاء بالإسلام لا ينافي كونهما كذلك قبل الدعاء، إذ الإسلام كسائر العقائد والأعمال بحاجة إلى الاستمرار، مما لا يكون إلا بهداية الله وتوفيقه.. فكما أن الابتداء لا يكون إلا بعونه -سبحانه- كذلك الاستمرار، كما في {اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}، {وَ} اجعل {مِن ذُرِّيَّتِنَا} وأولادنا {أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ}؛ والإسلام هو تسليم الأمور إلى الله -سبحانه- في الاعتقاد والقول والعمل”.. مثلاً: الإنسان بإمكانه أن يصلي، ولكن حالة الخشوعِ هبة من اللهِ عزَ وجل، فرب العالمين هو الذي يُلقي عليه الخشوع في صلاته.. نعم، الذكرُ من الإنسان، ولكن اطمئنان القلب من اللهِ -عزَ وجل- {أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}؟.. الإنسان يعمل بالطاعات: يُصلي ويصوم، أما المحبة الإلهية فرب العالمين هو الذي يلقيها على عبده.. اللهُ العالم لعلَ إبراهيم -عليهِ السلام- يشير إلى هذا المقام {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ}؛ أي يا رب تدّخل فيما أنت تتدخل به، فالفروع نحنُ نقوم بها بحسب الظاهر، وإن كانت المواد من الله -عزَ وجل- ولكن يا رب أعمل نفوذكَ في بواطننا؛ لأنَ البواطن بيدك، {.. وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ..}.

أعمال إبراهيم الخليل (ع):
١. بناء البيت.. إن الكعبة بانيها إبراهيم الخليل -عليه السلام- وهاجر، وإسماعيل؛ ثلاثة أشخاص قاموا ببناء الكعبة {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ}، يبنون بيتاً من بيوت الله -عز وجل- وهم خائفون من عدم القبول: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}؛ هنيئاً لهذهِ العائلة المباركة!..

٢. تطهير البيت.. مكة المكرمة هي مركز التوحيد، وبَيتُ اللهِ -عز وجل-، ومع ذلك فإنها لم تخلُ من الأصنام، ولهذا كان من مَهامِ إبراهيم -عليه السلام- تطهير البيت من الأصنام {.. وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}.. قد يكون الإنسان في مكة، وقد يكونُ عندَ البيت؛ ولكنهُ غير موحّد.. الإنسان المؤمن عليهِ أن يحذر، فكونه في المشاهد المشرفة، وفي المساجد، وفي أجواء الطاعةِ والرحمة؛ هذا لا يُغنيه.. بل لابدّ وأن يكونَ ملتفتاً، فهؤلاء المشركون ما التفتوا إلى مقام التوحيد، ودنسوا البيتَ الحرام والكعبة بمظاهر الشركِ والأصنام.

٣. النداء بالحج.. لما اكتمل بناء البيت، أمر الله -تعالى- إبراهيم الخليل -عليه السلام- أن ينادي في الناس بأن يقصدوا هذا البيت؛ لتوحيد الله تعالى، وعبادته، وذكره وشكره؛ كما قال الله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ}.. فأذّن إبراهيم -عليه السلام- فاستجاب لدعوته أهل التوحيد، واستنكف عنها المشركون.. روي أنه (لمّا فرغ إبراهيم (ع) من بناء البيت أمره الله أن يؤذّن في الناس بالحجّ، فقال: يا رب!.. وما يبلغ صوتي؟.. فقال الله -عز وجل-: عليك الأذان وعليّ البلاغ.. وارتفع إلى المقام وهو يومئذ يلصق بالبيت، فارتفع به المقام حتّى كان أطول من الجبال، فنادى وأدخل أصبعه في أذنيه، وأقبل بوجهه شرقاً وغرباً يقول: أيّها النّاس!.. كُتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق، فأجيبوا ربّكم!.. فأجابوه من تحت البحور السبع، ومن بين المشرق والمغرب إلى منقطع التراب من أطرافها -أي الأرض- كلّها، ومن أصلاب الرجال وأرحام النساء بالتلبية: “لبّيك اللهم لبيّك!..” أوَ لا ترونهم يأتون يلبون؟.. فمَن حجّ من يومئذ إلى يوم القيامة، فهم ممّن استجاب الله وذلك قوله: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} يعني نداء إبراهيم على المقام بالحجّ).

