Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

البرمجة..
إن هناك سفراً مصيرياً شئنا أم أبينا.. ولكن الحل ليس في الهروب من هذه الحقيقة الناصعة، بل الحل هو في المواجهة الشجاعة، والتدبير، والبرمجة لما بعد هذه الحياة الدنيا.. البعض قد يرى أن سلوكه اليومي سلوك جيد: إنسان يصلي، ويصوم، وليس عليه حقوق مالية، ويقيم مجالس أهل البيت، وله من المستحبات ما له، وقد يقيم الليل؛ فلا يرى أن هناك حاجة للبرمجة لما بعد الحياة الدنيا، إلى درجة أن البعض يكاد يقطع أنه من أهل الجنة!.. نحن نرحب بهذا التفاؤل، فالمؤمن موجود متفائل؛ ولكن لا ضمان في هذا المجال أبداً!.. فسوء العاقبة أمر وارد، وخاصة في آخر الزمان، حيث أن البعض -هذه الأيام- يخرج من الدين، ومن الإيمان، ومن التقوى؛ لما يراه من الملهيات هنا وهناك.. وأيضاً هناك العديلة عند الموت؛ أي العدول عن الطريق الصحيح قبل الممات.

رفع مستوى الطموح..
ينبغي للمؤمن أن يرفع من مستوى طموحه بالنسبة للآخرة، كما يرفع من مستوى طموحه في الحياة الدنيا!.. حيث أنه بإمكان الإنسان أن يعيش الأبدية في جوار النبي وآله، فلمَ لا يخطط لذلك، ويقنع أن يكون في درجات دنيا من الجنة؟!.. قال رسول الله (صلی الله عليه): (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين.. وقد أشار بإصبعه السبابة والوسطى).. وورد أيضاً في زيارة الرضا (عليه السلام): (ألا فمن زارني في غربتي بطوس، كان معي في درجتي يوم القيامة مغفوراً له)؛ يا لها من سعادة عظمى: الإنسان يعيش أبد الآبدين بجوار النبي وآله (صلی الله عليه)!.. وكفالة اليتيم لا تعني المساعدة فقط؛ ولكن الكفالة التامة لليتيم، ككفالة أبي طالب (عليه السلام) للنبي المصطفى (صلی الله عليه).. أي أن يجعل الإنسان اليتيم ضمن عائلته: إرشاداً، وتربيةً إلى أن يستغني؛ هذه هي الكفالة التامة، ودون ذلك درجات أخرى. فإذن، المؤمن في هذه الحياة الدنيا، يخطط لأن يعيش الأبدية في أعلى درجة ممكنة.

نحن نقول -والله العالم بحقائق الأمور-: أن لكل إنسان مستوى فعلياً، ومستوى شأنياً.. قد يكون الإنسان الآن في مستوى إيماني جيد؛ ولكن هنالك درجة مقدرة له، لم يصل إليها.. مثلاً: بعض الضباط الآن درجتهم الفعلية مستوى معين، ولكن لو أتقن عمله وأداءه، وقام بتضحيات معينة؛ فإنه يرتفع إلى درجة أرقى!.. وكذلك بالنسبة لنا: كل واحد منا له درجة فعلية، وقد تكون درجة جيدة، ولكن يأتي يوم القيامة ويقال له: يا فلان انظر!.. ينظر إلى نعيم لا يخطر ببال أحد، يقول: يا رب، هذا النعيم لمن؟.. يقول: هذا النعيم كان مقدراً لك، ولكنك تقاعست، واكتفيت بالقليل؛ فهذه الدرجات سلبت منك.. عندئذ الإنسان الذي ينظر إلى تلك الدرجة، ألا يعيش الحسرة والأسف والأسى إلى أبد الآبدين؟!.. ولهذا -لعل- رب العالمين يمنّ على عبده، وينسيه هذه الدرجات الشأنية؛ لأنه لو بقي في درجة النعيم الفعلي مع تذكر ذلك؛ فإن الجنة تتحول إلى جحيم.. لذا، علينا أن نعمل جاهدين على رفع المستوى الذي نحن فيه، لنعيش الأبدية والخلود مع النبي وآله (صلی الله عليه).

المراحل التي يمر بها الميت:
– سكرات الموت: السكرات هي حالة من حالات الذهول، وهذا الذهول له منشأ في الحياة الدنيا.. فالسكرة في ساعة الاحتضار، مرتبطة بتعاملنا اليومي.. والسُّكر ليس خاصاً بالخمرة، فهنالك سكر الرئاسة، وسكر الشباب، وسكر الحب: الحب المحرم.. من الطبيعي أن هذه الأنواع المختلفة من السكر، تجتمع على الإنسان ساعة الموت، فيتحول إلى سكرة من سكرات الموت.. ولعل الإنسان يمر بأنواع مختلفة من السكرات قبل موته، فقد روي عن أمير المؤمنين -عليه السلام- أنه قال: (سكر الغفلة والغرور، أبعد إفاقة من سكر الخمور)؛ أي الإنسان عندما يكون غافلاً عن الله عز وجل، هذا رجوعه إلى حالة اليقظة؛ أصعب من سكر الخمور!.. لأن الخمرة تجعل الإنسان في حال سكر لسويعات، أما سكر الدنيا والغرور؛ فإنه أبعد من ذلك!..

