Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

ان أرقى صورة للحياة السعيدة : هي عيشة العبد في هذه الحياة مستشعرا روح العبودية لله تعالى في كل حركاته وسكناته .. فالذي يعيش هذه الحالة حقيقة لا تكلفا ، ودائما لا متقطعا ، ورغبة لا كرها ، فانه هو السعيد بما لا وصف بعده !!.. إذ لا سعادة في الوجود حقيقة ، مع عدم الانسجام مع واهب هذا الوجود ، الا اذا أنكر الإنسان مبدأ هذا الوجود ، ليخرج بذلك عن كل خطابات العقل والشرع ، فان المنكر لأشد الوجودات بداهة وقداسة ، لا يمكن ان يعد من الأحياء الناطقين الذي يصح الحديث معهم حقيقة ، إذ هم اما من : الأموات كما وصفهم القران الكريم { أموات غير أحياء } ، أو الجمادات غير العاقلة { كأنهم خشب مسندة} .

تطبيقا للمبدأ سالف الذكر ، فان المؤمن يفكر دائما في لوازم العبودية في كل فصول حياته ، وعليه فمع بداية فصل الصيف – وهو من اكثر الأوقات هدرا وضياعا في السنة ، لعدم وجود برنامج متكامل يتزود الإنسان من خلاله لدنياه أو أخرته – لا بد للإنسان من ان يبحث عن مقتضى العبودية لله تعالى في هذا الفصل أيضا ، والذي يعد ربع أيام سنته ، وقياسا الى ذلك فان مجموع هذه الأشهر في سنوات متتالية ، يعد ربع سنوات عمره .. ولك ان تتصور فداحة الخطب عندما يصرف العبد ربع سنوات عمره، فيما لا يعود بنفع له في دنياه ولا في أخرته .. أو ليس هذا هو الخسران الموجب لندامة الأبد ؟!

ان من البرامج الشائعة في فصل الصيف هو الانتقال من بلد الى بلد أو ما يعبر عنه بالحركة السياحية ، وهي حركة إيجابية في حد نفسها كما لا ينكر ، ولكن لا بد من صبها في القالب العام لحركة العبودية لله تعالى ، فليس هناك نشاط للعبد ، ليس للشارع فيه رأي وهدف !!.. فهل حاولنا ان نتلمس المعالم الإلهية لهذه الحركة ، التي تتم غالبا في جو من الغفلة والاسترسال فيما يطابق الهوى فحسب ، من دون استثمار حقيقي لما هو خالد ابد الآبدين ؟.

ان من الملفت حقا ان القران الكريم حينما يستعمل كلمة السياحة ، فانه يجعل ذلك في سياق عبادي متكامل ، يبدأ من الجهاد في سبيل الله تعالى ، وينتهي للعبادة الفردية بين يديه .. فتأمل في هذا النص القرآني الذي استعمل فيه تعبير السياحة حيث يقول : { ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بان لهم الجنة ، يقاتلون في سبيل الله …… التائبون العابدون ، الحامدون السائحون ، الراكعون الساجدون ، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ، والحافظون لحدود الله ، وبشر المؤمنين } .. فلاحظ كيف ان القران جعل السياحة في سياق العبادات الأساسية في الحياة ، مما جعل بعض المفسرين يرى بان الآية تصف المؤمنين بصفات جامعة مستوعبة لحواسهم من الألسنة والأبدان والأقدام : إذ هم التائبون لرجوعهم من غير الله إلى الله سبحانه ، العابدون له حيث يعبدونه بـ : ( ألسنتهم ) فيحمدونه بجميل الثناء ، و ( بأقدامهم ) فيسيحون و يجولون من معهد من المعاهد الدينية و مسجد من مساجد الله إلى غيره ، و ( بأبدانهم ) فيركعون له و يسجدون له.

