Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

إن موضوع القلق يعتبر داء العصر، ولو أعطينا استمارات استبيان سرية لكثير من الناس، لكانت النتيجة أن الغالبية العظمى منهم يعانون من مشكلة من مشاكل الأمراض النفسية.. ولكن الكثيرين يميلون إلى كتمان مشاكلهم الروحية؛ نظراً لكونها معيبة، فهو يستحي من إظهارها، وكذلك خوفاً من أن يتهم بشيء في هذا المجال.. والحال بأن الإنسان الذي يعاني من إحدى المشكلات، عليه أن يبادر إلى علاج نفسه، لأن تراكم الضغوط النفسية والاجتماعية؛ قد يؤدي -بعض الأوقات- إلى نهايات وخيمة: كالانتحار، والجنون، أو الانفلات من كل القيود.. مثل الذي نراه في بعض المجتمعات هذه الأيام.

س١/ من المعلوم أن هذا الجيل المعاصر متصف بغلبة القلق والهموم على حياته، برغم رفاهية المعيشة هذه الأيام.. فما هي عوامل القلق في حياة الإنسان المعاصر؟..
يمكن أن نقسمها إلى قسمين أساسين:
الأول: الأسباب المادية: وهي مختلفة اختلافاً كثيراً، ونورد منها:
* الأسباب العضوية: إذ من الممكن أن يكون هنالك خلل في الإفرازات الهرمونية في البدن، مما يؤدي إلى حالة الكآبة والحزن.. ومن هنا لا بد من المراجعة، وأخذ العلاج المناسب.
* الجهات الوراثية: بأن يكون للعوامل الوراثية دوراً رئيسياًً في هذا المجال، كما عند البعض من الناس.
* الضغوط الاجتماعية، والخلاقات الأسرية، أو الانفصال بين الأبوين: والتي بدورها تؤدي إلى كثير من الانحرافات الموجبة لظهور حالة القلق والاضطرابات النفسية.
* الوسواس القهري: إذ من المعلوم أن المبتلى بهذا المرض، يعاني من الوسواس في العبادات، وكل همه في الطهارة والنجاسة.. ومن هنا فهو يفتقد للتوجه العبادي، لانشغاله بالقالب الظاهري.
والثاني: الأسباب المعنوية (الروحية): ونورد منها:
* التوغل في الشهوات: إن الذي يسترسل في الشهوات المحرمة، تنشأ عنده حالة من حالات الشد الداخلي: بين الرغبة الشهوية، وبين نداء الفطرة والوجدان.. والذين يرتكبون الفواحش يعلمون هذا الكلام: بأنه ما إن ينتهوا منها، إلا ويبدأ الطوفان الداخلي، ووخز الضمير الشديد؛ مما يؤدي إلى أن البعض قد يضرب نفسه أو يحبسها، تخلصاً من هذا الشعور المؤلم.. وقد أشار الإمام علي (ع) إلى هذه الحالة، حيث قال: (وكم من شهوة ساعة، قد أورثت حزنا طويلا)!..
ونخص بالكلام المتغربين، الذين يعيشون خارج البلاد الإسلامية: بأنه لابد للإنسان يوماً من رجوع: إما لوطنه، أو بالموت سينتقل إلى ربه.. فليحسب حساباً لذلك؛ لئلا تكون المواجهة مواجهة مخجلة.
* الخوف من الموت: في علم النفس يذكرون بأن من موجبات القلق: الكوارث البشرية، والخوف من الموت؛ ولكن الإنسان المؤمن ينظر إلى الموت: بأنه لقاء مع الرب جل وعلا، وأنه سفر إلى مكان أوسع وأرحب.. ومن هنا نلاحظ بأن القرآن الكريم -في سورة الجمعة- يتحدى المنافقين بتمني الموت؛ لأن الولي لا يخاف الموت، بل يتمناه.. وطبعاً هذه مرحلة أرقى من الخوف.
* الالتفات إلى المتاع الدنيوي: إذ أن الدنيا محدودة، وكل ما فيها من الموارد محدود أيضاً، ولا يمكن أن ترضي كل إنسان.. وبالتالي، فإن الذي يمد عينيه؛ رغبة في حيازة أكبر قدر ممكن، لا شك في أنه سيعاني ويعاني من المشاكل النفسية.. لأنه بالإضافة إلى عدم التيسر، فإن الإنسان لا يمكنه أن يخضع كل الوجود لإرادته، حتى الدول الكبرى التي تدعى الجبروت والقوة، مبتلون ببعضهم البعض، ولا يملكون تنفيذ كل ما يريدون.
وقد ورد أن الإمام الصادق (ع) أنه قال: لمّا نزلت هذه الآية: {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}، قال رسول الله (ص): (ومن رمى ببصره إلى ما في يدي غيره؛ كثر همه، ولم يشف غيظه).
* المشاكل الاجتماعية، والدخول في نزاعات مع الآخرين: فإنها من موجبات الغليان الباطني والقلق الشديد، وخاصة مع عدم القدرة على إرغام الخصم، إذ يصبح الخصم مثل الشبح المخيف الذي لا يفارق الإنسان: في الصلاة، وفي العمل، وقبل النوم، وفي المنام.. ومن هنا نحن ننصح بتجنب الدخول في نزاعات مع الغير، وإمامنا علي (ع) يشير إلى هذه الحالة، فيقول: (من غضب على من لا يقدر على ضره؛ طال حزنه، وعذب نفسه).

