Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

إن الإمام في أول الدعاء، يبدي معرفته بالله عز وجل، فيسأله: برحمته، وبعزته، وبسلطانه، وبأسمائه، وبعلمه.. فهو يلتفت إلى الرب أولا، ثم يلتفت إلى نفسه ثانيا، ويذكر أنواع الذنوب في حياة الإنسان.

الدرس الأول: إن المؤمن في دعاءه مع رب العالمين، يراعي هذا الترتيب.. حسب الظاهر ليس هنالك صلاة على النبي وآله في متن الدعاء، ولكن الإمام -صلوات الله عليه- كان ملتزما بهذه الصيغة الجامعة لكل دعاء: صلوات على النبي، وتحميد لله، ثم طلب الحوائج، ثم يختم بالصلاة على النبي وآله.. ورب العالمين أكرم من أن يستجيب الطرفين، ويهمل الوسط، فالصلاة على النبي وآله دعاء مستجاب، دعاء راجح، وقد دعانا الله -عز وجل- إلى ذلك {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.. فإذن، الصيغة الجامعة للدعاء: البدء بالصلاة على النبي وآله، ثم في وسط الدعاء نقدم حوائجنا بين يدي الله عز وجل، والختم بالصلاة على النبي وآله.. ورب العالمين أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين!..

ثم يذكر الإمام (ع) أنواع الذنوب:
الذنوب التي تهتك العصم: (اَللّهُمَّ!.. اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تَهْتِكُ الْعِصَمَ)؛ ولكن الإمام لم يذكر ماهية هذه الذنوب، كان بإمكانه أن يقول: (اللهم!.. اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم، وهي: عقوق الوالدين، أو النميمة مثلا).. نعتقد إن نفس الإبهام في آثار الذنوب أمر مطلوب، فأنت لا تعلم، والإمام لم يذكر ذنبا خاصا يهتك العصمة، ولا ذنبا خاصا ينزل النقمة.. فالإنسان احتياطا يحاول أن يجتنب كل هذه الأمور، مثلا: إنسان يقول: احذر الميكروب الفلاني؛ لأنه يأتي بالمرض الفلاني، ومرة يقول: احذر الميكروبات بشكل عام، ولا يقول لك ما أثر هذا الميكروب بالخصوص.. وهذا ادعى لأن يكون الإنسان محتاطا في تعامله.

إن الذنوب بشكل عام على اختلافها وألوانها هي ذنوب.. هنالك ذنوب في السر مثلا: إنسان ينظر إلى فيلم محرم في جوف الليل، بينه وبين ربه؛ هذا من أقرب الذنوب للمغفرة، وإن كان الذنب ذنبا على كل حال.. ولكن لم يهتك حرمة أحد، ولم يشجع أحدا على الفساد، بخلاف الذنوب الاجتماعية، الذنوب التي لها أطراف، مثلا: إنسان أغوى إنسانا، ثم تاب إلى الله عز وجل.. فرب العالمين يغفر الذنوب جميعا، ولكن الإنسان الذي كان هو السبب في انحراف إنسان، وهذا المنحرف سبب في انحراف إنسان آخر، فيأتي يوم القيامة وإذا بآلاف الناس هم منحرفون بسببه، يقال: كل هؤلاء بسببك أنت، أنت الذي أغويت الأول، وهذا الأول صار على رأس عصابة فساد، وهذه العصابة أنتجت عصابات، يعلم الله تعالى ماذا سيحصل!.. (ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء).

فإذن، إن الذنوب على اختلاف أشكالها وألوانها ذنوب مدمرة، (اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ) يقال في اللغة العربية: الجمع إذا أضيف له (الـ) فإنه يفيد العموم.. (اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ)؛ أي لا تدع لي ذنبا إلا غفرته.

لعل السبب في أن الإمام لم يذكر هذه الذنوب، حتى يخاف الإنسان من كل ذنب، فيقول: ربما هذا الذنب يحبس الدعاء، وربما نفس الذنب يهتك العصم، ومن الممكن أن نفس الذنب ينزل النقم.. وعليه، فإن المؤمن يظل خائفا دائما.

