- ThePlus Audio
الرعاية الإلهية لمريم (عليها السلام)
بسم الله الرحمن الرحيم
مريم (عليها السلام) السيدة المحيرة…!
لقد حيرت السيدة مريم (س) العقول وبلغت من الشأو أن يطلب الله سبحانه من النبي (ص) أن يذكرها في الكتاب، فيقول عز من قائل: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ)[١]. وهي التي تشرفت بولادة سيدتنا الزهراء (س) وهي التي كانت مثالا للعففة والحياء. وكما ابتلاها الله عز وجل بالحمل، أعطاها الحل وفرج عنها. لقد شعرت بالطمأنينة وبالرعاية الإلهية عندما هزت بجزع النخلة التي كانت مقطوعة كما تذكر الروايات؛ فتساقط عليها الرطب الجني. وقد شعرت بالرعاية الإلهية أيضا عندما أعلمها جبرئيل أنه رسول ربها إليها. وشعرت بالرعاية الإلهية أيضا عندما ناداها ربها من تحتها: (أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا)[٢]. ولهذا ورد في الروايات استحباب إطعام الحامل الرطب، لأنها ثمرة تناسب حال المرأة الوالدة.
هل ينفع هز النخلة في إسقاط الرطب؟!
ولو تأملنا قول الله عز وجل: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ)[٣] لوجدناه يتضمن نكتة أخلاقية مهمة ذكرها العلماء في كتبهم وهي: أن التوكل لا يؤتي ثماره من دون سعي. إن المرأة التي ولدت لتوها هي في أضعف حالاتها ولكن مع ذلك قال لها سبحانه: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ)[٤]. لماذا لم يسقط عليها سبحانه الرطب الجني من دون سعي منها؟ ألم تكن تحظى برعايته منذ أول أيامها من الرزق الذي كان يأتيها بغير حساب والحمل والشجرة التي أصبحت مثمرة؟
نعم، إنه كذلك ولكن لا يُلغي ذلك السعي والكد. ويعني ذلك: يا مريم، إن أردت الرطب فقومي وهزي إليك بجذع النخلة، فلابد من السعي وإن كان قليلا وإن لم يكن مؤثرا في إسقاط الرطب. فلو هز النخلة أربعة رجال أو خمسة لم تسقط عليهم رطبا ولكن هزة خفيفة من مريم أسقط الرطب عليها، وكأن هزتها كانت ذريعة وحركة شكلية ليس إلا، وكان المطلوب منها التشبه بالساعين. فلا يُمكن أن يصل إلى نتيجة وإلى المقامات، من يتواكل ولا يسعى علمياً ولا عملياً للرزق والعبادة.
ناداها من تحتها..!
ومن الالتفاتات القرآنية الجميلة قوله سبحانه: (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا)[٥]. ذهب البعض من المفسرين إلى أن الذي ناداها من تحتها هو ولدها عيسى (ع). فمن الطبيعي أن يسقط الولد على الأرض عند الولادة، فكان هو المنادي من تحتها. وذهب آخرون إلى أن الذي ناداها من تحتها هو جبرئيل؛ فقد كان حاضرا عند النفخ وعند الولادة وطمئنها وقال لها: لا تحزني، أنا إلى جانبك. ولكن كيف حضر جبرئيل عند الولادة، فهو يتبع أمر الله عز وجل وهو ملك من الملائكة وكان ذلك تكليفه.
ومما قال لها: (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا)[٦]. أي قري عينا ولا تخافي من التهمة ولا تجيبي أحدا من الناس وكما يقول السياسيون اليوم إذا امتنعوا عن الإجابة: لا تعليق…! ولكن وقع ما كانت مريم (س) تتوقعه، فقد قالوا لها: (يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا)[٧]. لم يسألوها عن الحمل ولم ينتظروا منها جوابا وهذه عادة الجهال المتطفلين؛ يرمون التهم ويسيئون من دون بينة ودليل.
تبددت جميع التهم وتبرأت
قالوا لها: (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا)[٨]. أي أنت شاذة في هذه الأسرة العفيفة، وقد انحدرت من رحم طاهر وصلب نقي، فكيف صنعت ما صنعت؟ وقد كانت في بادئ أمرها مضطربة فتمنت الموت ولكنها هنا في هدوء وطمأنينة وثقة بالنفس أشارت إليه، فازداد القوم عتوا واعترضوا عليها قائلين: (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا)[٩]. أي هل تستهزئين بنا وتسخرين منا؟ إن الأمور بدت تتعقد في نظرهم، فكانت في نظرهم مرتكبة للفاحشة وظنوها مستهزءة فزاد ذلك الأمر سوء.