– العديلة: إن المؤمن محط أنظار الشياطين، والشيطان لا يقطع أمله، بل يريد أن ينتقم منه في اللحظات الأخيرة.. فلذّة الشيطان في الصيد الثمين، وإلا الصياد الماهر لا يقنع بصيد العصافير، إنما يريد الصيد الذي يلبي طموحه.. والشيطان لا يهمه إغواء الفسقة؛ فذاك تحصيل حاصل؛ لأن الفاسق هو الذي يركض وراء الشيطان، حتى لو زهد فيه الشيطان، هو لا يزهد فيه.. ولكن المؤمن المثالي الذي أمضى عمراً في طاعة ربه؛ فإن الشيطان يحاول بآخر طلقة في مسدسه -إن صح التعبير- أن يقضي عليه في اللحظات الأخيرة من عمره.. ومن هنا جاءت الروايات لتؤكد على أن المؤمن يحتاج إلى دعم من نفسه ومن الغير.

الأعمال التي تخفف سكرات الموت:
أولاً: الدعم من الغير.. إن من الأمور التي تخفف من سكرات الموت، أن يقرأ الحاضرون عند الإنسان الذي يحتضر سور “يس”، فقد روي عن رسول الله (صلی الله عليه) أنه قال: (ما من ميت يُقرأ عليه سورة “يس” إلا هونّ الله عليه).. فهذه السورة من السور التي تخفف الموت على الميت، وإذا وصل إلى قوله تعالى: ﴿سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ﴾، فليتوقف عند هذه العبارة.. هنيئًا لمن شمله السلام الإلهي!.. الإنسان عندما يصافح المسلم يقول: السلام عليك؛ أي السلام عليك مني؛ ولكن كيف إذا كان السلام من رب العزة والجلال؟!.. هذا الإنسان يعيش الأمن والأمان، لا في الحياة الدنيا؛ وإنما في الأبدية أيضاً.. فإذن، قراءتنا لهذه السور لابد أن تكون بوعي.

الفرق بين الدعاء وقراءة الدعاء:
تمر علينا في روايات النبي وآله (صلی الله عليه) مضامين متكررة من هذا القبيل: أنه (من عمل هذا العمل، خرج من الذنوب كيوم ولدته أمه).. والخروج من الذنوب، أمر غير بسيط!.. أي ذنوب أربعين أو خمسين سنة؛ تمحى بهذا الأمر.. يا له من توفيق!.. ولكن البعض يستغرب هذا الأجر العظيم على هذا العمل البسيط!.. فالجواب على ذلك هو:

إن الذي يؤثر في المقام هو الدعاء، وليس القراءة المجردة.. يقول: ادع بهذا الدعاء؛ تعط هذا الأجر!.. ولكن هل القراءة اللفظية لهذا الدعاء، يحقق مصداق الدعاء؟.. هذا ليس بدعاء، هذه تلاوة للدعاء!.. والمثال الذي يوضح الفرق بين الدعاء وقراءة الدعاء: لو أن إنساناً طلب من أحدهم ماءً، وخاصة إذا كان ذلك الشخص هو الأب، أو مرجع تقليد -مثلاً-؛ فإنه لا يحتاج إلى طلب ذلك عشرات المرات؛ إنما مرة واحدة، بل إشارة منه تكفي!.. وربما لو كان شكله يوحي بالعطش، فإن ذلك الإنسان هو الذي يبادر ويحضر له الماء دون طلب!.. فهو لم يطلب الماء، أو طلب الماء مرة واحدة، أو أشار بطلب الماء، وإذا بالعائلة كلها تركض لجلب الماء لهذا الإنسان!.. ولكن لو أن هذا الإنسان نفسه نام، أو أغمي عليه، وأخذ يصيح في النوم قائلاً: اسقوني شربة من الماء، هل أحد يسقيه الماء؟.. بالتأكيد لا!.. ولكن يقال: الآن هذا الإنسان لا يطلب شيئاً، هو إنسان مغمى عليه، إنسان نائم.. إن سُقي الماء في حال النوم، قد يغصّ به ويموت، فالأفضل أن لا نعطيه شيئاً.. وعليه، فإن هناك فرقاً بين الحالتين: في حال النوم كان يقرأ جملة “أعطني ماءً”، ولكن عندما كان مستيقظاً كان يطلب ماءً!..