الدرس الثاني: إن الجو هو جو دعاء، فالإمام ليس في مقام بيان خطبة الجمعة، أو حديث حول المعاصي والذنوب، إنما المقام مقام إجمال.. فإذن، إن الإمام لم يفصل؛ لأن هذا هو المطابق للبلاغة، هو في مقام الدعاء.. وبالتالي يذكر العناوين العامة للذنوب والمعاصي (اَللّهُمَّ!.. اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تَهْتِكُ الْعِصَمَ).. هل يمكننا أن نحدس حدسا ما هي الذنوب التي تهتك العصم؟..

من دون أن نجزم نقول: من الممكن أن تكون هذه الذنوب هاتكة للعصمة -والله العالم- نحن نحتمل، والاحتمال أمره سهل، الإنسان عندما يحتمل الشيء لا يجزم.. وبالتالي، له حق أن يتفوه بذلك الاحتمال.. نحن نحتمل أن من الذنوب التي تهتمك العصم؛ هتك عصمة الغير.. فطبيعة المعاصي متناسبة مع طبيعة الذنوب، على كل حال الإنسان الذي يهتك عصمة الغير، ويكشف سر الغير، ويفشي عيوب الغير؛ من الممكن أن يعاقبه رب العالمين أيضا بجنس هذه البلية وبهذا الذنب.. فالمؤمن موجود يستر العيب، ليس فقط يستر العيب بل المؤمن له خاصية أخرى: أنه يوجّه العيب، وهذه من علامات المؤمن، والأحاديث تقول: (احمل فعل أخيك على سبعين محملا)، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (ضع أمر أخيك على أحسنه، حتى يأتيك ما يغلبك منه.. لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءً، وأنت تجد لها في الخير محملا)؛ وهذه صفة راقية، إلى درجة أن البعض قد يقول: هذا مبالغ فيه!.. ولكن فقهيا من الممكن أن يكون الأمر كذلك، مثلا: مررتَ على إنسان وفي فمه رائحة الخمر، هل يمكن أن تجزم على هذا الإنسان أنه قد شرب الخمر؟.. ونحن لا نميز رائحة الخمر؛ لأن رائحته تشبه الخل.. نعم الخمر دخل في فمه، في فضاء الفم، فهل بلع الخمر؟.. نحن لا نعلم!.. البعض قد يقول: هذه مبالغة!.. نقول: هناك عدة احتمالات:

الاحتمال الأول: ربما هنالك مرض يشفى بالمضمضة بالخمر، فالخمر مادة كحولية، وهذا الإنسان اعتقد أن هذه المادة الكحولية معقمة -مثلا- فتمضمض به.. فإذن، من أين تعلم أن هذا قد شرب الخمر؟.. نعم إلى هذه الدرجة يحمل الإنسان فعل الغير على سبعين محملا؛ أي يجعل هناك احتمالات كثيرة في المقام.

الاحتمال الثاني: احتمال النسيان..

الاحتمال الثالث: مثلا: إنسان يقلد مرجعا يجيز له هذا الفعل الذي هو محرم عندك، الفقهاء هذه الأيام يختلفون حتى في الأمور الملفتة، فقيه يقول: يجوز، وفقيه يقول: لا يجوز.. فلعله يقلد هذا الفقيه الذي يجوّز هذا العمل.. وعليه، فإن الإنسان لا يمكنه أن يهتك عصمة الغير بهذه السهولة.. ومن هنا، انظروا إلى الشريعة في باب الغيبة!.. فالبعض يعتقد أن الإنسان لو اطلع على عيب الغير ورأى صدقه، يجوز له أن يذكر عيب ذلك الإنسان.. والحال: راجعوا الفتاوى أو الرسائل العملية، فهل يجوز غيبة الفاسق بمجرد فسقه؟..

يقولون: كلا!.. تجوز غيبة الإنسان المتجاهر بالفسق، في خصوص الفسق الذي يتجاهر به فقط.. مثلا: يتجاهر بشرب الخمر، ولكن يتستر على الزنا، فلو قلت: هذا زانٍ، دخلت في عقوبة الغيبة.

فإذن، إن القضية عند الله عز وجل، ولو أن الله -عز وجل- أراد أن يهتك ستر أحدنا، ماذا كان سيحصل؟.. لو أن الإنسان يصاب بالعمى إذا نظر إلى الحرام، وبالاستماع للغناء والغيبة يصاب بالصمم؛ لكنا كلنا معوقين: لا نسمع، ولا نرى، ولا نتكلم.. ولكن الله -عز وجل- ستار العيوب، وعلى المؤمن أن يقتدي بالله -عز وجل- في هذه الصفة الإلهية.