ان القران الكريم يدعو اتباعه للحركة الجغرافية والتأملية في الأرض قائلا : { أ فلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } .. وعليه فلا يكفي الانتقال من بلد الى بلد ، كانتقال الآلات الصماء ، وإنما يطلب تلك الحركة الواعية المتأملة ، حيث ينتقل الإنسان فيها من المقدمات الى النتائج ، ومن القشرة الى اللب ، ومن الظاهر الى الباطن .. فبدلا من النظر الى المعالم البائدة للأمم السالفة – لمجرد التنزه والتفرج – فان الإنسان ذا البصيرة في الحياة ، يتأمل في عواقبهم ، لا فيما كانوا فيه ، وذلك عندما يرى زوال كل مظاهر القدرة والعزة الظاهرية ، و استحالتهم الى التراب في القبور : حيث الحفرة من حفر النار ، أو الروضة من رياض الجنة .

هنالك مجموعة من الدروس الفقهية آلتي لا بد من استيعابها قبل السفر ، إذ ان الجاهل بتلك القواعد ، من الممكن ان يخل بواجب العبودية لربه .. فالملحوظ ان البعض يتحلل من أداء بعض الواجبات عند السفر وخاصة الفريضة ، بل قد يصل الأمر الى التفريط في الصلاة !!.. وعليه فان أهم عدة للسفر هو التهيؤ التام لأداء الفرائض في أول أوقاتها ، مع مراعاة شروط القبلة ، والوقت ، والطهارة ، وغير ذلك .. فان الإنسان ينكشف جوهره في هذه المقامات حيث تنتفي الرقابة الاجتماعية ، ويغلب على الإنسان جو الاسترخاء و الاسترسال .

لا بد من اخذ الحيطة المضاعفة بالنسبة للأحداث ، الذين طالما اكتسبوا الصفات المنحرفة من خلال السفر الى البلاد المنحرفة .. وكم من المؤسف حقا ان يزج ولي الأمر – وهو الراعي لرعيته – فلذات كبده في مستنقع من الرذيلة ، وذلك بأمواله التي جعله الله تعالى مستخلفا عليها .. وكذلك لا بد من أخذ الحيطة الشديدة لعدم التفريط في حد من حدود الله تعالى وخاصة بالنسبة للحجاب الشرعي ، وقواعد التعامل بين الجنسين ، فان الكثير يتحلل من هذه القيود عندما يخرج من بيئته المحافظة ، وكأنه غاب عن نظر مولاه !!

ان المؤمن موجود حكيم في كل تصرفاته ، والحكمة هي وضع كل شيء في موضعه .. فاذا كان لا بد من السفر فلا بد من الدقة في اختيار البلاد التي لا تفسد على الأنسان دينه ، وفى اختيار الرفقة الذين طالما يسول الفاسد منهم المعاصي لصاحبه ، وخاصة في المواضع آلتي تسلب العاقل لبه ، كبعض المنتجعات المفسدة .. فكما ان التعرب والاستقرار الدائم في بلاد الكفر خلاف سياسة الشريعة بشكل عام ، فكذلك السفر الى تلك البلاد آلتي لا يضمن العبد التزامه بقواعد العبودية ، فانه أمر غير راجح قطعا .. وهل خلت بلاد المسلمين من مواطن يجمع فيها الإنسان بين خير الدنيا والآخرة حيث : جمال الطبيعة ، ومشاهد العبادة ؟

إننا لا نبالغ في عالم المثالية حينما نقول : بان المؤمن قد يصل بعد المجاهدة المستمرة ، الى مرحلة يمكنه السير في عالم الأنفس ، متلذذا بلذة تفوق لذائذ عالم الآفاق .. فهل جربت ان تسترخي في ساعة من ساعات إقبال القلب ، مطبقا جفنيك لتسيح في عالم باطني ، حيث بعض مشاهد التجلي الالهي في عالم القلب ، بما فيها من صور مشعة ، وجمال يدرك و لا يوصف .. إذ ان من تجلى في هذه الطبيعة الخلابة ، فانه قد تجلى بأضعافها في عالم النفوس الدائبة في السير اليه .. ولكن مع الأسف هم الأقلون عددا ، في خضم هذه الدواب السائمة !!

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.