فإذن، نحن قد نأتي يوم القيامة وإذا بنا نفاجأ، يقول الله -عز وجل-: لا حق لكم عندي، أنتم لم تدعوا بدعاء أبي حمزة الثمالي في شهر رمضان، ولم تدعوا بدعاء كميل في ليالي الجمعة.. الخ.. بل قرأتم الدعاء، لذا فإننا نعطيكم شيئاً بسيطاً، مقابل قراءة هذا الدعاء.. والبعض يسأل: هل الدعاء بقلب ساهٍ لاهٍ يُعطى عليه أجر أم لا؛ فضلاً عن الآثار المترتبة من قراءة الدعاء!.. كما هو الحال أثناء الصلاة على النبي () وآله، حيث أن هذه الصلاة هي من أفضل صور الدعاء.. فنحن لطالما نصلي على النبي (صلی الله عليه)؛ ولكن هذه الصلوات أقرب في كثير من الأحيان إلى جانب الشعارية، قياساً إلى جانب الشعورية.. الشعار جيد، أن نرفع أصواتنا بالصلاة على النبي وآله (صلی الله عليه)، يذهب بالنفاق.. ولكن ما المانع أن نتوجه في هذا الدعاء القصير الذي هو من أفضل أنواع الأدعية: فكلمة “اللهم”!.. أي يا الله!.. حذفت الياء وعوّض عنها بالميم.. وعليه، فإن “اللهم” خطاب لله عز وجل.. وفي كل خطاب إذا لم يكن الإنسان ملتفتًا إلى المخاطب، فهو لم يتوجه إليه، وهذا من صور سوء الأدب: أي أن يتكلم الإنسان مع أخيه الإنسان وهو مستدبر، أو وهو ينظر إلى مكان آخر.. فهذا يعني أنه يتكلم معه، ولكن قلبه مع غيره!.. وهذا الوضع موجود في عرفنا، فكيف يتكلم الإنسان مع رب العالمين، ويقول: اللهم -في الصلوات أو غيره- وهو ذاهل؟!.. لذا، يجب التوجه أثناء الدعاء، وقد ورد: (ركعتان مقتصدتان في تفكّر؛ خيرٌ من قيام ليلة والقلب ساهٍ).

إن هذه القاعدة يجب التمسك بها: أولاً الكيف، ثم يتم تنسيق الكم مع الكيف.. مثلاً: إذا أراد الإنسان أن يسجد سجدة فيها الذكر اليونسي، عليه بالتوجه، ولا يهم العدد.. فنحن لا نعلم كما مرة قال يونس (عليه السلام) عندما كان في بطن الحوت: ﴿لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾!.. لعله مرة واحدة، ولكن بحالة يونسية؛ فقد كان في ظلمات ثلاث: البحار، وبطن الحوت، وظلمة الليل.. يا له من هول!.. وبالتالي، فإن مرة واحدة بخشوع، وبهذه الكيفية تكفي، وهي خير من أن يلهج به أربعمائة مرة وهو لا يفقه من العبارة شيئاً.. وكذلك عندما نقرأ دعاء العديلة، أو أي دعاء؛ فلنعلم أن الدعاء يؤثر أثره، إذا كان دعاءً، وإلا إذا كان لقلقة قد تُعطى الأثر وقد لا تُعطى، الأمر يعود إلى الفضل الإلهي ولا راد لفضله.. ورب العالمين يوم القيامة تفضلاً يعطي الجميع الأثر، وأما من توجه فيعطيه أثراً مضاعفًا، هذا الأمر ممكن!..

إن هذا الذكر هو من مفاتيح حل المشاكل في الحياة، بينما البعض يبحث عن الطلسمات، والألغاز، والأدعية الغريبة، وأعمال المشعوذين.. والحال بأن القرآن الكريم يدعونا إلى هذا الذكر اليونسي البليغ: ﴿لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾.. فيه: توحيد، وتسبيح، وفيه اعتراف بالتقصير.. يقول القرآن الكريم: ﴿وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ هذه معادلة في الحياة، هذه المعادلة ليست ليونس (عليه السلام) وهو في بطن الحوت؛ هذه المعادلة للمؤمنين.. ومن حسن التوفيق أن الآية لم تقل: للأنبياء والمرسلين.. ليس فقط باقي الأنبياء يتأسون بيونس، بل كل مؤمن يستطيع القيام بهذا العمل.

