Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

– قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}.. فأول صفة ذكرها القرآن الكريم من صفات المؤمنين، هي صفة الخشوع في الصلاة.. ثم ذكر الأمور الأخرى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ….}، وخُتمت آيات وصف المؤمنين بصفة المحافظة على الصلاة: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُون}َ.. فصدرُ الآيات، يشير إلى قلب الصلاة وباطنها.. وذيلُ الآيات يدل على ظاهر الصلاة: من حيث العدد، ومن حيث الوقت.

– قال النبيّ (ص) وقد رأى مصلّياً يعبث بلحيته: (أمّا هذا لو خشع قلبه، لخشعت جوارحه).. وفي رواية أخرى مخيفة ومؤثرة: يقول (ص) فيمن يخفّف من صلاته: (وأمّا أسرق الناس: فالذي يسرق من صلاته، فصلاته تُلفُّ كما يُلفّ الثوب الخلق، فيُضرب بها وجهه).. وهذا أمير المؤمنين (ع) كتب كتابا لمحمد بن أبي بكر، لفت فيه انتباهه إلى أن كل عمل امرئ هو تبع لصلاته: (واعلم أنّ كل شيء من عملك تبع لصلاتك، فمَن ضيّع الصلاة فإنّه لغيرها أضيع…) أي أن حربك وجهادك، وعملك وسعيك، ونشاطاتك الاجتماعية والسياسية والعسكرية هي تبع لصلاتك.. فالذي لا يتقن حديثه وعلاقته مع رب العالمين، والذي لا يقف موقف الخاشع المتأمل في صلاته -وهو اللقاء الرسمي مع الله عز وجل- لا يتوقع منه أن يتقن علاقته مع بني جنسه.. فإذن، إن هذه المتون الثلاثة: من القرآن، وحديث النبي، وحديث الوصي.. تدل دلالة أكيدة على أن موضوع الخشوع في الصلاة، مسألة تؤكد عليها الآيات والروايات.. وهناك عدة أسباب لعدم الاقبال في الصلاة، منها:

– النقطة الأولى: إن المشكلة الأساسية في عدم الإقبال على الصلاة، هي أن الإنسان لا يُقبل في حديثه على من لا يعرفه.. فمثلا: هب أن أستاذا في الجامعة يُنصب له ستار، ويقال له -كذبا-: بأن هناك مجموعة من الطلبة بالمئات أو بالآلاف، يستمعون إلى محاضرتك.. وهو لا يرى أحدا، ولا يسمع لهم همسا، ولا يرى لهم صورة.. بإمكانه أن يقبل القيام بذلك العمل، ولكن عندما لا يرى تجاوبا مع من وراء الستار، فمن الطبيعي عندئذ ألا يتقن العطاء، وقد ينصرف عن الحديث.. والإنسان كذلك، فعندما يقف في الصلاة أمام رب العالمين، وهو لا يعلم من يخاطب، ولا يعلم صفات جلاله وكماله، ولا يعيش حالة الحب والود تجاه هذا الموجود العظيم، فمن الطبيعي أيضا ألا يقبل في الحديث معه.. لذا فإن الصلاة الخاشعة وقفٌ على من يعرف ربه بأدنى المعرفة.. وبالتالي، فإن هناك تناسبا طرديا بين الخشوع وبين المعرفة الإلهية، هذه المعرفة التي تأتي من قناتين:
الأولى: قناة التأمل، والتدبر، والقراءة، والبحث، والتمحيص.
والثانية: قناة التجليات الإلهية، وعالم الإشراق، وعالم الكشف والشهود.
فإذن، إن المشكلة الأساسية هي أننا نتكلم مع جهة مجهولة بتفاصيلها، وإن كنا نعتقد به اعتقادا يقينيا، للأدلة الفلسفية والكلامية.

