Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

– إن من صفات المؤمن كلما مرّت عليه ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك، ازداد خوفا وقلقا؛ لأنَّ كلَّ يوم وكلَّ ليلة يفقد فرصة من فرص التقرب إلى الله -عزَّ وجل-، ومن الليلة الأولى في شهر رمضان يبدأ العدّ العكسي.. لذا على الإنسان الذي لم يرَ ذلك التفاعل الذي كان يرجوه، عليه أن يبحث عن الأسباب.. حيث أن بعض المؤمنين والمؤمنات خططوا لأنفسهم أن يكون هذا الشهر متميزا، ومختلفا عن باقي شهور السنة؛ ولكن في مقام العمل، رأى أنه لا جديد في البين.. بمثابة إنسان يجلس على مائدة شهية، ولكن نفسه لا تشتهي الطعام، فهذه حالة مرضية.. وبالتالي، فإنه لا يستفيد من هذه المأدبة.. صحيح أن الذهاب إلى هذه المأدبة، ليس في حدّ نفسه هدفا.. بعض الناس في شهر رمضان، تنطفئ شهيته المعنوية خلاف المتوقع، لعله في شهر شعبان كان في وضع جيد: كان في عمرة، أو كان يقرأ المناجاة الشعبانية بتوجه.. فالإنسان يمني نفسه في شهر رمضان فـ: يقرأ دعاء الافتتاح، ودعاء أبي حمزة، وغيره.. ولا يرى ذلك التوجه، والتفاعل المرجو.

– إن على المؤمن في مثل هذه الحالة، أن يذهب بنفسه للمستشفى الإلهي.. كما أنَّ أحدنا بمجرد صداع، وبمجرد ألم في سنه يذهب إلى المستشفى؛ نحن أيضاً نعيش هذا الألم الباطني.. عندما يرى الإنسان نفسه مريضة روحياً، عليه أن يرفع الشكوى لمن نصفه في دعاء الجوشن بـ(يا طبيب القلوب)!.. هو الطبيب، والشافي.. مشكلة الإنسان أنه لا يستفيد من المضامين البليغة في الأوقات الأخرى، أحد العلماء الكبار ذوي الباع في هذا المجال، كان يقترح ويقول: لماذا تقتصرون على دعاء رفع المصاحف -مثلا- في ليلة القدر، حيث أن في دعاء رفع المصاحف، لا يوجد إشارة إلى شهر رمضان، ولا إشارة إلى ليلة القدر (اللهم!.. إني أسألك بهذا القرآن وما فيه، وفيه اسمك الأعظم وأسمائك الحسنى) يقول: لماذا لا تلتجئون إلى رفع المصاحف في غير ليلة القدر، في كلّ وقتٍ يشعر الإنسان أن هناك إقبالا عليه أن يغتنم هذه الفرصة.

فالذي يرى في نفسه رقة في صلاته الواجبة، ثم ينهيها كعادته في كلّ يوم، هذا الإنسان من الممكن أن يعاقب، فلا يعطى هذه الحالة أبداً أو بعد مدة طويلة.. مادام أحس بإقبال في الصلاة، عليه أن يغتنم الفرصة فيطيل السجود -مثلا- ويقول فيه ما قاله أمير المؤمنين -عليه السلام-: (إلهي!.. قلبي محجوب، ونفسي معيوب، وعقلي مغلوب، وهواي غالب، وطاعتي قليل، ومعصيتي كثير، ولساني مقر بالذنوب.. فكيف حيلتي يا ستار العيوب، ويا علام الغيوب، ويا كاشف الكروب!.. اغفر ذنوبي كلها بحرمة محمد وآل محمد، يا غفار!.. يا غفار!.. يا غفار!.. برحمتك يا أرحم الراحمين).. والإنسان: إما عقل، وإما قلب، وإما جوارح.. إما جهاز يدرك، وإما جهاز يتفاعل: يحب ويبغض، وإما جوارح تسعى.. يقول الإمام (ع): كل هذه الأعضاء معطوبة، كل هذه الأجزاء فيها آفة.. فإذن، إن الوجود برمته فيه خلل؛ لذا من المناسب أن يتفحص الإنسان نفسه في هذه الأبعاد الثلاثة.

