Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

– إن أول شرط في السير إلى الله –عز وجل– حالة العطش الروحي.. رحم الله الشهيد المطهري في إحدى محاضراته ينقل أبيات باللغة الفارسية ترجمتها: (لا تطلب الماء، أطلب العطش ليأتيك الماء من كل صوب).. إذا رأى الله -عز وجل- في الإنسان حالة عطش، فإنه سوف لن يهمله أبداً!.. والإنسان بعد فترة من التيه والضلال والبحث هنا وهناك؛ فإنه سيعيش حالة من حالات الاطمئنان، إذا علم الطريق إلى الله -عز وجل- ولو لم يصل!..

– إن الإنسان مادام يعيش هذا الهاجس، فإنه ليلة الزفاف، تلك الليلة التي يحلم بها الشباب.. يرى بأنه يسد جانباً من وجوده: فهو يسد غريزته.. قال يونس لأبي عبد الله (ع): لولائي لكم، وما عرفني الله من حقكم؛ أحب إلي من الدنيا بحذافيرها!.. قال يونس: فتبينت الغضب فيه، ثم قال (عليه السلام): (يا يونس، قستنا بغير قياس!.. ما الدنيا وما فيها: هل هي إلا سد فورة، أو ستر عورة؟.. وأنت لك بمحبتنا الحياة الدائمة)!.. انظروا إلى المستوى الذي يريد الإمام أن نصل إليه!.. وهذا الراوي من كبار الرواة، فلو كان إنسانا حديث عهدٍ بالإيمان، لأثنى عليه الإمام.. ولكن هذا الموالي المتقدم في ولايته، لا يُقبل منه هذا التعبير.

– إن المثابرة والاستقامة هو ما يجب أن يتحلى به المؤمن.. فمشكلة السائرين والسالكين، ومريدي طريق القرب إلى الله -عز وجل-، أنه يتوجه للتدين فترة من الزمن.. وعندما لا يُكشف له حجاب، ولا يرى نوراً، ولا مزيةً، ولا يُوسع له في رزقه!.. وقد يكون مبتلى بمرضٍ لا يُشفى من ذلك المرض، فإنه يرجع إلى ما كان عليه!.. بينما عليه أن يكون صادقاً، ومكابداً، ومجداً.. كما كان أصحاب الأئمة -عليهم السلام- وأصحاب الرسول (ص) هؤلاء الذين كانوا بالأمس يعبدون الأصنام، ويصنعون إلهاً من تمرٍ ثم يأكلونه ليلاً!.. فإذا بهم يصبحون شهداء في بدرٍ وأحدٍ وغير ذلك.

– إن المؤمن لا يستعجل في قطف النتائج!.. أحد العلماء كان في حرم أمير المؤمنين -عليه السلام- وكان يتوسل بالإمام من أجل أن يتوفق في الحصول على كتابٍ يكمل به موسوعته؛ فلم يستجب له!.. وإذا به يرى إنساناً قروياً يقف أمام المعصوم، وبكلمات مختصرة أخذ حاجته ورجع!.. يبدو أن هذا الشيخ تأثر لأنه يطلب حاجة معنوية، فلا يعطى.. وهذا الإنسان القروي في حركة واحدة، عقد الصفقة مع إمامه.. ففي عالم الرؤية رأى الإمام -عليه السلام- وطيب خاطره، بمعنى: أن هؤلاء إيمانهم من خلال المعجزات والكرامات، وأنت عالم لا يُتوقع منك ما يتوقع من هذا الإنسان الساذج البسيط.. فإذاً يجب أن يكون هناك طول نفس في هذا الطريق.. فرب العالمين يقول في القرآن الكريم: {قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا}، تقول الروايات أن بين هذا الكلام وإجابة الدعوة أربعين سنة!.. فموسى كليم الله، ومن أولي العزم، يأتيه الخطاب أن الدعوة أُجيبتْ.. ولكن يصبر أربعين سنة ليعطى تلك الحاجة!..

– إن الشاب إذا أراد أن يتقرب إلى ربه بمجاهدةٍ مستمرةٍ وعزمٍ في هذا الطريق، سوف يصل إلى ربه في أقرب وقتٍ ممكن.. لأن هذا الشاب محاط بسلسلةٍ من الإغراءات، ويسبح عكس التيار!.. فيوسف الصديق (ع) لو قام بموقفه وهو شيخ كأبيه يعقوب، هل كان أُعطي ذلك المقام المعهود؟.. إنما أُعطي ذلك المقام، لأنه قام بهذه الحركة الجهادية في مقتبل عمره.. أحدهم كان في بيئته متميزاً ومعروفاً بالفسق والفجور، هذا الإنسان تزوج بامرأة، وعندما دخل عليها ليلة الزفاف، وإذا بها تبكي.. وعندما سألها عن السبب؟.. فأجابت بأنها لا ترغب في الزواج منه، ولكنها مجبرة!.. وفهم من القصة أنها تحب الزواج من ابن عمها.. فطلب عالما وشهودا، فطلق الزوجة وعقد لها على ابن عمها.. عندئذ الشاب وزوجته دعيا لهذا الشخص، فقالا: (يا رب!.. أحسن عاقبته)!.. وإذا برب العالمين يقلب الأمور، بسبب هذه الدعوة التي كانت من الأعماق، بحق هذا الشاب المرهق بالذنوب.. وتلك الليلة كانت ليلة قدره، حيث أنه تحول إلى موجود آخر.. فرب العالمين رأى صدقاً وجهاداً، وحركة ملفتة في هذا المجال.. لذا غير جهة حركته في هذه الحياة الدنيا.. فهذا الشاب حصل في ليلة واحدة على ما نبحث عنه نحن طوال عمرنا، فنحن نقول: (إلهي!.. لا تردني في حاجة قد أفنيت عمري في طلبها منك)، وهي المغفرة.