فإذن، إن من أهداف الشيطان في الحياة الدنيا، أن يقضي على الإنسان في ساعة الاحتضار.. البعض ييأس؛ لأن هذا الشيطان حاول مع آدم (عليه السلام)، وبالفعل أخرجه من الجنة، فهو موجود شقي، وحاول مع الأنبياء، ونجح مع كثير من الأتقياء.. البعض عندما يفكر في هذا الأمر، يكاد يُصاب باليأس.. ولكن هناك أمرين، معرفتهما تخفف هذه الحالة عن الإنسان:

١: كيد الشيطان ضعيف.. يقول تعالى: ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾؛ هذا مقتضى العدل الإلهي.. لم ينقل في التأريخ أن الشيطان أمسك بأحد وأدخله -مثلاً- محلاً لشرب الخمور، ثم ألزمه أن يأخذ الكأس بيده، وألزمه أن يدخله في جوفه.. الشيطان لم يتسلط على بدن بني آدم قط، بمعنى الإلجاء والإلزام.. لأنه لو كان الأمر كذلك؛ فإن التكليف يصبح مرفوعاً عن الإنسان.. يقول: يا رب، الشيطان هو الذي أجبرني.. ويوم القيامة عندما نقيم الدعوى على الشيطان، فإنه يدافع عن نفسه دفاعاً بليغاً، بحيث لو اجتمع المحامون على وجه الأرض، لما أمكنهم جواب إبليس، يقول: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.. فإذن، هنالك إغواء، وهنالك إغراء؛ ونحن المستجيبون للنداء الشيطاني.

٢. معرفة النفس.. إن الحل بسيط، يجب أن نميز بين نداءات الفؤاد، يقول النبي الأكرم (صلی الله عليه): (لولا تمريج في قلوبكم وتكثير في كلامكم، لرأيتم ما أرى ولسمعتم ما أسمع).. أي هنالك حديث نفسي، فالإنسان وهو صامت، تكون هناك ثرثرة في قلبه.

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما *** جعل اللسان على الفؤاد دليلاً

إن هذه الثرثرة الباطنية هي التي أهلكت الإنسان، وشغلته عن ذكر الله عز وجل.. ولكن من الذي يثرثر: هل هي النفس الأمارة بالسوء، أو الشيطان، أو أعوان الشيطان؟.. إن البعض يخاف من الجن، يخاف مما لا واقع له في كثير من الحالات، ولكن انظر إلى الواقع الذي ينقله القرآن الكريم، فهذه الآية من أخوف آيات القرآن الكريم، يقول تعالى: ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾.. فإذن، الإنسان يبحث عن هذا القرين الشيطاني، ولا يخاف من قرين الجن كما يدعي البعض!.. هذا نص القرآن الكريم: الذي يغفل عن ذكر الله عز وجل، إبليس يجعل له موظفاً ثابتاً، هذا الموظف يرفع التقارير، إن كان يؤدي وظيفته يعطيه الجائزة، وإن عجز عن إغوائه يطلب المساعدة من الشيطان الأكبر؛ إنها حقائق موحشة!.. هذه الحقائق لا تنكشف للإنسان إلا عندما يخرج من هذه الدنيا: وإذا بهذا القرين الشيطاني عندما يدخل الإنسان القبر، يضحك بملء فِيهِ ويقول: الآن نجحت المهمة، الآن تحمل تبعات ذلك!.. وبالتالي، فإن أبحاث الغور في النفس، أبحاث مهمة، يجب أن نهتم بأمر أنفسنا، ونكشف مكامنها.. كم من المعيب أن يعيش الإنسان ويتعرف على كل شيء، إلا هذه النفس التي بين جنبيه!.. (من عرف نفسه، فقد عرف ربه).. طريق المعرفة يبدأ من هذا المكان.

ثانياً: الدعم من النفس.. إن هناك بعضاً من الأمور الموجبة لتخفيف سكرات الموت، يجب على الإنسان القيام بها في الحياة الدنيا:
١. عدم العزم على المعصية: إن بعض المعاصي والذنوب، تأتي لتمسك بخناق الإنسان عند موته.. فهذه القصة مخيفة ومرعبة، ذكر الشيخ البهائي في كتابه “الكشكول”: أن أحد أرباب النعم، عندما وافته المنية، واحتضر، لقنوه الشهادتين.. فقرأ هذا البيت عوضاً عن الشهادتين:

يا رب قائلة يوماً وقد تعبت *** أين الطريق إلى حمام منجاب؟..

ومرد هذا البيت من الشعر هو: أن سيدة نجيبة عفيفة، مليحة جميلة، خرجت من خدرها وبيتها، تريد حماماً يعرف بحمام منجاب.. فأضاعت الطريق إلى الحمام، وتعبت، فسألت رجلاً -كان قد وقف على باب بيته- عن الحمام، فأشار الرجل إلى بيته، فصدقته، ودخلت البيت، وأغلق عليها الباب، وأراد التطاول عليها، والزنا بها.. فأدركت المرأة سوء نيته، وتظاهرت برغبتها واستعدادها لذلك، وطلبت منه أن يحضر شيئاً من العطر والغالية، وطعاماً يأكلان معاً.. وأكدت له الإسراع في الأمر، للقيام بما يهوى.. اطمأن الرجل، وأسرع لإحضار ما طلبته، فخرجت المرأة مسرعة من بيته، هاربة من كيده وسوء نواياه.. وعاد الرجل وتحسر لما جرى وحدث، واغتم لخسرانه.. فتذكر القصة، وقرأ البيت بدلاً عن الشهادتين.. فإذن، إنما الأعمال بالنيات، رغم أن هذا الرجل لم يُوفق للمعصية، إلا إنه لم يستطع النطق بالشهادتين.