مقامات إبراهيم الخليل (ع):
إن إبراهيم -عليه السلام- لم يكن مُسلماً فحسب، بل كانَ نبياً، ورسولاً، ووصل إلى مقام الخُلةِ للهِ عزَ وجل، وإماماً أيضاً.. قال الإمام الصادق -عليه السلام-: (إن اللّه اتّخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتّخذه نبيّاً، واتّخذه نبيّاً قبل أن يتّخذه رسولاً، واتّخذه رسولاً قبل أن يتّخذه خليلاً، واتّخذه خليلاً قبل أن يتّخذه إماماً).. وها هي مقامات إبراهيم -عليه السلام- على التوالي:

١. العبودية: إن إبراهيم عبد لله -عز وجل- يقول تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ}.. وهو عندما ادّعى العبودية، برهن على عبوديته: بتحطيم الأصنام، وبمحاولة ذبح ولده، وبإقامة البيت، ..الخ.
٢. النبوة: يقول تعالى في كتابه الكريم: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا}.
٣. الرسالة: الرسول هو الذي يشاهد الملك ويكلمه، يقول تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلامًا قَالَ سَلامٌ}.
٤. الخلة: يقول تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً}.
٥. الإمامة: بعد أن اجتاز إبراهيم -عليه السلام- الامتحانات الكثيرة، وقطع الابتلاءات، وحقق النجاحات؛ وهبه الله -عز وجل- منصب الإمامة الذي استحقه بجدارة!.. قال الله تعالى: {.. إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً}.

صفات وفضائل إبراهيم الخليل (ع):
١. رؤية الملكوت.. من الآيات الإبراهيمية المُلفتة: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}.. وورد ذكر الملكوت أيضاً في سورة “يس” {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}؛ فما هيَّ النظرة المُلكية، وما هي النظرة الملكوتية؟.. غير المؤمن ينظر إلى عناصر الوجود على أنها مادةٌ تمشي أمامه: الفلكيون ينظرون إلى الأجرام، والأطباء ينظرونَ إلى باطن الخلية، ولكن هؤلاء ما وصلوا إلى ملكوت الأشياء.. {نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}.. لعلَ الملكوت لها أكثر من معنى؛ منها:

أ- الملكوت: بواطن الأشياء، مثل ملكوت الغيبة الذي هو أكلُ لحم الميتة.
ب- الملكوت: أن نرى الأشياء معَ انتسابها للهِ عزَ وجل.. مثلاً: تارة يرى الإنسان سيارة في الشارع بلا مالك، لا يعرف مالكها؛ فهو نظر إلى ملك هذهِ الدابة.. وتارةً يعلم أن هذهِ السيارة سيارة أبيه، ومن يقترب منها ليخدشها؛ فإنه يتأذى ويتعارك معهُ؛ لأنه رآها بعنوان: أنها مملوكة لفلان.. المؤمن في حياته ينظر إلى كُلِ شيء على أنهُ ملك اللهِ عَزَ وجل؛ ومنتسبٌ إليه: يرى النملة تمشي على وجه الأرض فلا يقتلها؛ لأنها مملوكةٌ للهِ عَزَ وجل!.. يقول عليٌ -عليهِ السلام-: (والله!.. لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة؛ ما فعلته).. فهو ينظر إلى الملكوت، أي أن كل ما في الوجود له مالك وله صاحب.. لذا، لا حَقَ لأحد في ظلم أي إنسان في هذا الوجود.

وعليه، فلو أن الزوجين نظروا إلى بعضهما البعض على أنهما ملك لله -عز وجل- هل يتجرأ أحدهما على ظلم الآخر؟.. يقول تعالى في كتابه الكريم: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.. لم يقل: للمتعالين، بل لا يُريدون؛ أي لا يفكرون في الظلم.. بعض الناس لا يمكنهُ أن يفكر في ظُلمِ حَشرةٍ أو حيوانٍ في هذا الوجود!.. فهنيئاً للمؤمن الذي لا يمكنهُ التفكير في الظُلم!..

فإذن، إن إبراهيم الخليل -عليه السلام- رأى الملكوت، فانقادَ للهِ -عزَ وجل- فانقادَ لهُ كُلُ شيء.. لذا، تحولت النار المحرقة إلى بَردٍ وسلام على هذا العبد الصالح.