إن من المحتمل أن يكون الذنب الذي يهتك العصمة، هتك الإنسان عصمته بنفسه.. فالمتجاهر بالفسق لا غيبة له، والمؤمن يتحاشى أي حركة توجب له هذا الوهن.. في بعض الروايات أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- اختلى وتحدث مع امرأة في المدينة -والمدينة صغيرة في تلك الأيام أشبه بقرية، والصحابة يعرفون بعضهم بعضا، النبي تكلم مع المرأة كما يتكلم الإنسان مع محرم له- يبدو أن النبي (ص) رأى بعض الصحابة ينظرون إليه، فقال لهم: هذه عمتي؛ أي لا تسيئوا الظن، أنا أتكلم مع إنسانة هي محرم عليّ.. ولهذا ورد في حديث عن الصادق (ع): (من دخل موضعاً من مواضع التهمة فاتُّهم، فلا يلومنّ إلا نفسه).. أنت لك حرمة، ولك عصمة؛ فلا تعرّض نفسك للتهمة المحرمة، ولما هو مبغوض عند الله عز وجل.. فإذن، إن المؤمن إذا هتك عصمته بنفسه، فإن الله -عز وجل- يسلم أمره إليه.

إن من أسوأ الذنوب بشكل عام، ومن أقبح الذنوب، بل من أقرب الذنوب للعقوبة المعجلة؛ هو الذي يذنب الذنب وهو غير متأسف ولو بعد الذنب مباشرة.. طبعا الإنسان الذي ارتكب الذنب، هو حين الذنب مرتاح من ذنبه؛ ولكن الحمد لله نحن تأتينا رسائل تنبيه بعد الفراغ من الذنب مباشرة، ولا نبالغ حينما نقول: ثوان بعد الانتهاء من الذنب، يدخل الشخص ويجلس في زاوية ويبكي بكاء الثكلى بين يدي الله عز وجل.. ولعل هذا الإنسان عندما يبكي بين يدي الله بعد ذلك الذنب، يرتفع عند الله درجات عالية، يقول الله عز وجل: (أن عبداً أذنب ذنباً فاستغفر ربه، فقال الله -عز وجل- لملائكته: أعلم عبدي أن له رباً يؤاخذ بالذنب ويغفر الذنب، أشهدكم أني قد غفرت له.. ثم أذنب الثانية فاستغفر ربه، فقال الله عز وجل: أعلم عبدي أن له رباً يؤاخذ بالذنب ويغفر الذنب، أشهدكم أني قد غفرت له. ثم فعل الثالثة).. طبعا بشرط عدم العودة، والإنابة، والتوبة النصوحة.. أي لا يكون ذلك على سبيل الاستهتار والتهاون، وإنما يعزم ويصدق، فإذا غلبته غفلة أو استذله شيطان، تذكر مرة أخرى وعاد {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}.

فإذن، إن من موجبات هتك العصمة، أن يعمل الإنسان الذنب وهو مرتاح إلى ذنبه.. هؤلاء تقريبا هم في درجة الختم على القلوب؛ لأن ضميرهم مات، وإحساسهم تبلد.. قال رسول الله (ص): (كيف بكم إذا فسق شبابكم وطغى نساؤكم)؟.. قالوا: يا رسول الله، إن ذلك لكائن؟.. قال: (وشر من ذلك سيكون، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرا، والمنكر معروفا)؟!.. وهذه آخر درجات السوء في الإنسان.

الذنوب التي تنزل النقم: (اَللّـهُمَّ!.. اغْفِـرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تُنْزِلُ النِّقَمَ).. رب العالمين لا ينتقم بسهولة، والانتقام صفة بشرية: الإنسان الضعيف عندما يعجز، وعندما يخاف الفوت، يحتاج إلى ظلم الضعيف، بني آدم لأنه يخاف الفوت ينتقم، مثلا: لو أن إنسانا تعرض للضرب من قبل شخص ما ثم هرب ذلك الشخص، فإنه يركض خلفه، ويحصره في زاوية، ويبرحه ضربا؛ لأنه يخاف ألا تتهيأ له الفرصة ثانية.. فإذن، إن الانتقام حالة بشرية بشكل عام، ولكن الله -عز وجل- في كتابه الكريم، يعبر عن نفسه {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ}، هذا الانتقام ليس بدواعٍ عاطفية، ولا بدوافع شعورية بمعناه البسيط الساذج، ولكن لأن الله -عز وجل- يرى أن في هذا الانتقام تمام الحكمة والمصلحة.

