Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

– التوكل لغة: تسليم وتفويض الإنسان غيره في أمر؛ ليقوم في إصلاحه مقامه، مع كامل الاعتماد والاطمئنان إليه.

والتوكل المأمور به في الشرع: هو اعتماد القلب على الله -تعالى- في الأمور كلها، وعدم السكون إلى الأسباب، أو منافاة اللجوء إليها.. قال تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه}، {وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُون}.

– إن من موجبات التوكل على الغير: ترقب الموت، أو القصور الإدراكي، أو العجز العضوي، أو عدم الميل والرغبة في القيام بالأمر.. وبلا شك أن كل هذه العناصر -الحياة، والقدرة، والرحمة- مستجمعة في رب العزة والجلال، إذ هو الحي الذي لا يموت، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه}، وهو العزيز القدير، ومن بيده كل الأمور، والشفيق الرحيم بعباده، قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}.

– إن البعض قد يخطئ في مفهوم التوكل؛ فيقع في الإفراط: بأن يوكل الأمور كلياً إلى الله -تعالى- دون اللجوء والعمل بالأسباب.. أو التفريط: بحيث يعتمد على الأسباب بشكل مطلق.. والحال بأنه من اللازم الجمع بين الأمرين: الأسباب، والاعتماد على الله تعالى.. نعم، إن الله تعالى القادر على كفاية كل أمر؛ ولكنه سبحانه أبى أن لا يجري الأمور إلا بمسبباتها.. عن الإمام الصادق (ع): (أوجب الله لعباده أن يطلبوا منه مقاصدهم، بالأسباب التي سببها لذلك، وأمرهم بذلك). وقول النبي (ص) للأعرابي -لما أهمل بعيره، وقال: توكلت على الله-: (اعقلها وتوكل)!.

وروي عن أمير المؤمنين علي (ع): أنه مرَّ يوماً على قوم فرآهم أصحاء جالسين في زاوية المسجد فقال (ع): من أنتم؟.. قالوا: نحن المتوكلون.. قال (ع): لا، بل أنتم المتأكلة، فإن كنتم متوكلين فما بلغ بكم توكلكم؟.. قالوا: إذا وجدنا أكلنا، وإذا فقدنا صبرنا.. فقال (ع): هكذا تفعل الكلاب عندنا.. قالوا: فما نفعل؟.. قال (ع): كما نفعل.. قالوا: كيف تفعل؟.. قال (ع): إذا وجدنا بذلنا، وإذا فقدنا شكرنا.

فإذن، إن التوكل لا ينافي العمل بالأسباب أبداً، فهو يسعى وإذا حصّل ما يريد؛ سخره في طاعة الله عزوجل.. ومن الجدير بالذكر عبارة للعلامة الطباطبائي -صاحب الميزان- (قده)، يقول فيها عن التوكل : (ليس التوكل قطع الإنسان، أو نفيه نسبة الأمور إلى نفسه، أو الأسباب الظاهرة.. بل نفيه دعوى الاستقلال عن نفسه، وعن الأسباب وإرجاع الاستقلال والأصالة إليه، مع إبقاء أصل النسبة غير المستقلة إلى نفسه وإلى الأسباب).

– من الشواهد التي تعكس لنا ضرورة الأخذ بالأسباب:

* قوله تعالى عن لسان يعقوب (ع): {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}.. نلاحظ أنه مع كون يعقوب (ع) نبي وفي قمة المتوكلين، إلا أنه أبى إلا أن يعمل بالأسباب، وأخذ المواثيق المؤكدة على أبنائه، قبل أن يجعل الله تعالى بينه وبينهم وكيلاً.

* وقوله تعالى في قضية الدين: {إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}؛ ليكون ذلك ضماناً وأبلغ في الحجة، وهذا لا يتنافى أبداً مع عدالة المؤمن وكونه ثقة، فقد ينسى الرجل أو يموت، فيضيع حق الرجل.. ومن هنا ورد في الروايات -ما مضمونه- أن المؤمن إذا أعطى أخاه ديناً ولم يسجل عليه، فأنساه الشيطان أو أنكر الدين؛ فلا يلومن إلا نفسه.

* وخوف يعقوب (ع) على أبنائه من الحسد، حينما أمرهم بعدم الدخول من باب واحد، قال تعالى: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}.

– لا شك بأن النجاح في أي مشروع في الحياة، لا يأتي من فراغ، وليس وليداً للصدفة؛ وإنما هو حصيلة لعناصر ثلاثة رئيسية، ومن المناسب هنا أن نشير إليها:

فالأول: الأسباب المادية: فإن توفر الأسباب والمتطلبات، يشكل عاملا أساسيا للتقدم نحو الهدف المقصود.. إذ من غير توفر البذور، أنى للزارع أن يستفيد من الأرض، ويجني الثمار الشهية؟!.. وكيف لطالب العلم الدراسة، ما لم تتوفر لديه الكتب والأجواء المناسبة؟!..