٢. عدم التعلق بمتاع الدنيا: إن ساعة الاحتضار، هي ساعة المفاجآت.. لذا، علينا أن لا نجعل في وجودنا صنماً يُعبد من دون الله -عز وجل-.. والأصنام ليست منحصرة في هبل واللات والعزى، فلكل واحد صنم في قلبه.. يقول بعض أهل المعرفة: الإنسان قد يموت، وهو يعيش هم مفارقة ساعته أو سبحته؛ لأن قلبه تعلق بهذا الشيء.. ففي ساعة الاحتضار، تصبح الدنيا كلها في جانب، وهذا المتاع في جانب!.. بينما أولياء الله تراهم لا شعورياً وهم في ساعة الإغماء، يلهجون بذكر الله، لأن وجودهم أنس بالله عز وجل.

٣. بر الوالدين: قال الصادق (عليه السلام): (إنّ رسول الله (صلی الله عليه) حضر شابّاً عند وفاته، فقال له: قل: لا إله إلاّ الله.. فاعتقل لسانه مراراً، فقال لامرأةٍ عند رأسه: هل لهذا أمّ؟.. قالت: نعم، أنا أمّه، قال: أفساخطة أنت عليه؟.. قالت: نعم، ما كلّمته منذ ست حجج، قال لها: ارضي عنه، قالت: رضي الله عنه برضاك يا رسول الله!.. فقال له رسول الله: قل لا إله إلاّ الله، فقالها، فقال النبي (صلی الله عليه): ما ترى؟.. فقال: أرى رجلاً أسود، قبيح المنظر، وسخ الثياب، منتن الريح، قد وليني الساعة فأخذ بكظمي (أي مخرج النفس)، فقال له النبي (صلی الله عليه): قل: “يا مَن يقبل اليسير ويعفو عن الكثير، إقبل منّي اليسير واعفُ عنّي الكثير، إنّك أنت الغفور الرحيم”.. فقالها الشاب، فقال له النبي (صلی الله عليه): انظر ما ترى؟.. قال: أرى رجلاً أبيض اللون، حسن الوجه، طيّب الريح، حسن الثياب قد وليني، وأرى الأسود قد تولّى عنّي، قال: أعد فأعاد، قال: ما ترى؟.. قال: لست أرى الأسود، وأرى الأبيض قد وليني، ثمّ طفا (أي مات) على تلك الحال)..

انظروا إلى رأفة النبي المصطفى (صلی الله عليه)!.. كان بإمكانه أن يترك الشاب في سكرته، ما دام اعتقل لسانه.. فالنبي (صلی الله عليه) الذي أمر الحصى فسبحت بيده، وقال للشجرة: أقبلي!.. فأقبلت؛ ولكن لسان هذا الغلام، لا يستجيب له.. ومع ذلك لم يتركه، وساعده بأن جعل والدته ترضى عنه.. فقضية الوالدين -وعلى الخصوص الأم- قضية جداً حساسة، إلى درجة يقول الله -عز وجل- في كتابه الكريم: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾؛ أي إذا كنت تشتكي من أبويك لسوء خلقهما، أو لعدم كفاءتهما، أو لجهلهما ولسذاجتهما، أو لأميتهما، أو لأي سبب كان عليك أن تحسن صحبتهما!..

أولاً: ﴿جَاهَدَاكَ﴾؛ أي الأب والأم.
ثانياً: ﴿عَلى أَن تُشْرِكَ بِي﴾؛ أي أن الأب والأم على رأس حزب إلحادي، يحاولان أن يدعوانك إلى الشرك بالله -عز وجل- ويصران على ذلك.. هل هناك في عالم الوجود أبوان أسوأ من هكذا أبوين؟!..
ثالثاً: ﴿فَلَا تُطِعْهُمَا﴾؛ القرآن الكريم يأمر بعدم إطاعتهما.
رابعاً: ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾؛ هذا تكليف!.. انظروا إلى ما تحمله هذه الكلمة من معاني الإحسان بوالدين بهذه المثابة!..

فإذن، القضية حساسة وخطيرة!.. ومن فاتته الفرصة، الحل موجود، بإمكانه أن يعمل الآن ما يرفع عنه العقوق.. يستطيع أن يذكر والديه بخير، وهما في قبرهما.. وهنيئاً لمن ذهب من هذه الدنيا، وله صدقة جارية من ولده!.. حيث أن البعض من أبر الأبناء لأبويهما، ما من يوم إلا ويبعث لهم الهدايا: من صلوات، وقرآن، ودعاء، وغيره.. نعم، مجال التدارك موجود.