– إن خطبة النبي (ص) ليست فقط مناسبة لأول شهر رمضان، (أيها الناس!.. إنه أقبل إليكم شهر رمضان بالبركة والرحمة والمغفرة)، ما معنى البركة؟.. وكيف نتبرك؟.. وكيف نستجدي هذه البركة الإلهية؟.. ومن هم الذين بارك الله فيهم في هذا الوجود؟..

– إن من صفات ربّ العالمين، أن له رعايتين في عالم الوجود: رعاية تشمل كل مَن منحه خاصية الوجود، أتعلم أنّ الوجود نعمة كبرى؟!.. هذه الطاقة القوية، ربّ العالمين لا يعطي طاقة الوجود، إلا لمن التفتَ إليه، ولو كان في أعماق التراب.. ومن مصاديق الشكر أن يسجد الإنسان لله -عزّ وجل- ويقول: (يا رب، لك الحمد أن خلقتني، وأخرجتني من العدم إلى الوجود)، هذه الخلقة من أكبر نعم الوجود!.. ويأتي ابن آدم، هذا الظلوم الجهول ليمزق هذه البطاقة ويقول: لم خلقتُ فربّ العالمين يعلم أنه سأعصيه؟.. ذلك لسان حال من يقدم على الانتحار، ولكن الله -عز وجل- خلق الإنسان لكي يعرفه: (كنت كنزاً مخفياً، فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق لكي أعرف).. إنّ الله -عزّ وجلّ- إذا خلا به عبد، أنس به وبحديثه، إلى درجة أنّ العبد يدعو ربه دعاءً بليغاً حزيناً باكياً، ربّ العالمين يعلم أنه لو أعطاه الحاجة سوف يسكت.. وبكاؤه ليس خشية من الله، ولا خوفا من الله، ولا حباً لله -عزّ وجلّ- وإنما حباً للفانيات.. ومع ذلك الله يحب هذا المنظر، عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (إن العبد ليدعو الله وهو يحبه، فيقول: يا جبريل، اقض لعبدي هذا حاجته وأخرها؛ فإني أحب أن أسمع صوته.. وإن العبد ليدعو الله وهو يبغضه، فيقول الله تعالى: يا جبريل، اقض لعبدي حاجته بإخلاصه وعجلها له؛ فإني أكره أن أسمع صوته).

– إن الله -عزّ وجل- له نظرة عامة في هذا الوجود، في هذه النظرة نقل العالم من العدم إلى الوجود.. وهنالك نظرة خاصة، لماذا في مفتتح كلّ سورة يقول: {بسم الله الرحمن الرحيم}، {الرحمن الرحيم}؛ كلاهما من الرحمة، الرحمن إشارة إلى هذا الاسم، وإلى هذه الصفة: إلى الرحمة الغامرة.. ربّ العالمين جعل الأرض مستقراً وقراراً لأبي جهل وأبي لهب، وفي نفس الوقت جعلها مستقراً وقراراً لحبيبه المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم).. الهواء الذي يستنشقه كفار قريش، هو نفسه الذي يستنشقه النبي.. هذه الرحمة رحمة غامرة ومتساوية، إلا أن الله -عزّ وجلّ- ينظر إلى عباده، وينظر إلى القابليات فينميها برعايته.

