Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

– إن من أبرز مشاكل هذا العصر ، هو : فقدان الارتياح النفسي وغلبة الهموم وقلة السرور.. ولهذا نلاحظ للهروب من هذه الحالة أن البعض منهم يذهب إلى بعض الأماكن ، مثل المطاعم أو شاطئ البحر ، أو -لا قدر الله- تراه يذهب إلى مكان محرم مثل الملاهي الليلية أو ما شابه ، ليعيش حالة الارتخاء والسرور الكاذب ، وما هي إلا سويعات وتمضي ثم يعود إلى همه وكآبته.. والقرآن الكريم يشير إلى هذه الحالة ، حيث يقول تعالى : {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون} ، ويشبههم بالأنعام في آية أخرى : {إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً}.

إذن، تبين أن هذا ليس إلا صورة من صور المتع واللذائذ المتعلقة بالبدن، وأما السرور فإنه ذلك السرور المستمر المستقر في القلب ، الذي يرافق الإنسان في جميع حالاته : في الصحة والمرض ، وفي المستشفى وخلف قضبان السجون ، وفي ساعة الاحتضار وفي القبر ، وفي عرصات القيامة وفي الجنة ، إذ في ذلك اليوم يكون حالهم كما يصفه قوله تعالى : {فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقَّاهم نضرة وسرورا} ، ففي يوم القيامة يكون المؤمن في أعلى درجات السرور ، ولكن هذا السرور هو امتداد لسرور متصل في الحياة الدنيا.. كما نقل عن إمامنا الحسين (ع) بأنه كان يعيش حالة السرور في يوم عاشوراء – وأي سرور هذا وقد فقدَ أعز أولاده وإخوته وأصحابه !- ، كان (ع) كلما اشتد عليه البلاء أشرق لونه الشريف ، وأما بكاء أهل البيت (ع) فهو من خشية الله تعالى في مناجاته أو بكاءً للأمة ، فالحسين (ع) لم يبكِ لنفسه أبداً ، بل إنه كان يعيش حالة السرور المتصل.

إذن، المؤمن لا يمكن أن يعيش حالات الاكتئاب أو الانهيار العصبي ، بل هو في حالة الهدوء والاطمئنان النفسي ، فهو يضع نصب عينيه وفي قلبه ذكر الله عزوجل ، وذكر القيامة وأهوالها ، ويتأسى بما جرى على أنبياء الله تعالى وأوليائه الصالحين ، ويذكر أهل البيت (ع) ومصائبهم ، ويقوم بتكليفه والله عزوجل هو رب هذه الأمة وهو خير الحافظين.

– من موجبات السرور :

* الانسجام مع هذا الوجود المطيع لأمر ربه.. قال تعالى مشيراً لاستجابة السماوات والأرض لأمره تعالى : {ائتيا طوعاً أو كرها قالتا أتينا طائعين}.. إن المعاصي والذنوب ظلم للآخرين وتعدي عليهم ، وهي بذور للقلق في القلب ، ولا شك أن الإنسان العاصي هو شاذ عن هذا الوجود المطيع ، وإن الله عزوجل يمهل ولا يهمل ، فتراه يجمع له كل المخالفات المتراكمة ، وإذا به ينهار عصبياً ، ويفلس مادياً ، وينكسر اجتماعياً.. وفي المقابل نجد أن الذي يدخل السرور على قلوب المؤمنين ، وخاصة ذوي القربى من الوالدين والزوجة ، يقول عنه إمامنا علي (ع) : (والذي وسع سمعه الأصوات ، ما من أحد أودع قلباً سروراً إلا وخلق الله من ذلك السرور لطفاً . فإذا نزلت به نائبة جرى إليها كالماء في انحداره حتى يردّها عنه ، كما تطرد غريبة الإبل).. معنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى يدفع عن الإنسان أقداراً مقدرة من البلايا والنكبات والمشاكل ، في مقابل ذلك السرور الذي أدخله على أخيه المؤمن.