٤. الاستحلال من العباد: إن من موجبات الراحة والموت الهنيئ: تصفية الحسابات مع الخلق: الحسابات المادية، والحسابات المعنوية.. وعلى الإنسان أن لا ييأس من رحمة الله -تعالى-، فالمؤمن يطير بجناحين: جناح الأمل تارة، وجناح الخوف تارة أخرى.. لأن الإنسان الذي يغلب خوفه على أمله؛ ييأس من رحمة الله -عز وجل-.. ومن يغلب رجاؤه على خوفه؛ يُخشى عليه من التمادي في بعض المنكرات والمعاصي.. فالمعاصي لها ثلاثة ملفات:

الملف الأول: المعاصي التي تكون بين العبد وربه.. وهي المعصية التي تتم في الخلوات، ولا يطلع عليها أحد، وليس هنالك طرف آخر؛ أي معاصي فردية.. مثلاً: إنسان في جوف الليل، ينظر إلى صور محرمة؛ هذا علاجه بسيط: فقط ندامة، وعزم على عدم العود.. ويقول ما قاله الإمام زين العابدين (عليه السلام): (إِلَهِي!.. إِنْ كَانَ النَّدَمُ عَلَى الذَّنْبِ تَوْبَةً، فَإِنِّي وَعِزَّتِكَ مِنَ النَّادِمِينَ).. مجرد أن يستشعر هذه المعاني في نفسه، فليكن على ثقة أنه في تلك اللحظة، خرج من الذنوب كيوم ولدته أمه.. فإذن، بالندم والعزم على عدم العود، هذا الملف الكبير الضخم يُمحى.. كما في عالم الحاسوب، الملفات الضخمة تحذف بضغطة زر واحدة، رب العالمين له هكذا زر بأمر واحد يقول: كن!.. فيكون، فيمحي هذا الملف.

الملف الثاني: المعاصي والذنوب المالية.. هنا الاستغفار وحده لا يكفي، يجب أن يعرف من له حق عليه، فيرجع الحق لصاحبه، أو يستبرئ منه الذمة.. وإذا كان لا يعرفه، بإمكانه أن يتصالح بعنوان: “مجهول المالك”، وانتهى الأمر أيضاً.. لا داعي لليأس من رحمة الله -جلا وعلا- حتى في الملفات المالية هناك حل.. الإنسان من الآن يقول: (اللهم!.. أرضِّ عني الخصوم يوم القيامة)؛ لأنه من الممكن أن يكون هناك مبلغ مالي قد أخذه من أحد ونسيه، لم يستبرئه الذمة، ولم يدفعه لورثته، ولا بعنوان مجهول المالك، بقي معلقًا؛ رب العالمين أيضاً يوم القيامة قد يتدخل، ويعطي البعض القصور والحور لهذا الإنسان الطالب، ويخلصه من بين يديه.. روي (بينا رسول الله (صلی الله عليه) جالس إذا رأيناه ضاحكاً حتى بدت ثناياه، فقلنا: يا رسول الله!.. ممّ ضحكت؟.. فقال: رجلان من أُمّتي جيئا بين يدي ربّي فقال أحدهما: يا ربِّ!.. خذ لي بمظلمتي من آخر، فقال الله -تعالى-: أعطِ أخاك مظلمته، فقال: يا ربِّ !.. لم يبقَ من حسناتي شيء، فقال: يا ربِّ!.. فليحمل من أوزاري، ثم فاضت عينا رسول الله (صلی الله عليه) وقال: إنّ ذلك اليوم تحتاج الناس فيه إلى مَن يحمل عنهم أوزارهم، ثم قال الله تعالى للطّالب بحقه: ارفع بصرك إلى الجنّة فانظر ماذا ترى؟.. فرفع رأسه فرأى ما أعجبه من الخير والنعمة، فقال: يا ربِّ لِمَن هذا؟!.. فقال: لِمَن أعطاني ثمنه، فقال: يا ربِّ، ومَن يملك ثمن ذلك؟.. فقال: أنت، فقال: كيف بذلك؟.. فقال: بعفوك عن أخيك، فقال: قد عفوت، فقال الله -تعالى-: فخذ بيد أخيك فادخلا الجنّة.. فقال رسول الله (صلی الله عليه): ﴿فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾).