– إن بحث الطينة بحث عميق، وفي نفس الوقت خطير.. فهذا البحث إذا لم يستوعبه الإنسان فقد يشلّه، لماذا البعض وهو منذ الصغر يكون أنسه في المسجد، وهو صغير لا يكذب، وهو صغير لا يسرق؟.. بينما بعض الأطفال، بمجرد أن يفتح عينه وإذا به يميل إلى السرقة والكذب والضرب؛ ولديه روح عدوانية؟!.. هناك أبحاث دقيقة عميقة ومخيفة في هذا المجال، ويجب أن نستفيد من بحث الطينة في أمرين:

الأول: أنَّ ربّ العالمين حسابه يوم القيامة مع مراعاة الطينة، حيث أن هناك من طينته غير سليمة.. والطينة غير السليمة هي لأسباب منها: انعقاد النطفة، والشيطان قد يكون له دور في عملية انعقاد النطفة، كما أنّ البعض له جينات وراثية مريضة، تنتقل هذه الجينات للأجيال اللاحقة، ومن الممكن أيضا انتقال القيم.. الإنسان الذي يرى في نفسه شهوة قوية، أو ميلاً للغضب، هذا الإنسان يعطى بعض التنزيلات وبعض التخفيضات يوم القيامة.. إذا كان هذا الإنسان مبتلى بشهوة قوية لو نظر إلى النساء، من الممكن أن يقول ربّ العالمين: خففوا عليه الحساب، فإنَّ طينته كذلك.. ولهذا نلاحظ في بعض النصوص ذماً شديداً لإنسان بلغ من العمر ما بلغ، وهو يقوم بحركات الشباب وحركات المراهقين، هذا الإنسان ربما ينزل عليه السخط الإلهي، ويختم على قلبه في أول أزمة.

الثاني: إن الطينة حتى لو كانت تميل إلى الحرام: تميل إلى الشهوة تارة، وإلى الغضب تارة أخرى.. ولكن ذلك لا يعني أنَّ الإنسان ليس بإمكانه أن يغيّر طينته.. فالإنسان العصبي المزاج بالفطرة، منذ أن كان طفلاً صغيراً، هذا الإنسان بإمكانه أن يغير من طبيعته وطينته، والدليل على إمكان الشيء وقوع نظائر له في حياة البشرية.. وفي حياة المسلمين رأينا بعض أصحاب القيم السيئة، وكيف الله -عز وجل- بمجاهدة منهم قلب هذه الطينة.. ما الذي قلب الحر بن يزيد إلى هذه العاقبة؟.. هنالك ثلاثة شهداء من شهداء كربلاء، أُفردت لهم قبور مستقلة، فهؤلاء منذ الأزل كتب لهم ربّ العالمين هذه المزايا: حامل الراية أبو الفضل العباس، وله ما له من المقام، فمن الطبيعي أن يفرد له ربّ العالمين قبرا.. وحبيب بن مظاهر كبير القوم -عادةً القتال ليس من شِيم كبار السنّ، كبير السن يحب حياة الخلود والجلوس مع أحفاده- الذي حمل السيف وقتل في طاعة الله -عزّ جل- خلاف المتعارف، هذا الشيخ الكبير أيضاً أُفرد له قبر بإزاء قبر الحسين -عليه السلام-، البعض يقول: هو البوابة للحسين -عليه السلام-.. ومن بين هؤلاء الشهداء أيضا الحر بن يزيد، له قبر مستقل وبعيد عن قبور الشهداء.. وهذا يُعتبر نوع من أنواع التميز.

فإذن، إن الطينة من الممكن أن نغالب أنفسنا فيها، إنّ رب العالمين له نظرتان: نظرة عامة ونظرة خاصة، هنيئاً لمن دخل في دائرة الرعاية الخاصة!.. الآيات القرآنية التي تتحدث عن المباركة، ثلاث عينات ليس بنحو الحصر، منها: ماء السماء {وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} ماء المطر، حياتنا تقوم بالمطر، لولا المطر ما سقينا، ولولا المطر ما نبت الزرع، ولولا الزرع ما أكلنا، وإذا ما أكلنا متنا جوعاً.. فإذن ماء مبارك أنزله الله -عزّ وجلّ- من السماء، من خصوصيات هذا الماء أنه يتغلغل في كلّ مكان، عندما ينزل المطر، لا يستنكف من النزول على الأشواك، والوقف يكون على الورود.. بل يكون على الشوك، والحنظل، والنباتات الضارة، والعشب الذي لا قيمة له.. هو وجود مبارك ينزل في كلّ مكان، المطر في الحقيقة فيه إعجاز!..