ولكن سرعان ما انتهى الإيذاء وزالت الشكوك، فقال: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا)[١٠]. لو كنت حاضرا في تلك اللحظة ورأيت طفلا قد ولد للتو يتحدث بهذه الفصاحة، كيف سيكون حالك؟ ماذا أصبح بهم وهم يرون هذا الطفل يتكلم؟ هل كانوا يلامون لو قطعوا ثوبها تبركا كعادتنا؟ لقد ارتفع رصيد مريم (س) بهذه الكلمة إلى أعلى عليين؛ من امرأة تتهم بالبغاء إلى قديسة.
اعمل لله وانظر كيف يدافع عنك
عزز علاقتك بالله عز وجل؛ فهو الذي يبرأك وهو الذي يدافع عنك في جميع اللحظات. قد يشتكي الكثير من الناس قائلين: لا يفهمنا أحد في هذه الحياة ولا يستوعبنا من البشر أحد، ولا ضير في ذلك ما دام الله يعرفك ويدافع عنك. قد تقول الأم المتفانية إذا بدرت من زوجها أو أولادها بادرة سوء: إن زوجي وأولادي لا يقدرونني. ولهؤلاء أقول: لا تنتظر التقدير من أحد قل الله ثم ذرهم…! اعمل ما تعمله لوجه الله وقل له: يا رب، الأمر إليك.
كلمة لعيسى (عليه السلام) ترتبط بزمان الظهور
من الكلمات التي لها علاقة بزمان الظهور قوله: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا)[١١]؛ فهو من الأنبياء أولي العزم وهو مبارك في الدنيا وفي البرزخ وفي زمان الظهور. أما في الدنيا فكان يكلم الناس في المهد وعاش سعيدا وقد رفعه الله عز وجل إليه؛ فلم يمت ولم يُقتل كما قال سبحانه: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ)[١٢]. وهو الآن بعد أكثر من ألفي عام ينتظر الإذن لينزل إلى الدنيا ويصلي خلف إمام زماننا (عج). أليست هذه بركة؟ إن المسلمون والمسيحيون الذين يعتبرون أنفسهم أتباع المسيح (ع) يحبونه ويجلونه اليوم.
من وصايا عيسى (عليه السلام)؛ الصلاة والزكاة وبر الوالدين
وكان مما نطق به عيسى (ع) في المهد: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا)؛ أي الصلاة على شريعته وكذلك الزكاة. ولكن لا تكفي الصلاة ولا الزكاة؛ فذكر حقا من حقوق المخلوقين فقال: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا)[١٣]. واكتفى بذكر والدته لأنه قد وُلد من دون أب كما هو معلوم. فمن صلى وزكى ولم يكن باراً بأمه فهو يفقد ضلعا من أضلاع المثلث. لو رسم أحدهم خطين وقال: هذا مثلث، لقالوا: أين الضلع الثالث؟ لا يقولن قائل: والدي لا يستحقان البر أو أمي كذا وأبي سريع الغضب أو رزقه ليس رزقا حلالا وما شابه ذلك من الذرائع. ألم يقل سبحانه: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)[١٤]؟ فكيف إذا كانا مسلمين؟ فكيف إذا كانا مؤمنين؟ فيكف إذا كانا مواليين؟ فكيف إذا كانا مطيعين لله ولرسوله؟
ثم سلم على نفسه في محطات ثلاث؛ اثنتان مخيفتان وواحدة مفرحة: (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا)[١٥]. أما ساعة الولادة فهي ساعة جميلة وهي ساعة ضحك وسرور. أما ساعة الموت وساعة النشور فهي ساعات مخيفة ما لم تعمل لهما وتستعد. فإذا عملت في دار الدنيا عملا صالحا كنت مستبشرا فرحا ساعة الموت والبعث: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ)[١٦].
[٢] سورة مريم: ٢٤.
[٣] سورة مريم: ٢٥.
[٤] سورة مريم: ٢٥.
[٥] سورة مريم: ٢٤.
[٦] سورة مريم: ٢٦.
[٧] سورة مريم: ٢٧.
[٨] سورة مريم: ٢٨.
[٩] سورة مريم: ٢٩.
[١٠] سورة مريم: ٣٠.
[١١] سورة مریم: ٣١.
[١٢] سورة النساء: ١٥٧.
[١٣] سورة مریم: ٣٢.
[١٤] سورة العنكبوت: ١٥.
[١٥] سورة مريم: ٣٣.
[١٦] سورة الواقعة: ٨٨-٨٩.
خلاصة المحاضرة
- كما ابتلى الله مريم بالحمل، أعطاها الحل وفرج عنها. لقد شعرت بالرعاية الإلهية عندما هزت بجزع النخلة التي كانت مقطوعة كما تذكر الروايات؛ فتساقط عليها الرطب الجني. وقد شعرت بالرعاية الإلهية أيضا عندما أعلمها جبرئيل أنه رسول ربها إليها وعندما ناداها من تحتها ألا تحزني.