الملف الثالث: المعاصي التي هي في حق الغير، ولكنها ليست مالية.. البعض قد يعيش عالم اليأس، ولكن أن يعيش الحقيقة؛ أفضل من كتم الحقائق!.. مثلاً: شاب تعرض لفتاة مؤمنة عفيفة، ودفعها إلى الحرام دفعاً ثم خرج من حياتها، وجعلها فريسة بيد الغير.. فهذه البنت التي تربت في أحضان أبوين مؤمنين، صرفا عليها الوقت والجهد والعمر، وإذا بإنسان لا يخاف ربه، في ليلة يخرجها من عصمتها، ومن عفتها، ومن براءتها، ومن عدالتها، ومن تقواها، إلى عالم مظلم.. هذه الفتاة عندما تصبح عنصر فساد في المجتمع، وتصبح أداة لإيقاع الغير في الحرام؛ ماذا سيكون مصير الإنسان الأول الذي كان سبباً بما هي فيه الآن؟!.. هذا ليس بمال كي يدفع مبلغاً إلى العالم، أو يراجع به الورثة.. هو أصبح بعمله هذا، سبباً لتيار من الحرام في مجتمعه.. لذا، فلنحذر هذا الحرام!.. فلا ندري رب العالمين كيف يحاسبه؟.. فإذن، هذه الشهوات العابرة، تخسر الإنسان دنياه وآخرته.. الإنسان العاقل لا يحاول أن يهدم بناء بناه، فبعض الناس يبقى صامداً ثلاثين سنة في طاعة الله -عز وجل-، وإذا في ليلة من الليالي الحمراء، يبيع رأس ماله.. هل هذا من المنطق والعقل؟!.. لنحذر هذه الصفقات الكاسدة، وهذه المعاملات التي تجعل الإنسان يتحسر إلى الأبد!..

٥. الاستغفار: عليه أن يرجع من انحرف عن الطريق إلى الصواب؛ لأنه هو السبب، فليبحث عنهم!.. وإذا لم يستطع، ولا يعلم أين هم؛ عليه أن يلتجئ ويلوذ إلى الله -عز وجل-.. فهذا الذنب يجعله إلى آخر العمر، وهو يعيش جو التوبة والإنابة، فلا تمر عليه ليلة جمعة إلا وهو يضج إلى الله -عز وجل-.. ومن هنا فإن الإنسان عندما يذهب إلى الحج أو العمرة، يستحب أن يقف أمام الملتزم أو المستجار، ويلصق صدره بجدار البيت ويتذكر الذنوب.. فرب العالمين واسع كريم، يغفر الذنوب جميعاً إلا أن يشرك به، وهذا ليس بشرك.. باب التوبة -إن شاء الله تعالى- مفتوح، ولكن مع التعويض.. مثلاً: أغوى شباباً، يقول: يا رب، قربة إليك، وتعويضاً عما وقع مني، أنا الآن عنصر هداية للشباب.. إذا أخرج جماعة من الظلمات إلى النور، من الممكن أن يكون تعويضاً عمن أخرجهم من النور إلى الظلمات؛ هذا هو التكفير الحقيقي.. أما البكاء في جوف الليل، قد لا يكفي لوحده.. كالذين كانوا في الجاهلية وأدوا بناتهم، وقتلوا بعضهم بعضاً، وكانوا يشربون الخمر، ويزنون .. الخ؛ ولكن جاء الإسلام وصاروا من شهداء بدر وأحد؛ رب العالمين عفا عنهم السيئات.. فإذن، بالنسبة إلى ساعة الاحتضار: على المؤمن أن يكثف التوبة والاستغفار مما بدر منه.

٦. البقاء على وضوء: من الأمور المخففة للحساب، والنافعة أيضاً لطهارة القلب والفؤاد، وهذا شيء مجرب: أن يكون الإنسان مداوماً على الوضوء.. قال النبيّ (صلی الله عليه): (يقول الله تعالى: مَن أحدث ولم يتوضّأ؛ فقد جفاني.. ومَن أحدث وتوضّأ، ولم يصلّ ركعتين؛ فقد جفاني.. ومَن أحدث وتوضّأ وصلّى ركعتين، ودعاني، ولم أُجبه فيما سألني من أمور دينه ودنياه؛ فقد جفوته، ولست بربٍّ جاف).. الإنسان المتطهر إنسان مرشح لأن يصلي متى ما شاء، إنسان مرشح لأن يضع يده على كتابة القرآن الكريم، هذه مزية أن يكون الباب مفتوحاً له دائماً.. أو تعلم أن من ألذ لذائذ الوجود، أن يصلي الإنسان ركعتين بين يدي الله -عز وجل-، بلا مناسبة، ولا طلبًا لحاجة، ولا نافلة، (الصلاة خير موضوع، فمن شاء استكثر، ومن شاء استقل).. يدخل المسجد ويصلي لله -عز وجل- ركعتين؛ حباً لله عز وجل.. يقول: يا رب، أحب أن أتحدث معك، فالصلاة حديث العبد مع الرب، كما أن القرآن الكريم حديث الرب مع العبد، فيتفنن في هاتين الركعتين.. البعض منا حتى في النوافل يخشى أن يقرأ دعاء أبي حمزة في القنوت، بينما يستطيع أن يقرأ ما يشاء من الأدعية، سواء في الفريضة، أو في المستحب.. مثلاً: ليلة جمعة، وهو في السجود، في الصلاة الواجبة، إن رق قلبه، واشتاق إلى الحديث مع رب العالمين؛ يستطيع أن يقرأ ما يشاء في سجوده، أو في قنوته، أينما شاء، هذه فرصة للمناجاة مع رب العالمين؛ لأنه إن مرت هذه الفرصة، قد يسلب منه ذلك التوجه.

