Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

إن الموت والحياة هما من خلق الله تعالى، مصداقا لقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}.. ومن هنا علينا أن نعلم بأن الإنسان سواءً كان مؤمناً، أو كان فاسقاً؛ فإنه لا يموت موتاً حقيقياً.. حيث أنه لا معنى للفناء، وعندما نزور أهل القبور ونقول: (اللهم!.. رب هذه الأرواح الفانية، والأجساد البالية).. فإن الأجساد البالية، معنى حقيقي معقول.. وأما الأرواح الفانية، فقطعاً لا يراد منها المعنى الدقيق.. والمراد هنا بالأرواح الفانية، أي الأرواح التي فنت باعتبار الدنيا.. فهذه الروح عند ما تنتقل من الدنيا، فإن الدنيا تكون قد خليت منها؛ أي الدنيا ما قبل عالم البرزخ.. فإذن، الشهداء عند ربهم يرزقون، وكذلك غير الشهداء عند ربهم يحاسبون.. فالنبي (ص) عندما ألقى قتلى المشركين في بئر بدر أخذ يكلمهم، فبعض الصحابة استغرب من ذلك!.. فقال النبي (ص): (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم!.. ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني)؛ أي أنهم يسمعون ما أقول.. ومن المعلوم أن الاستماع والسمع من خصوصيات الحي.

وبالتالي، فإننا عندما نذهب إلى قبر الميت القريب، أو إلى قبر الميت الذي هو من الأولياء: كقبر النبي الأكرم (ص)؛ فإنما نحن نقدس ونمجد ذكرى ذلك الإنسان لقرابته منا مثلا: فبر الوالدين في الحياة، يكون بشكل مغاير عن برهم بعد الممات.. فعندما يزور الإنسان ذلك القبر؛ فإنه يذكر صاحبه بخير، أو بعمل صالح، أو بغير ذلك، وهذه قضية فطرية أممية.. والإسلام لم يأتِ ليرفع جميع الحركات الفطرية الأممية المقبولة، فعندما جاء الإسلام أقر العقود والإيقاعات ومعاملات الناس وأعرافهم، إلا ما خرج بالدليل: كالربا، والقتل، والزنا، ووأد البنات، وما شابه ذلك.

نلاحظ هذه الأيام، أن كل أمة تمجد ذكريات أبطالها: كأبطال الأمة في المجال العلمي، وفي المجال العسكري، وفي المجال الثقافي.. فتزور قبورهم، بل أنهم يصنعون قبورا وهمية باسم الجندي المجهول مثلاً.. فكيف إذا كان المدفون نبياً معلوماً من أنبياء الله العظام؟.. الإنسان عندما يذهب إلى قبر النبي (ص) يجسد قوله: أشهد أن محمدا رسول الله، ويجسد ولايته للنبي {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}.. فهذه المودة لها انعكاس في القلب، ولها آثار في الفؤاد.. وللمحبة أيضا، آثار في الخارج.. فمثلا: عندما يهدي الإنسان صديقه، أو يزوره؛ فإنه بهذا العمل يظهر المودة والمحبة له.

فإذن، إن طبيعة الناس: فطرة، وعادة؛ قائمةٌ على تكريم الأشخاص في حياتهم، وفي مماتهم.. أضف إلى الكتاب والسنة: فالقرآن الكريم يقول في سورة التوبة: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ}.. فعدم القيام على القبر، يكون بالنسبة إلى المنافقين.. وبالتالي، فإنه لا عتب في القيام على قبر الصالحين.. ويلاحظ في السنة المطهرة أن النبي (ص) كان يزور أهل القبور، ففي صحيح مسلم: روي عن عائشة أنها قالت: (كان النبي (ص) يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غدا مؤجـَّلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون.. اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد)!.. وفي صحيح مسلم، وكذلك في الترمذي، وفي النسائي ورد أن النبي (ص) كان يزور الأموات: يزورهم للعبرة، ويزورهم للسلام أيضاً.

إن البعض عندما يستمع إلى صيغة من الصيغ التي يستعملها النبي (ص)، يحاول أن يجمد على تلك الصيغة.. فالنبي (ص) زار أهل القبور، وسلم عليهم.. فإذا زاد الإنسان، أو نقص، أو جاء بعبارة أخرى؛ فإنه لا يكون قد ارتكب بدعة في ذلك!.. فالنبي (ص) لا يريد أن يعلمنا الحروف ولا الكلمات؛ وإنما يريد أن يعلمنا جوهر العمل، بمعنى أنكم زوروا بقيع الغرقد، واذكروا ما شئتم!..

فالسلام صيغة من صيغ التكريم، وقد يقوم الإنسان بإلقاء محاضرة في البقيع في وصف المدفونين: من نساء النبي (ص)، ومن أصحابه، ومن ذريته.. فهذا أيضاً من صيغ التكريم.. وعليه، فإنه لا ينبغي أن نحصر الأمر في صيغة خاصة، حتى أن الإمام السبكي الشافعي له كتاب بعنوان: (شفاء السقام في زيارة خير الأنام)، وقد ذكر الروايات المختلفة، على استحباب زيارة قبر النبي (ص)، وبيّن أن الاستحباب أمر مجمع عليه بين المسلمين.. وطبعاً نصوص أهل البيت (ع) في هذا المجال حدّث ولا حرج.. روى الصدوق بسنده عن الرضا (ع) أن النبي (ص) قال: (من زارني في حياتي وبعد موتي، فقد زار الله تعالى) .. وعن الإمام الصادق (ع): (من أتاني زائراً، كنت شفيعه يوم القيامة).. حتى أنه روي أن النبي (ص) كان يذهب إلى بعض المساجد المباركة قاصداً للصلاة فيها، ولا يعتبر هذا الأمر وقفاً على بعض المساجد.. فمسجد قباء من المساجد التي كان النبي (ص) يأتيها راكباً وماشياً، فيصلي فيها ركعتين.. رواه البخاري، كما رواه مسلم.

وعليه، فإن زيارة المساجد، والصلاة فيها.. وزيارة قبور الأنبياء؛ لتخليد ذكرهم، ولبيان عظمتهم ومنزلتهم، وللتأسي بهديهم، وإظهارا للولاء لهم، واعتباراً بمراقدهم، واجتماعاً مع إخوانه المؤمنين في تلك البقعة…الخ، هي سيرة عقلائيةً طوال التأريخ.. والمسلمون دأبوا على هذه السيرة، فما المانع من الاستمرار على هذا النهج؟.. فهذا القرآن، وهذه السنة، وهذه السيرة العقلائية، وهذه سيرة المسلمين تؤكد على ذلك.. وهل وجدت في فرق المسلمين منذ زمان البعثة إلى الآن، فريقا يعبد القبور بحيث أنهم اتخذوا القبر إلهاً؟.. فإننا لم نسمع بهكذا فرقة، فعبادة القبر لها معنى يمجّه الطبع، وذلك بأن يجعل الإنسان القبر كالكوكب والشمس والنجم؛ ويعبده، كما هو حال عباد الكواكب والنجوم!.. فالإنسان ذو العقل السليم، قد يجعل القبر محلاًً للعبادة، ولكن لا يجعله معبوداً.. فلا داعي لهذا الإنكار الشديد!..

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.