٢. الشفقة.. إبراهيم -عليهِ السلام- مظهر الشفقة، فعندما جاءت الملائكة لإهلاكِ قَومِ لوط، الذين ارتكبوا أفحش الجرائم في التاريخ!.. وإذا بهذا العبد الصالح يلتفت إلى هؤلاء المُجرمين، يقول تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ}؛ أي يا رب ارفع عنهم العذاب، أنظروا إلى القَلب الإبراهيمي!.. ونحن لا نَحتملُ أقرب الناسِ إلينا؛ فأينَ نَحنُ من إبراهيم؟!.. إبراهيم قدوة المؤمنين، {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}.. قد يقول قائل: القتلُ أيضاً جريمة، والزنا جريمة، وليس فقط هذا العمل!.. نعم، ولكنَ اللواط جريمة مخالفة للفطرة!.. الزنا معَ الشهوة، أما هذا العمل القبيح {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ}؛ عَملٌ رب العالمين ما تَحملهُ.. وهو الآن منتشر في شرق الأرض وغَربها، ولكن رب العالمين ببركة النبي -صلى الله عليه وآله- وإكراماً له؛ رفع المسخ والعذاب الذي كان في الأمم السابقة، يقول تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.

٣. قال الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}:
أ- {أُمَّةً}: الأمّة؛ هو الإمام الجامع لخصال الخير الذي يُقتدى به.
ب- {قَانِتاً}: القانت؛ هو الخاشع المطيع لربه دائماً.
ج- {حَنِيفاً}: الحنيف؛ هو المنحرف قصداً عن الشرك إلى التوحيد.

٤. شكور: قال تعالى في وصف إبراهيم الخليل -عليه السلام-: {شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}؛ أي قائماً بشكر نعمة ربه عليه.

٥. الوفاء: قال الله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى}؛ أي قام بجميع ما أمره الله به، وأدّى ما عليه من الحق في العبودية أتم التأدية وأبلغها!..

٦. قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ}:
أ- {لَحَلِيمٌ}: أي؛ كثير الحِلم، لا يُبدي غَضبهُ.. يُقال: أن صَبرهُ على قوم لوط من مصاديق الحلم.. والحليم لا يستعجل بالعقوبة والانتقام، لذا أرادَ إبراهيم من رب العالمين أن يؤخر عقوبة قومِ لوط.
ب- {أَوَّاهٌ}: أي؛ كثير التضرع والذكر والدعاء والاستغفار.. وكذلك لها تفسير آخر: “الأواه: كثير التأوه مما يصيبه أو يشاهده من السوء”، وكل عمل لا يُرضيه أو يزعجه.. فالمؤمن أواه ليس في مُناجاة الله -عز وجل- فقط، بل عندما يرى أي مخالفة للفطرة السليمة فإنه لا يتحملها.. وهكذا كان إبراهيم -عليه السلام- كثير التأوه عندما يرى منَ المناظر ما يسوءهُ، ولعلَ أيضاً دفاعهُ عن قوم لوط، وطلب تأخير العذاب؛ من مصاديقِ هذا المعنى.
ج- {مُّنِيبٌ}: أي؛ من الإنابة؛ وهو الرجوع إلى الله -عز وجل- بمعرفته ومحبته، والإقبال عليه، والإعراض عما سواه، والرجوع إليه في كل أمر.

٧. كرمه وسخاؤه: قال الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبْرَاهِيمَ المُكْرَمِينَ * إذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًاً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ * فَرَاغَ إلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ}.

٨. سلامة القلب: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.. والقلب السليم؛ هو ذلك القلب الذي يلقى الله -عز وجل- وليس فيه أحد سواه.. أو بعبارة أخرى: ذلك القلب الموحد الذي لا يرى مؤثراً في الوجود إلا هو.

ابتلاءات إبراهيم الخليل (ع):
١. ذبح ابنه.. نحن نعلم أن من أقوى الأواصر البشرية، علاقة الأبوين بأولادهم، وخاصة أن الأنبياء من صغرهم متميزون.. فالنبي إسماعيل -عليه السلام- وهو صبي، يختلف عن باقي الصبية.. ومن الطبيعي أن تكون محبة إبراهيم لولده إسماعيل، لا تقاس بمحبة الآباء لأولادهم.. وإذا بالامتحان الإلهي يأتي عند هذه النقطة من العلاقة والمحبة.. فإبراهيم بلغ من السن ما بلغ من مقام الخلة والإمامة، ولكن إسماعيل شاب في عنفوان شبابه ومع ذلك: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}.. فلا ندري أيهما أشد عجباً: فعل إبراهيم، وذلك لأن هذا الأمر لم يأته من خلال وحي، إنما من خلال رؤية رآها.. أم تسليم إسماعيل لطلب أبيه الذي يروى عنه موقف عاطفي مؤثر وبليغ، يوصي فيه أباه إبراهيم، الشيخ الكبير، بما ينبغي القيام به أثناء عملية الذبح.. عن ابن إسحاق: أن إبراهيم كان إذا زار إسماعيل وهاجر، حمل على البراق، فيغدو من الشام فيقيل بمكة، ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام.. حتى إذا بلغ معه السعي رأى في المنام أن يذبحه فقال له: (يا بني خذ الحبل والمدية ثم انطلق بنا إلى هذا الشعب لنحتطب.. فلما خلا إبراهيم بابنه في شعب ثبير أخبره بما قد ذكره الله عنه فقال: يا أبت اشدد رباطي؛ حتى لا أضطرب.. واكفف عني ثيابك؛ حتى لا ينتضح من دمي شيئا؛ فتراه أمي.. واشحذ شفرتك، وأسرع مر السكين على حلقي؛ ليكون أهون علي؛ فإن الموت شديد.. فقال له إبراهيم: نعم العون أنت يا بني على أمر الله).. ثم ساق القصة وفيها “ثم انحنى إليه بالمدية، وقلب جبرئيل المدية على قفاها، واجتر الكبش من قبل ثبير، واجتر الغلام من تحته، ووضع الكبش مكان الغلام.. ونودي من ميسرة مسجد الخيف: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا”.. {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}.. عندما يمر الإنسان على هذهِ القصة، لا يتمالك إلا ويرق قلبه، وقد تجري دمعته!..