* إرضاء الله تعالى من خلال إرضاء المؤمنين وقضاء حوائجهم.. هناك رواية طريفة نلاحظ فيها نكات جميلة-من المعلوم في عهد الحكم الأموي والعباسي ، كان البعض ممن يرتبط سراً بأهل البيت (ع) يتقلدون مناصب مهمة كعلي بن يقطين وغيره ، قضاءً لحوائج المسلمين- : عن رجل من أهل الري قال : ولّي علينا بعض كتاب يحيى بن خالد ، وكان عليّ بقايا يطالبني بها ، وخفت من إلزامي إيّاها خروجاً عن نعمتي ، وقيل لي : أنه ينتحل هذا المذهب ، فخفت أن أمضي إليه فلا يكون كذلك فأقع فيما لا أحب ، فاجتمع رأيي على أني هربت إلى اللـه تعالى ، وحججت ولقيت مولاي الصابر – يعني موسى بن جعفر (ع) – فشكوت حالي إليه فأصحبني مكتوباً نسخته : بسم اللـه الرحمن الرحيم اعلم أن لله تحت عرشه ظِلاً لا يسكنه إلاّ من أسدى إلى أخيه معروفاً أو نفّس عنه كربة ، أو أدخل على قلبه سروراً ، وهذا أخوك والسلام . قال : فعدت من الحجّ إلى بلدي ، ومضيت إلى الرجل ليلاً ، واستأذنت عليه وقلت : رسول الصابر (ع) فخرج إليّ حافياً ماشياً ، ففتح لي بابه ، وقبّلني وضمني إليه ، وجعل يقبّل بين عيني ، ويكرّر ذلك كلما سألني عن رؤيته (ع) ، وكلما أخبرته بسلامته وصلاح أحواله استبشر وشكر اللـه ، ثمّ أدخلني داره وصدّرنــي في مجلسه وجلس بين يدي ، فأخرجت إليه كتابه (ع) فقبّله قائماً وقرأه ثم استدعى بماله وثيابــه ، فقاسمني ديناراً ديناراً ، ودرهماً درهماً ، وثوباً ثوباً ، وأعطاني قيمة ما لم يمكن قسمته ، وفي كلّ شيء من ذلك يقول : يا أخي هل سررتك ؟ فأقول : أي واللـه ، وزدت على السرور ، ثم استدعى العمل فأسقط ما كان باسمي وأعطاني براءة مما يتوجّه عليّ منه ، وودّعته ، وانصرفت عنه . فقلت : لا أقدر على مكافأة هذا الرّجل إلاّ بأن أحج في المقابل وأدعو له وألقى الصّابر (ع) وأعرّفه فعله ، ففعلت ولقيت مولاي الصابر (ع) وجعلت أحدّثه ووجهه يتهلّل فرحاً ، فقلت : يا مولاي هل سرّك ذلك ؟ فقال : أي واللـه لقد سرني وسرّ أمير المؤمنين ، واللـه لقد سرّ جدي رسول اللـه (ص) ، ولقد سرّ اللـه تعالى.

إن الإنسان يندى جبينه خجلاً ، عندما يقرأ سيرة هؤلاء الموالين.. فأين نحن وهذه الدرجات !.. إن قضاء حاجة المؤمن لا يتوقف على بذل المال ، أو إسداء معروف ، بل أيضاً حتى مزحة حق ، تفرج بها عن أخيك ، وتخرجه من همه ، فإنها خير من المناجاة والبكاء بين يدي الله عزوجل ؛ وأيضاً مواساته في أزماته المالية ، بقرض يمدد له حتى يتيسر حاله ، ويذكر الإمام الصادق (ع) جزاء هذا المؤمن : (أيما مؤمن نفس عن مؤمن كربة وهو معسر يسر الله له حوائجه في الدنيا والآخرة ).. وإن من أفضل صور قضاء حوائج المؤمن ، هو إبعاده عن الباطل العاكف عليه ، ليجنبه غضب الله وعقابه.

* تذكر المرحلة المخيفة بعد هذه الدنيا.. لا بأس بين فترة وأخرى أن يحاول المؤمن أن يقرأ بعض ما كتب عن الموت وأهوال القيامة ، وأن يتذكر القبر وحالة الوحشة المطبقة ، حيث يحتاج إلى أنيس ، فما هو ذلك الأنيس الذي يدخل عليه السرور ؟.. ورد في الحديث عن الصادق (ع) : (إذا بعث الله المؤمن من قبره، خرج معه مثال يقدمه أمامه، فكلما رأى المؤمن هولاً من أهوال يوم القيامة، قال له المثال: لا تجزع ولا تحزن وأبشر بالسرور والكرامة من الله عزّ وجل، فما يزال يبشره بالسرور والكرامة من الله سبحانه حتى يقف بين يدي الله عز وجل ويحاسبه حساباً يسيراً، ويأمر به إلى الجنة والمثال أمامه، فيقول له المؤمن: رحمك الله نِعَم الخارج معي من قبري! مازلت تبشّرني بالسرور والكرامة من الله عز وجل حتى كان ما كان، فمن أنت؟ فيقول له المثال: أنا السرور الذي أدخلته على أخيك المؤمن في الدنيا، خلقني الله لأبشرك).

* إدخال السرور على قلب مولانا صاحب الأمر (ع).. بلا شك أن قلب مولانا هو أكبر القلوب هماً وغماً واضطراباً ، لا لنفسه ، وإنما لهذه الأمة ، ولما يجري عليها من الأحداث والمآسي.. ومن المعلوم أن البعض قد يصيبه الحزن ويذرف بعض الدمع ، عندما يطلع على بعض الأحداث الجزئية هنا وهناك ، فكيف بإمامنا (ع) وهو المطلع والشاهد لكل ما يجري في هذا العالم على مر التأريخ ؟!.. فلندخل عليه السرور من خلال دعواتنا ، وصدقاتنا ، والأهم من ذلك العمل بما يكشف هذه الغمة عن هذه الأمة.

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.