إن الإمام لم يذكر هذه الذنوب، ولهذا نحتمل -والله العالم- إن الذنوب التي توجب الانتقام، هي التي فيها جانب تحدٍّ لله عز وجل.. ولهذا يقولون في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}؛ أي الذنب الذي لا يغفره الله هو الشرك، معنى ذلك إن الذنب الذي لا يُغفر يوجب الخلود، وإلا لو كان قابلا للمغفرة لما كان هنالك خلود.. كل ذنب يغفر إلا الشرك، ونحن نعلم أن الشرك من موجبات الخلود.. ولكن كيف يقول في آية أخرى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}.. هذا أيضا ذنب، وهو دون الشرك، فلماذا القرآن تارة يقول: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ}، وهذا إنسان قتل إنسانا، فكيف إذن يخلد في النار؟..

يقولون في الجواب: ليس المراد من قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا}؛ أي إنسان في ساعة من ساعات الغضب، كما هو متعارف في العشائر، يغضب ويتأثر من قاتل أبيه، أو ممن شارك في قتل أبيه، فيرديه قتيلا، يقولون: هذا إنسان في منتهى السوء، قد ارتكب كبيرة، ولكن الذي يوجب الخلود في نار جهنم هو من قتل مؤمنا لإيمانه.. إذن، عاد الأمر إلى الكفر، أي يعاديه ويقتله لأنه يؤمن بالله -عز وجل- وهذا تحدٍّ.. وبالتالي، فإن من موجبات نزول النقمة، أن يقوم الإنسان بالذنب متحديا.

كلمة (اغْفِـرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تُنْزِلُ النِّقَمَ).. من الممكن -والله العالم- كأن هنالك سحابة عذاب، هذه السحابة موقفة، ولكن تنتظر الفرصة المناسبة لنزول العذاب على أهلها، وإذا نزل عذاب التنكيل والاسئصال بقوم، فلا ينفعهم إيمانهم ودعاؤهم لرد العذاب إلا ما كان من قوم يونس.. فقد نزل بهم العذاب، ولكنهم لما لجأوا إلى الله -تعالى- بالدعاء، والتضرع، والتوبة؛ دفع الله عنهم العذاب {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}.. لهذا عندما رجع يونس ورأى قومه في أمن وسلام، تعجب من سلامتهم!.. فكأنه -والله العالم- كل معصية تصدر، كأنها قطعة سحابة من عذاب ترتفع إلى فوق، وكلمة (سحابة من عذاب) لا توجد في الروايات، ولكن في تعبير روائي أنه يخرج من الإنسان نتن ورائحة كريهة تشمئز منه ملائكة السموات، هكذا الذنوب!.. قال أمير المؤمنين (ع): (تعطروا بالاستغفار، لا تفضحكم روائح الذنوب)!.. كل الذنوب لها روائح كريهة، وعليه هذه الرائحة الكريهة، أو هذه الظلمة؛ وهذه القطعة من النار ترتفع إلى فوق.. فعندما يأتي ذنب آخر، وذنب آخر، وذنب آخر؛ تتشكل سحابة عذاب، سحابة من نار، في ليلة من الليالي وإذا برب العالمين ينزل عليك سحابة العذاب.