٢. الابتلاء بالكلمات: قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ}.. الله -عز وجل- ابتلى إبراهيم -عليه السلام- بكلمات الله أعلم بها!..

٣. الحرق: عندما حطم إبراهيم الخليل -عليه السلام- الأصنام أجمع قومه على رميه بالنار.. {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}.. فرُبط وكُتف بالحبال ورمي في النار.. (أمر نمرود بجمع الحطب في سواد الكوفة عند نهر كوثا من قرية قطنانا، وأوقد النار فعجزوا عن رمي إبراهيم، فعمل لهم إبليس المنجنيق فرُمي به، فتلقاه جبرائيل في الهواء فقال: هل لك من حاجة؟.. فقال: أمّا إليك فلا ، حسبي الله ونعم الوكيل، فاستقبله ميكائيل فقال: إن أردت أخمدت النار، فإنّ خزائن الأمطار والمياه بيدي، فقال: لا أريد، وأتاه ملك الريح، فقال: لو شئت طيّرت النار، قال: لا أريد، فقال جبرائيل: فاسأل الله!.. فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي).. وقال ابن عباس: “أن الله لو لم يقل: {وَسَلامًا}؛ لآذى بردها إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-“.

٤. ترك إسماعيل وأمه في واد قفر.. لما خرج إبراهيم -عليه السلام- إلى الصحراء، نزل في وادي في مكة، واسع لا ماء فيه ولا زرع، يقال له «الأبطح».. فوضع زوجته هاجر مع ابنها إسماعيل -عليه السلام- في ذلك المكان، كما أمره الله تعالى بذلك.. فلما أراد الانصراف عنهم قالت له هاجر: “يا إبراهيم!.. لماذا وضعتنا في موضع ليس فيه أنيس ولا ماء ولا زرع؟.. ومن يكفينا”؟.. فقال إبراهيم -عليه السلام-: “الذي أمرني أن أضعكم في هذا المكان، هو الذي يكفيكم”.. ثم انصرف عنهم، فلما ابتعد عنهم قليلاً التفت إليهم فقال: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}.. ثم مضى وانصرف، وبقيت هاجر وابنها إسماعيل وحدهم في تلك الصحراء القاحلة.

مكانة البيت العتيق..
١. أول بيت للعبادة.. يقول تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ}، عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع في الأرض أول؟.. قال: (المسجد الحرام)، قلت: ثم أي؟.. قال: (المسجد الأقصى)، قلت: كم بينهما؟.. قال: (أربعون سنة، وأينما أدركتك الصلاة فصل؛ فهو مسجد).

٢. مكان شريف.. يقول تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ}؛ أي دلائل واضحات، تدل على شرافة البيت، وهذه الآيات هي: {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً..}:

أ- مقامُ إبراهيم: {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ}؛ “أي موضع قدمه حيث كان هناك حجر يضعه إبراهيم ويصعد عليه لبناء أعالي الكعبة، فرسخت قدماه في ذلك الحجر، وهو آية واضحة من آيات الله سبحانه”.
ب- الأمن: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}؛ “أي إن من آيات البيت أن الله -سبحانه وتعالى- جعله حرماً آمناً، فمن دخله فهو مأمون على: عرضه، وماله، ودمه.. لا يُمسّ بسوء، وإن كان مجرماً يستحق العقاب والحد”.
ج- وجوب الحج: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}؛ أي يجب على الناس أن يحجّوا البيت، وهذهِ من الآيات.