– النقطة الثانية: إن إقامة الصلاة حقيقة تغاير حقيقة إتيان الصلاة، والفرق شاسع بين الإتيان والإقامة.. فإن أحدنا قد يؤدي الصلاة، ولكن لا يقيم الصلاة، فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، فلا صلاة له.. والقرآن الكريم يبين حقيقة الصلاة بقوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}، وقال الإمام الرضا (ع): (الصلاة قربان كل تقيّ)، وقد قيل: إن الصلاة معراج المؤمن.. وعليه، فإن الصلوات الفاقدة لهذه المعاني صلوات مجزية فقهيا، ولكن غير مقبولة لدى الله عز وجل.. والحال أن النبي (ص) عندما كان يقترب وقت الصلاة كان يقول: (يا بلال أبرد)!.. وهناك تفسيران لكلمة (أبرد) أي عجّل كتعجيل البريد.. أو أبرد: بمعنى أبرد نار الشوق إلى الله عز وجل.. فالنبي (ص) يعيش حالة الغليان الباطني، ويريد أن يتكلم مع ربه، لأنه كان إذا أراد أن يبث همومه، يتخذ من الصلاة ذريعة للحديث مع الله عز جل.. والأئمة من ذريته (ع) كانوا يفزعون إلى الصلاة إذا همهم خطب، فالصادق (ع) كان إذا أهمه أمر، جاء إلى المسجد وصلى بين يدي الله عز وجل طلبا لحاجته.. فكما أن القرآن حديث الرب مع العبد، فإن الصلاة حركة عكسية، أي حديث العبد مع الرب.

– إن آثار الصلاة الخاشعة آثار طويلة المدى، تمتد لتشمل جميع جوانب الحياة: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ}.. فالهدف الأول للدولة الإسلامية الرشيدة، هي إقامة الصلاة الخاشعة والمؤثرة في أفراد المجتمع الإسلامي.. فموسى (ع) يؤمر بالذهاب إلى فرعون لأنه طغى، فيقال له: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}.. أي البرنامج الأول لك يا موسى، أن تعقد صلة وصل قوية ومتينة ووثيقة ودائمة ومتصلة بينك وبين الله عز وجل، يقال بأن هذه اللام هي لام الغاية، ولام الهدف، ولام النتيجة: أي أقم الصلاة، ولكن تحقيقا للذكر.. ومن هنا، فإن الذي يصلي ولم يذكر الله عز وجل، لم يحقق لب الصلاة، والهدف المنشود من الصلاة بين يدي الله عز وجل.. وعليه، فإن الصلاة الخاشعة لا تظهر آثارها في الجنة، أو البرزخ، أو القبر فحسب!.. وإنما تُرى في ساحة الحياة الدنيا، فالذي يصلي صلاة خاشعة، يرجع إلى البيت بسكينة ووقار، فلا يتنزل إلى أجواء الغافلين، لأنه كان يلتذ بحديث مع الرب.. ولا يخوض في جدل مع أهل الباطل، ولا يتنزل إلى سفاسف الأمور، ولا يدخل في مزاح محرم، ولا يلتهي ببرامج باطلة.. لأنه كان يعيش أجواء عليا.

– إن النوافل من سبل تعويض النقص في الفرائض.. فالمؤمن يلتذ بالصلاة بين يدي الله عز وجل، ولا يكاد يشبع من الفريضة، لذا فإنه ينتظر جوف الليل، ليقوم بالمستحبات الليلية.. وبالتالي، فإنه يتدارك تقصيره بالنوافل الليلية والنهارية.. فهذا سلمان المحمدي، ليس بإمام ولا بمعصوم، ولكنه التلميذ الأول لمدرسة الإمامة يقول: (لولا السجود لله، ومجالسة قوم يتلفّظون طيب الكلام كما يتلفّظ طيب التمر، لتمنيّت الموت).. ويقول أمير المؤمنين في وصف شيعته: (فلولا الآجال التي كتب الله تعالى لهم، لم تستقر أرواحهم في أبدانهم طرفة عين).