إن البعض في ليلة واحدة، في يوم واحد، في أسبوع؛ أموره كلها تنقلب رأسا على عقب: فجأة أصيب بجلطة ودخل المستشفى، وفجأة ارتفع عنده السكر، واكتشف أنه مصاب بهذا المرض، وفجأة تطلقت منه زوجته، وفجأة أصيب بانهيار في سوق البورصة وخسر.. في أسبوع واحد النعم تسلب منه الواحدة تلو الأخرى، فيتساءل: ما الذي حصل؟.. يبدو أن العقوبات كلها كانت موقفة، ولكن تنتظر كما يقال: القشة التي قصمت ظهر البعير.. في عالم العقوبات الجزائية في المحاكم، هذه الحركة موجودة، مثلا: أحد ما قام بجريمة، فيحكم عليه بالجلد خمسين جلدة مع وقف التنفيذ، فيرتكب جريمة أخرى ويحكم عليه أيضا بخمسين جلدة، وثالثة، ورابعة، و..الخ؛ وكل هذا مع وقف التنفيذ، حتى تصبح خمسمائة جلدة مع التنفيذ، فيجلد مع جلداته السابقة، وهذا في عرف المحاكم موجود.. أيضا فإن بعض المعاصي، تسبب بعض العقوبات الإلهية مع وقف التنفيذ، ولكن في ليلة من الليالي، يقول رب العالمين للملائكة: أذنت لكم أن تنفذوا فيه العقوبات الماضية، والعقوبات الحالية.. والمؤمن في خوف دائم من هذه المسألة، وهنيئا لمن يقرأ دعاء كميل -لم يطلب منا قراءته في كل أسبوع، قال: في الشهر، في السنة.. بل قال: في العمر مرة-.. في العمر مرة، ولكن بشرطها وشروطها، لو أن إنسانا قبل موته بساعات قرأ دعاء كميل، وهو على فراش الموت، ولم يقرأ إلا الأربعة أسطر (اَللّهُمَّ!.. اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تَهْتِكُ الْعِصَمَ، اَللّـهُمَّ!.. اغْفِـرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تُنْزِلُ النِّقَمَ، اَللّهُمَّ!.. اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تُغَيِّـرُ النِّعَمَ، اَللّـهُمَّ!.. اغْفِرْ لي الذُّنُوبَ الَّتي تَحْبِسُ الدُّعاءَ) ثم أغمض عينيه ومات، لو استجيبت هذه الفقرات في حقه لا يبقى من درنه شيء.

(اَللّهُمَّ!.. اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تُغَيِّـرُ النِّعَمَ) يقول تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}، رب العالمين أكرم الأكرمين، طبيعة الكريم أنه لا يسلب ما أعطاك إلا في حالة نادرة جدا، مثلا: إنسان يقدم بين يدي الضيف فاكهة، وبجوارها سكين حتى يقشر الفاكهة، ولكن عندما يذهب الطفل لأخذ هذه السكين -مثلا- تضرب على يديه بشدة خوفا عليه، لأنه يسيء الاستفادة من هذه النعمة.. فالضيف يقشر الفاكهة، ولكن الطفل يقطع بها يده.. ورب العالمين ليس من دأبه أن يأخذ منك ما أعطاك، فهذا خلاف الكرم في حياة الأمم!.. ولكن إذا رآك تستهتر بهذه النعمة، ولا تستحقها؛ فإنه يأخذها منك.. مثلا: إنسان كتب له رب العالمين العافية، فوصل رحمه، ودفع صدقة؛ فإن رب العالمين يقول: نعم احذفوا منه المرض الفلاني.. بينما إذا كان وهو في معرض ذلك المرض، مستهترا بالنعم، يأتي الخطاب الإلهي: ارجعوا له المرض حتى يجلس في المنزل!.. هذا الإنسان إذا تُرك وشأنه، يذهب إلى بلاد الكفر فيفجر ويفسق، فيصاب بحادث تنكسر أعضاءه، فيصبح طريح الفراش، فتسلب منه هذه النعمة.. حتى إن بعض الناس رب العالمين يمكر به مكراً جيدا، أو مكراً لصالحه، كأن يرتكب مخالفة فيحكم عليه بالسجن أربع أو خمس سنوات؛ فإن هذا خير له.. لأنه لو كان خارج السجن لعمل ما عمل، وسُلب منه الأمان، والصحة، والعافية؛ وبالتالي، فإن كل ذلك لمصلحته.