– كيف نستنزل هذه البركة الإلهية؟..
– إن استنزال البركة الإلهية تكون بعمارة القلب.. ما الذي جعل إبراهيم الخليل يخاف هذا الخوف حتى يقول: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}؟.. لعل الخشية التي كانت في فؤاد إبراهيم الخليل -صلوات الله عليه- هي الشرك الخفي، إبراهيم محطّم الأصنام، هل يقصد عبادة اللات والعزة، عندما يقول: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ}؟.. الذي كان يقض مضاجع الأنبياء والمرسلين والأوصياء والصالحين هو هذا الشرك الخفي.. أي أن يريد الإنسان ربه لنفسه، لا يريد نفسه لله؛ أي يتقرب إلى الله -عزّ وجلّ- من أجل أن يكتسب مزايا الربوبية.. كالذي يتقرب من السلطان، لا حباً له حقيقةً؛ وإنما من أجل أن يستفيد من مزايا مجاورة السلطان، وبيت السلطان، وو…الخ.. أهل الأرض تنطلي عليهم هذه الأمور، ولكن الله -عزّ وجلّ- لا يغش، يعلم الصادق من الكاذب، يعلم الذي يريد ربه لنفسه، يريد أن يضخم نفسه.. يتقرب من الله -عزّ وجل- ليؤكد نيته وذاته، وفي زوايا قلبه هناك حب لبعض الامتيازات: يريد المقام الصادق، أو يريد أن تطوى له الأرض، أو يريد أن يقول: كن!.. فيكون.. يريد إذا أحبّ فتاة أن يؤشر بقلبه إليها فيقول: يا مقلب القلوب!.. حتى تتحول إلى عاشقته.. يبحث عن هذه الأمور ليحقق ذاته.. هذا الإنسان طماع ومتاجر، لا يحب الله؛ إنما يحب نفسه!.. هذا عاقل، فبدل أن يشغل نفسه في الشهوات، أشغلها بالطاعات؛ ليصل إلى هذه المرحلة.

– هل من يتقرب إلى الله -عز وجل- لكسب بعض مزايا الربوبية، هذا من أهل الجنة؟..
– نعم، هذا الإنسان سيكون في أحضان الحور العين يوما ما؛ لأنه إذا كان الإخلاص هو الشرط لقبول العبادة، فكلنا سندخل جهنم.. ورد في الخبر عن الصادق (ع): (إنّ آخر عبد يُؤمر به إلى النار، يلتفت فيقول الله عزّ وجلّ: أعجلوه، فإذا أُتي به قال له: يا عبدي!.. لمَ التفتّ؟.. فيقول: يا ربّ!.. ما كان ظني بك هذا، فيقول الله جلّ جلاله: عبدي، وما كان ظنك بي؟!.. فيقول: يا ربّ!.. كان ظني بك أن تغفر لي خطيئتي، وتسكنني جنّتك.. فيقول الله: ملائكتي!.. وعزّتي وآلائي وبلائي وارتفاع مكاني، ما ظنّ بي هذا ساعة من حياته خيراً قطّ، ولو ظنّ بي ساعة من حياته خيراً، ما روّعته بالنار.. أجيزوا له كذبه، وأدخلوه الجنّة)!.. لكن الهدف أن يصل العبد إلى مرحلة ذكرها الإمام علي -عليه السلام-: (إلهي!.. ما عبدتك خوفاً من عقابك، ولا طمعاً في ثوابك.. ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك).

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.