س٢/ حبذا لو ذكرتم لنا علاجاً عاماً لهذا المرض؟..
إن أهم شيء لعلاج القلق، هو مضمون هذه الآية الكريمة: {‏أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.. لنتأمل في هذه الكلمة: {لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}!.. فهنا {لا} النافية للجنس، أي أن جنس الخوف والحزن منفياً عن أولياء الله.. ومن المعلوم أن الخوف يكون وليداً لأمر محتمل الوقوع، أما الحزن فهو على أمر متيقن الوقوع.. ومن هنا فإن الإنسان يخاف من المجهول: من أن يسلب منه المحمود من السعادات، ويحزن على ما يفوته منها.. بينما الولي فهو لا يخاف ولا يحزن، وكأن القرآن الكريم أراد أن يشير إلى هذه الحقيقة: وهي أن المؤمن لكونه ولياً، فهو لا يخاف؛ لأنه قد أعطي من الهبات والامتيازات، التي لا يمكن أن تسلب منه من الإنس برب العالمين.. ولا يحزن؛ لأنه لا يفقد شيئاً، إذ أن كل ما أعطاه إياه رب العالمين في رعاية وحفظ.. أضف إلى أنه لا يعطي بالاً لأمور الدنيا الفانية، ولهذا إمامنا الحسين (ع) يقول: (ماذا وجد من فقدك، وما الذي فقد من وجدك)!..
ثم تأتي الآية التي تليها لتشير إلى وصف الولي، فتقول: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ}.. أي جمعوا بين البناء العقائدي الكامل والعملي.. ثم لتبين ماذا لهم: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.. فإذن، إن العلاج الأساسي هو الارتباط بالمبدأ عز وجل، الجهة التي لا يمكن أن تخذل إنساناً.. فلو أن إنساناً تبنته كل شركات التأمين، لا شك بأنه سيعيش حالة الارتياح النفسي، فكيف إذا كان المؤمّن هو رب العالمين!..

س٣/ يقول الله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}.. ما المقصود بالإعراض عن ذكر الله هنا؟..
إن هذه الآيات تذكرنا بأبينا آدم (ع) عندما أخرج من الجنة وهبط إلى الأرض، ثم إن رب العالمين أصدر بياناً تاريخياً بقوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}.. ولكن ما معنى {أَعْرَضَ}؟.. الإعراض عن ذكر الله له معنيان: معنى اعتقادي: أي إنكار وجود الله تعالى.. ومعنى عملي: وهو الانشغال بأمور الحياة الدنيا، ونسيان ذكر الله عز وجل.. فهذا -كما يقول الله تعالى- له معيشة الضيق والضنك، وهو ما نلاحظه في الغافلين عن ذكر الله عز وجل.

س٤/ من المعلوم أن هنالك أنواعا للبكاء، ويقال بأن البكاء يخفف من الاكتئاب النفسي، فما هي أنواع البكاء، وهل أنه يزيل حالة القلق عند الإنسان؟..
بلا شك أن البكاء من منفسات الهم والغم عند الإنسان.. ومنه ما يكون ردة للفعل: كبكاء الأطفال والنساء عند المصيبة، ومن الجميل للمؤمن أن يظهر التماسك، فلا يبدي حالة الانهيار، أو يذرف الدموع أمام الآخرين، التي ينبغي أن تكون وقفاً على المعاني السامية، ثم إن البكاء الذي يفرج الهم والغم هو البكاء بين يدي الله عز وجل؛ طلباً منه أن يكشف الضر عن الإنسان.. ولنا أن نذكر هذه الرواية عن الرسول الأكرم (ص) والتي تشير إلى هذا البكاء المندوب شرعاً: (بكى شعيب (ع) من حب الله عز وجل حتى عمي؛ فرد الله عز وجل عليه بصره، ثم بكى حتى عمي؛ فرد الله عليه بصره، ثم بكى حتى عمي؛ فرد الله عليه بصره.. فلما كانت الرابعة أوحى الله اليه: يا شعيب!.. إلى متى يكون هذا أبدا منك؟.. إن يكن هذا خوفا من النار فقد أجرتك، و إن يكن شوقا إلى الجنة فقد أبحتك، فقال: إلهي وسيدي!.. أنت تعلم أني ما بكيت خوفا من نارك، ولا شوقا إلى جنتك، ولكن عقد حبك على قلبي فلست أصبر أو أراك.. فأوحى الله جل جلاله إليه: أما إذا كان هذا هكذا، فمن أجل هذا سأخدمك كليمي موسى بن عمران).