٧. الغسل: في “العروة الوثقى” للسيد الكاظم اليزدي- يذكر عدة أغسال: منها غسل “التوبة”، وغسل النشاط للعبادة.. فالمؤمن كيس فطن، عندما يغتسل يغتنم الفرصة: فهو ذهب للحمام، وصرف وقتًا فيه، فلينو غسل التوبة إلى الله عز وجل، أو غسل النشاط للعبادة أو غسل زيارة الحسين (عليه السلام).. ما عليه إلا أن يتوجه إلى جهة كربلاء، بعد الخروج من الحمام، ويقول: السلام عليك يا أبا عبد الله، وهو مغتسل.. انظروا إلى المؤمن كيف يغتنم الفرص!.. فالإنسان الذي يغتسل يومياً، يحول ذلك إلى طاعة وعبادة.. نعم هكذا المؤمن يستخرج الكنوز من الأرض القفر، من حركات حياته يحول ذلك إلى عبادة لله عز وجل.

٨. مستحبات ما قبل النوم: إن ثلث العمر -تقريباً- أو ما يقرب من الثلث، يمضيه الإنسان في النوم، فهو الموت الأصغر.. فالذي ينام ثمان ساعات؛ أي ثلث اليوم.. والذي ينام أقل من ذلك، ينام ربع اليوم.. فالمؤمن يستطيع أن يحوّل هذا السبات العميق إلى عبادة متصلة، وذلك بحركة بسيطة، قال الصادق (عليه السلام): (مَن تطهّر ثمّ أوى إلى فراشه بات وفراشه كمسجده، فإن ذكر أنه ليس على وضوء فتيمّم من دثاره كائناً ما كان، لم يزل في صلاةٍ ما ذكر الله عزّ وجلّ).. نعم هذا الفراش مسجد، ليس فراشاً عادياً.. وروي عن الصادق (عليه السلام) في فضيلة تسبيح فاطمة -عليها السلام- قبل النوم: (من بات على تسبيح فاطمة -عليها السلام- كان من الذاكرين للَّه كثيراً والذاكرات).. وإذا به يأتي يوم القيامة بثلث عمر مبارك.. مثلما الأنفاس في شهر رمضان تسبيح، والنوم عبادة، وإذا بهذا الثلث أو الربع الضائع، يتحول إلى عبادة من هذا القبيل.

الحياة فرص..
إن الحياة فرص، لنغتنم هذه الفرص.. المؤمن يغتنم كل لحظة من لحظات حياته: البعض يذهب إلى مقر عمله، فيمضي ساعة من عمره كل يوم في الطريق، ولم يبرمج لهذه الساعة: لا ذكر، ولا استماع إلى شريط نافع، ولا تأمل في مضامين نافعة.. ينظر يميناً شمالاً، يُمضي العمر كله هكذا: خلف إشارات المرور، وفي طوابير الانتظار، وفي المجالس.. لو جمع هذه الساعات الضائعة، لاكتشف كنزاً ضائعًا فاته طوال العمر.. كم كان بإمكانه أن يحشي هذه الساعات بسيد الأذكار، وهو: “لا إله إلا الله”؛ هذا الذكر الخفي.. عندما يقول الإنسان: “لا إله إلا الله”، وهو في العرس، أو في جماعة الغفلة والسهو؛ لا أحد يشعر به، لأن اللسان يتحرك والشفتان مطبقتان.. كم من الجميل أن يكون الإنسان في جماعة الغافلين عن ذكر الله عز وجل، وهو يتمتم بذكر الله عز وجل.. في وصية النبي: (يا أبا ذرّ!.. الذاكر في الغافلين كالمقاتل في الفارّين).. وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (ذاكرُ الله في الغافلين كالمقاتل عن الفاريّن، والمقاتل عن الفارين نزوله الجنة).. وعن الصادق (عليه السلام): (الذاكر لله في الغافلين، كالمقاتل عن الهاربين).

إن هذه الأيام هي أيام الحسين (عليه السلام) وأصحابه، لم يترك سيد الشهداء فرصة، لم يملأها بذكر الله عز وجل: في ليلة عاشوراء، وفي ظهر عاشوراء، وفي ساعة مقتله؛ وهو يلهج بذكر الله عز وجل، وهو على رمح طويل.. روي عن زيد بن أرقم أنه قال: “مر به علي، وهو على رمح وأنا في غرفة لي، فلما حاذاني سمعته يقرأ: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾.. فوقف والله شعري!.. وناديت: رأسك والله يا ابن رسول الله!.. أعجب وأعجب”!.. وليس هذا بأمر غريب على رأس شهيد، وهو سبط النبي (صلی الله عليه) الذي بذل مهجته ليستنقذ العباد من الضلالة وحيرة الجهالة.

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.