– مالعمل الذي يجب القيام به، ليوفق المؤمن لصلاة خاشعة؟..
أولا: اتخاذ خلوة.. فقد أُمرنا بأن نتخذ أماكن معينة للصلاة في بيوتنا، حيث لا يكون فيها ما يشغلنا أثناء الصلاة.
ثانيا: الصلاة في أول الوقت.. إن الصلاة أول الوقت، لا تقاس بالصلاة في آخر الوقت.. فعندما يقول المؤذن: حي على خير العمل!.. أي عجّل!.. وأنت بانشغالك بأي عمل لا ضرورة له، كأنك تقول: صلاتك ليست هي خير العمل، بل عملي هو خير من صلاتك!.. فالإنسان قد يقول لك شيئا، ولكن في مقام العمل يخالف مقالته، فلسان الحال أقوى من لسان المقال.
ثالثا: الصلاة في المسجد.. وفي جماعة من المسلمين، إذ لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد.
رابعا: التدرج في الدخول في بحر الصلاة.. إن هناك مقدمات للدخول في الصلاة: تبدأ من ماء الوضوء -حيث أن هناك أدعية تقال عند غسل كل عضو أثناء الوضوء- ثم الأذان، والإقامة، ثم الدعاء، ثم التريث، ثم التكبيرات الافتتاحية السبع.. فلو راعى الإنسان هذه المقدمات، فإنه عندئذ قطعا سيؤدي صلاة خاشعة بين يدي الله تعالى.. ولو أنه يقف قبل التكبير، ويستحضر الأدعية المختلفة، مثل: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين * َلاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}، يا له من دعاء مؤثر!.. أي يا نفس، أنت واقفة بين يدي من فطر السموات الأرض، من ذراتها إلى مجراتها.. ألا يستحق ذلك شيئا من التوقف والتأمل!..
خامسا: المشارطة والمعاتبة.. قبل البدء بالصلاة، عليك أن تشترط على نفسك الإقبال خطوة خطوة.
سادسا: التدارك والتعويض.. فإذا فاتك الخشوع في الركوع الأول، لا تيأس ولا تقل: أنا الغريق فما خوفي من البلل؟.. ففي كل مرحلة من مراحل الصلاة، يمكنك تدارك الخطأ، والتعويض ولو في المراحل الأخيرة من الصلاة، فـ{إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}.. فإذا تذكرت أنك كنت ساهيا لاهيا في السجدة الأخيرة من صلاتك، فأطل السجود، وأكثر من الأدعية، ولو كانت مخترعة، تذللا بين يدي الله عز وجل.. وإذا فاتك الخشوع في الصلاة، فعقّب تعقيبا بليغا مؤثرا.. وسبّح تسبيح الزهراء (ع) كما ينبغي، أي كبّر تكبير المكبرين.. واحمد الله عز وجل حمد الحامدين، مستذكرا لنعمه عليك.. وسبّح الله تسبيح العارفين.. فلو كانت هناك هدية أثمن من هذه الهدية في العرش، لقدمها الرسول (ص) لابنته فاطمة (ع) عندما طلبت منه خادمة.
سابعا: صلاة المودع.. عليك عندما تصلي صلاة العشاء، أن تصليها صلاة المودع، لأنك ستنام بعد قليل، {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.. وطالما مات أناس موتا حقيقيا عند نومهم.. لذا فعندما تصلي صلاة العشاء صلِّ صلاة مودع، وافترض أنها آخر صلاة في حياتك، فعليك أن تتقن صلاة التوديع بين يدي الله عز وجل.

– إن حرارة اللقاء بين العبد وربه، تعكس مدى قرب العبد من الله عز وجل.. فلو رأيتم إنسانا يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص.. ولكنه لا يُقبل في صلاته، اعلموا أنه بعيد عن ربه، لأنه لو كان قريبا لأقبل الله تعالى عليه.. كان السجاد (ع) قائماً يصلّي حتّى وقف ابنه محمد (ع) وهو طفلٌ إلى بئر في داره بالمدينة بعيدة القعر، فسقط فيها.. فنظرت إليه أُمّه، فصرخت وأقبلت نحو البئر تضرب بنفسها حذاء البئر، وتستغيث، وتقول: يا بن رسول الله!.. غرق ولدك محمد (ع)، وهو لا ينثني عن صلاته، وهو يسمع اضطراب ابنه في قعر البئر.. فلما طال عليها ذلك قالت: حزناً على ولدها: ما أقصى قلوبكم يا أهل بيت رسول الله؟!.. فأقبل على صلاته، ولم يخرج عنها إلاّ عن كمالها وإتمامها، ثم أقبل عليها وجلس على أرجاء البئر، ومدَّ يده إلى قعرها -وكانت لا تُنال إلاّ برشا طويل- فأخرج ابنه محمداً (ع) على يديه يناغي ويضحك، لم يبتلَّ به ثوبٌ ولا جسدٌ بالماء، فقال (ع): هاك!.. ضعيفة اليقين بالله، فضحكت لسلامة ولدها، وبكت لقوله (ع): “يا ضعيفة اليقين بالله”، فقال (ع): لا تثريب عليك اليوم، (لو علمت ِأني كنت بين يدي جبّار، لو ملت بوجهي عنه لمال بوجهه عنّي، أفمن يرى راحم بعده)؟.. فما قيمة عبد صرف الله عز وجل وجهه عنه، وأوكل أمره إلى نفسه؟!..

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.