فإذن، كيف نستبقي النعم، وندفع النقم؟..
الأمر الأول: أن يستعمل النعم في طاعة الله عز وجل، وكما نعلم أن من موجبات الخجل يوم القيامة إلى حد الذوبان، والقرآن الكريم يعبر تعبيرا أكثر من الذوبان {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} -التراب تدوسه الأقدام، يقال -والله العالم- يوم القيامة، المتكبرون يحشرهم الله -عز وجل- على شكل حشرات صغيرة كالنمل، حتى يداس عليهم، يقول الله عز وجل -والله العالم- أيها المتكبر كن تحت الأرجل-.. إن من موجبات الحسرة يوم القيامة، أن يأتي الإنسان ويقف بين يدي الله عز وجل {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}، النبي والأنبياء كلهم شاهدون على العباد، والنبي شاهد على هذه الأمة، يقال لفلان: المال مال الله أتنكر ذلك؟.. هذه الدنانير المؤلفة في حسابك في البنك أنت المالك {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}؟.. نحن شأننا مع رب العالمين، كشأن هذا الموظف الذي خلف صندوق النقد: هذا يفتخر أمام زوجته ويقول: أنا اليوم بيدي الملايين، تضحك عليه زوجته وتقول: هذه الملايين لك؟.. يقول: لا، هي ملايين البنك تمر على يدي.. فإذا افتخر بهذه الملايين، فهو يُتهم في عقله.. فأنت إنسان مستخلف على الصندوق.. يأتي يوم القيامة العبد ويقول له رب العالمين: كيف تنفق أموالي في خلاف مرضاتي، أما تستحي من هذا الأمر؟.. هذه أموالي، وأنا خلقتك، ووجودك تابع لي.. فكيف أعضاءك، وكيف بالمال الذي كسبته أعضاءك، أين أنت من هذا المال؟.. كم من المخجل أن يأتي العبد يوم القيامة بهذا الموقف!..

فإذن، إن الإنسان المؤمن عندما يصرف النعمة الإلهية في طاعة الله -عز وجل- لا يرى أنه منَّ على الله ورسوله، بعض الناس يدفع مالا في سبيل الله، أو يدفع خمسا واجبا عليه، وكأنه يجب أن يُحمد، يرجع للمنزل يقول لزوجته: أنا اليوم عملت عملا عظيما، دفعت هذا المبلغ من الخمس.. القرآن الكريم يقول: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} يدفع المال، يدفع الخمس، بل ماعدا الخمس المستحبات، طبعا الفخر في المستحبات وليس في الواجبات {يُؤْتُونَ مَا آتَوا}!.. فالقرآن لم يقل: يؤتون الخمس أو الزكاة أو ما شابه {وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} المفروض أن يكون قلبه مطمئنا ومرتاحا بهذا الإنفاق، يقول: {وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}؛ لأنه لا يعلم هل رب العالمين يقبل منه هذا الإنفاق، يقال: أنت حصلت على هذا المال من معاملة ربوية، فأصل فعلك محرم، وأنت تمنُّ علي أنك خمست هذا المال، أو دفعت صدقة من هذا المال!.. إن أصل الطريق طريق أعوج {أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}.. وبالتالي، فإن الخطوة الأولى لدفع النقمة، وعدم تغيير النعمة، هي استعمال المال فيما أراده رب العالمين.

الأمر الثاني: الشكر بكل معنى الكلمة -نحن مع الأسف- نجعل الشكر بعد النعم الكبيرة، بينما ورد في بعض العبارات: إذا أصلحت بين زوجين، عليك بسجدة الشكر!.. طبعا لأن هذه النعمة كبيرة، أن الله -عز وجل- أجرى على يديك هذه النعمة، بل أحد أئمة أهل البيت، بينما هو يمشي في السوق خر ساجدا، يقول الراوي: (كنت مع الصادق (ع) بالمدينة وهو راكب حماره، فنزل وقد كنا صرنا إلى السوق أو قريباً من السوق، فنزل وسجد وأطال السجود وأنا أنتظره، ثم رفع رأسه.. قلت: جعلت فداك!.. رأيتك نزلت فسجدت!.. قال: إني ذكرت نعمة الله عليّ، قلت: قرب السوق، والناس يجيئون ويذهبون؟.. قال: إنه لم يرني أحد).

فإذن، إن المؤمن عنده هذه الطبيعة بين وقت وآخر وبلا مناسبة، ومن أفضل فرص الشكر هو بعد الصلوات الواجبة، اسجد لله -تعالى- وقل: شكرا!.. شكرا!.. شكرا!.. على نعمة إقامة الصلاة، وخاصة جماعة، وفي بيت من بيوت الله عز وجل، اشكروا الله على هذه النعمة!.. ونحن نشكر الله -عز وجل- أن وفقنا لأن نكون في ضيافة أمير المؤمنين، في هذا الدعاء البليغ الذي نرجو من الله -عز وجل- أن يوفقنا بقراءته، بل بالدعاء به كما يليق به، وكما يحبه الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه.

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.