الثاني: الأسباب المعنوية (الروحية): كالهمة الموجبة للجد، والتحرك السريع في سبيل تحقيق الهدف.. ولا يخفى أهمية هذا العنصر في الخروج بخير النتائج، في فترة زمنية قصيرة .

الثالث: مباركة الله تعالى لعالم الأسباب: فمن المعلوم أن بركة الله تعالى لا حدود لها، وإذا حلت في شيء سهلت العسير، وباركت في القليل؛ فإن الأمور طر بيده، ولا يعجزه شيء، وقادر على التصرف والتغيير في الأسباب وقلب الموازين.. والتاريخ دلل على ذلك، فذكر تصرفه سبحانه وتعالى في القلوب، وربطه للأفئدة، وتدخله في عالم الأسباب: لأم موسى، وفرعون وزوجته، وأهل الكهف، وفي غار ثور، ويوم بدر.

– من مناشئ التوكل:

* البنية الثقافية القوية: لابد أن يكون للإنسان مخزون من القيم والمبادئ، التي تسيّره وتشكل الضابطة له في كل حركاته.. فالذي لا يمتلك قوام فكري متميز، سيكون عرضة للتذبذب في سلوكياته، فيوماً يخشى الله في نفسه، ويوم آخر يعيش حالة التسيب فيفعل الأعاجيب..

قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}؛ فهنا نستفيد من هذه الآية أثرين:

الأول: الأثر التكويني: بأن الأسباب بيد الله تعالى، وهذا ما يجعل المؤمن يعيش حالة الاطمئنان فيتوكل.

والثاني: أثر تشريعي: بأن لهذا الوجود رب، له حدود أمر بعدم تجازوها..

فإذن، إن البنية الأساسية للمؤمن أمران: التوكل، والإنابة.. ورد في الحديث -ما مضمونه-: (أقوى الناس إيماناً؛ أكثرهم توكلاً على الله).

* القيام بوظائف العبودية: إن الإنسان الذي يسعى في عالم الأسباب، ويبذل جهده بما يرضي الله تعالى؛ سيكون محطاً للألطاف الإلهية، فيحظى بالتسديد والتوفيق في شتى مجالاته الحياتية.

– لا يقتصر أثر التوكل على الحياة الفردية فحسب ، بل أنه حتى في الساحة الإسلامية: في القتال، ولتحقيق النصر على الأعداء؛ فإنه يلزم الجمع بين عنصري التوكل، والعمل بالأسباب.. ومن أروع الخطب العسكرية، خطبة للإمام علي (ع) لابنه محمد بن الحنفية؛ لما أعطاه الراية يوم الجمل: (تزول الجبال ولا تزل، عضّ على ناجذك!..أعر الله جمجمتك!.. تِدْ في الأرض قدمك!.. وارم ببصرك أقصى القوم!.. وغضّ بصرك!.. واعلم أن النصر من عند الله سبحانه(!..

– لا شك في أن التوكل على الكمال المطلق باعث على تحقيق النجاح، وموجب للسعادة دنيا وآخرة.. ومن المناسب هنا أن نذكر بعض من آثار التوكل:

* حالة الاطمئنان الكامل: فالذي يأوي إلى حصن منيع، ما ضره أن يتكالب عليه الأعداء من كل حدب وصوب!.. إن المؤمن يعيش حالة الاستقرار والهدوء النفسي في كل الأحوال، فلا تهزه التقلبات والأزمات الشديدة؛ لأنه وجود مرتبط بعالم الغيب.. فهذا إبراهيم الخليل (ع) يلقى في النار، ويعيش قمة التسليم والتوكل، فيرفض المدد من الملائكة، وحتى سؤال الرب تعالى، حيث يقول: (حسبي من سؤالي علمه بحالي(.

* الاعتماد على النفس والثقة بالذات: إن المؤمن مقدام، واثق من نفسه، لا يهاب شيئاً، يجعله يتردد أو يخاف؛ لأنه يعلم بأن وراءه مدد كبير من رب العزة والجلال.

* عدم الاعتناء بالأوهام: إن المؤمن يحمل ثقة بالله تعالى، واعتقاداً بأنه الضار النافع، فلا يشغل باله بالأمور الظنية من الأوهام، كالسحر وما شابه ذلك.. بل يسلم أمره لله، ويعمل بما ورد من المعوذات والأدعية المشروعة المحصنة في هذا المجال.

– غير أن العبد بسوء تصرفه وعصيانه، قد يخرج من هذا الركن الوثيق، فيكله الله إلى نفسه، ويا له من خسران عظيم!.. قال النبي (ص): يقول الله تعالى: (أيما عبد أطاعني لم أكِلْه إلى غيري، وأيّما عبد عصاني وكلته إلى نفسه، ثم لم أبال في أي واد هلك).. ومن هنا كان (ص) يبالغ في الإكثار من هذا الدعاء: (ربّ!.. لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا، لا أقلّ من ذلك ولا أكثر).

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.