٣. مثابة للناس.. يقول تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ..ِ}؛ “بمعنى مرجعاً، فإن الناس يرجعون إليه كل عام، لما جعل الله في قلوب المؤمنين من المحبة له، والشوق للعودة إليه”.

فإذن، إن رب العالمين يُريد إفهامنا أنَّ هذا المكان مُقدس.. فهنالكَ مَعلمٌ مادي، وهو مقام إبراهيم.. وهُناكَ مقامٌ معنوي {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}.. ويا لهُ من أمان!.. فلو أنَّ شجرةً نبتت في الحَرم، وخَرجَ منها غصنٌ خارج الحَرم، وكانَ على ذلكَ الغُصنِ طير؛ فإن هذا الطير يكون في حمى حرم اللهِ عزَ وجل.. وهُنالكَ رأيٌ بمنع صيدِ هذا الطير الذي وقفَ على غُصنٍ خارجٍ منَ الحَرم.. أنظروا إلى سعة دائرة الحماية الإلهية، لمن كانَ في بيت اللهِ الحرام!.. على الرغم من وقوع حروب وأحداث طوال التأريخ، إلا أن ذلك هو خلاف رغبة الله عزَ وجل.. وقد ورد في تفسير الميزان: “وأما كون المراد من حديث الأمن، هو الإخبار بأن الفتن والحوادث العظام لا تقع، ولا ينسحب ذيلها إلى الحرم؛ فيدفعه وقوع ما وقع من الحروب والمقاتلات واختلال الأمن فيه… لا يدل على أزيد من استقرار الأمن واستمراره في الحرم، وليس ذلك إلا لما يراه الناس من حرمة هذا البيت، ووجوب تعظيمه الثابت في شريعة إبراهيم -عليه السلام-“.. فإبراهيم -عليه السلام- طلب من الله -عز وجل- أن يجعله بلداً آمناً، قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا}.. “حيث سأل الأمن لمكة، فأجابه الله بتشريع الأمن، وسوق الناس سوقاً قلبياً إلى تسليم ذلك وقبوله زماناً بعد زمان”.

الخلاصة:
١- أن ربّ العالمين شكور؛ يشكرُ عبده، رغم أنَ النعمةَ منه، فرب العالمين بناؤهُ على التعويض لمن قدمَ شيئاً في سبيله في الدُنيا قبلَ الآخرة،والدليل على ذلك: إبراهيم الخليل -عليه السلام-.

٢- إنَّ الهبات الإلهية لا تُعطى جزافاً، إنما يجب على العَبد أن يُهيئ الأرضية؛ عندئذ يأتي المدد الإلهي ، فلولا المدد؛ لما نفعت العبد أرضيتهُ.. ولولا أرضية العبد؛ لما نَزل َالمدد.

٣- أن إبراهيم الخليل -عليه السلام- لم يصل إلى ما وصل إليه جزافاً، إنما اجتاز وبنجاح ابتلاءات كثيرة، فالمقام مقام تمحيص ، و الأمر يحتاج إلى صبر ومجاهدة.

٤- أن الإنسان الظالم لنفسه أو لغيرهِ بعيدٌ عن الرحمة الإلهية الغامرة، لذا ينبغي للمؤمن أن يكتشف ثغرات الظلمِ في حياته؛ لينفيها عن نفسه.

٥- أن على المؤمن ألاّ يَركنُ إلى شيءٍ من عمله، فالكثيرون طوال التأريخ قاموا ببناء الكعبة، ولكن ليس كُل من بنى الكعبة قُبلَ عمله!،إبراهيم فقط هو الذي تقبل اللهُ -عزَ وجل- عملهُ؛ فصارَ خالداً!.

٦- أن الإنسان يعمل بالطاعات: يُصلي ويصوم، أما المحبة الإلهية فرب العالمين هو الذي يلقيها على عبده.

٧- أن على الإنسان المؤمن أن يحذر، فكونه في المشاهد المشرفة، وفي المساجد، وفي أجواء الطاعةِ والرحمة؛ هذا لا يُغنيه، بل لابدّ وأن يكونَ ملتفتاً.

٨- أن إبراهيم الخليل -عليه السلام- نظر للوجود بعين الملكوت،أي أن كل ما في الوجود له مالك وله صاحب، فانقادَ للهِ -عزَ وجل- فانقادَ لهُ كُلُ شيء.

٩-أن من آيات البيت أن الله -سبحانه وتعالى- جعله حرماً آمناً، فرب العالمين يُريد إفهامنا أنَّ هذا المكان مُقدس، فجعل فيه مَعلماًٌ مادياً، وهو مقام إبراهيم؛ ومقاماًٌ معنوياً {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}.

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.