س٥/ قد تنتاب الإنسان حالة من حالات الاكتئاب دون معرفة السبب.. فما علاقة هذا بالقلق، وما سبب ذلك؟..
هذه الحالة مشاهدة عند الإنسان، بحيث يكون جالساً في أتم الارتياح النفسي، وفجأة تأتيه موجة من الهم والغم.. عن جابر الجعفي: تقبّضت بين يدي أبي جعفر (ع)، فقلت: جعلت فداك!.. ربّما حزنت من غير مصيبة تُصيبني، أو أمر ينزل بي حتى يعرف ذلك أهلي في وجهي وصديقي؟.. قال: (نعم، يا جابر!.. إنّ الله عزّ وجلّ خلق المؤمنين من طينة الجنان، وأجرى فيهم من ريح رَوحه.. فلذلك المؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه، فإذا أصاب رَوحاً من تلك الأرواح في بلد من البلدان حزنٌ، حزنت هذه لأنها منها)..
فيبدو أن هنالك علاقات غير مرئية بين أرواح المؤمنين؛ نظراً للتناسب والانسجام بين أراوحهم.. ومن المناسب أن نذكر بأن البعض الذين تصفو نفوسهم، ويصلون إلى مرحلة النزاهة الباطنية -ما يسمى بالعصمة الصغرى- ترتبط أراوحهم بروح الإمام صاحب الأمر (عج).. فالإمام (عج) هو دائم الحزن، لما يراه من مآسٍ في الأمة، وقلبه من القلوب المتميزة في التاريخ حملاً للهموم والغموم -أكثر من ألف ومئتي سنة- فالذين يحبون مولاهم ومرتبطين به، يعيشون هذه الحالة من الهم والغم.

س٦/ ما هي التوصيات والأذكار القرآنية لرفع مرض القلق؟..
هنالك عدة علاجات، نورد منها:
* القراءة المطلقة للقرآن الكريم: من أي مكان كان؛ فإنه من موجبات تخفيف الهم والغم.. إذ إن الله عز وجل يحدث الإنسان من خلال القرآن، كما نتحدث معه في الصلاة والدعاء.
* الإكثار من الحوقلة مع التأمل والاستشعار: ورد عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: (إذا حَزَبَك أمرٌ من سلطان أو غيره فأكثر من: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنها مفتاح الفرج، وكنز من كنوز الجنة).
* التأمل في آيات شرح الصدر: قال تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ}، {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}، {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي}، {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ}..
سئل النبي (ص) عن شرح الصدر، فقال: (نور يقذفه الله في قلب المؤمن؛ فيشرح صدره وينفسح).

س٧/ هل هنالك علاقة بين الأطعمة المتناولة والقلق؟..
إن الشريعة الإسلامية شريعة سمحة، أجازت لنا أن نأكل من أسواق المسلمين.. ولكن في بعض الحالات ترى أن الإنسان يقطع بحرمة ذلك؛ لذا ينبغي علينا الاحتياط في مثل هذه الأمور، وذلك بعدم الإكثار من الأمور الجانبية، وتجنب الأكل بين الوجبات.

س٨/ هل أن الحسد سبب في وجود القلق؟..
علينا أن نكون بين الواقعية وبين الشرعية، بحيث أن لا ننكر تأثير الحسد، ولا نسيئ الظن بالآخرين.. ولذا علينا بالاستعاذات الشرعية، والمعوذتين، والحوقلة، وتفويض الأمر لله عز وجل؛ مما يمنع أثر العين.

س٩/ ما هي النصيحة الموجهة للطلاب في بلاد الغرب، الذين يعانون من حالات القلق المستمرة؛ خوفاً على زعزعة الإيمان والعقيدة؟..
إن الذي يعيش في بيئ غير نموذجية، لابد وأنه يعيش حالة صراع مستمر مع عوامل الشر.. لذا ينبغي عليه بالاستغاثة بالله -عز وجل- بشكل دائم، ورد عن علي (ع) أنه قال: (إذا اشتد الفزع، فإلى الله المفزع).. أي: أنه ما دام في فزع دائم من ذهاب رأس ماله، وهو الإيمان بالله وعفته وعفافه.. فإلى الله المفزع من خلال الدعاء، والالتزام بصلاة أول الوقت.. ومن اللازم مراعاة الحدود الشرعية في ضرورة البقاء، والعودة في أسرع وقت بعد الانتهاء من التخصصات.. وينبغي على الآباء تفقد أحوال أبنائهم المغتربين.

س١٠/ هل أن لمجاورة المشاهد الشريفة أثر في رفع حالة القلق عند الإنسان؟..
نعم، إن البقاء في هذه المشاهد نافعة، ولكن مع إعطائها حقها كما ينبغي: بالتفاعل مع تلك الأجواء، والإحساس بحياة المزور.

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.