– إن على الإنسان أن يبحث عن ليلة القدر هذه!.. صحيح أن هنالك ليلة ظاهرية، ولكن هنالك ليلة قدر مفتوحة للإنسان، بإمكانه أن يقوم بهذه الليلة في كل ليلة!.. فبشر الحافي ليلة قدره كانت تلك الليلة التي التقى فيها مع الإمام موسى بن جعفر (ع).. والفضيل الذي كان سارقاً، كانت ليلة قدره تلك الليلة التي كان ينتقل بها من مكان إلى مكان في الليل، وإذا به يسمع من يقرأ القرآن ويقول: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}!..

كيف نستعد لليلة القدر؟..
– إن المشكلة تكمن في أن الإنسان يريد أن يتغير في ليلة واحدة!.. فأحدنا ينتظر شهر محرم وصفر، والليلة العاشرة من شهر محرم، ليبني على تغيير ذاته!.. فالأمر ليس بهذه البساطة؟!.. فليلة القدر هي بمثابة محطة تقوية للتيار الكهربائي، وليلة القدر هي محطات تقوية لتيارٍ موجود، ولكنه ضعف في حركة الحياة.. فتأتي ليلة القدر لتُعيد الأمور إلى مجاريها.. وهنيئاً!.. لمن كان قد أعد نفسه قبل أشهر.. إذ أن هناك فرقا بين إنسان يعمل طوال السنة، وبين آخر يعمل في هذه الليلة فقط.. فمثلا: هناك شخص اتخذ له وردا، وهو قراءة سورة القدر في اليوم ألف مرة، لمدة سنة ونصف.. هذه السورة هي سورة الولاية، ولهذا جُعلت إحدى سورتين مستحبتين في الصلاة وهما: في الركعة الأولى القدر، وفي الثانية التوحيد.. صحيح أن رب العالمين لم ير من الصالح أن يُصرح باسم أمير المؤمنين في القرآن، ولكنه ذكر ذلك بإشارات خفية أو جلية، {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}.. فهل هنالك إنسان يتصدق في حال الركوع؟!.. القرآن يقول: ابحثوا عن هذا الصحابي الذي تصدق وهو راكع؟!.. فهذه الآية لا تنطبق إلا على علي -عليه السلام- فهو ولينا.. يكفي الإشارات، والعلماء في اللغة العربية قالوا: الكناية أبلغ من التصريح!.. كذلك في سورة القدر رب العالمين يقول لنا: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْر}، كلمة عظيمة!.. فالقرآن عندما يذكر الأمور التي لا تحتملها عقولنا يأتي بكلمة {وَمَا أَدْرَاكَ}، {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ}!.. أي أن عقولكم لا تحتمل استيعاب حقيقة القيامة، ومن هنا يقول القرآن: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ}!.. عندما يصل الأمر إلى ليلة القدر، يستعمل القرآن الكريم التعبير نفسه: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْر}؛ أي عقولكم لا تستوعب حقيقة هذه الليلة!.. فهي {خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}، لم يبين الأمر!..

– إن ليلة القدر مرتبطة بالولاية، ولكن من أين؟!.. {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ}، تنزل أي تتنزل فعل مضارع يدل على الاستمرار.. في كل ليلة قدر تتنزل الملائكة، ولكن على من تتنزل الملائكة في ليلة القدر؟.. إذا كانت لا تتنزل على جهة من الجهات، فهذا لغو.. فهل تتنزل على الأرض ثم ترتد؟.. يقول تعالى في كتابه الكريم: {بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ}؛ معنى ذلك أن هنالك جهة تستقبل الأسرار والمقدرات الإلهية في كل ليلة قدر.. في زمان النبي (ص)، تتنزل على النبي.. وفي زمان الوصي (ع)، تتنزل على الوصي.. ومن هنا، فإن أجلّ الأعمال في ليلة القدر أن نلتفت إلى ذلك القلب، وإلى تلك الجهة التي تتلقى هذه المقدرات، وهذه المكتوبات إلى سنة كاملة: سعادةً، وشقاءٍ.. ألا وهو ذلك القلب الذي يحمل آلام الأمة، ذلك الإمام المنسي!..

– إن المؤمن بالنسبة إلى أئمة أهل البيت (ع) لم يؤد حقوقهم، ولكن هنالك شيء من أداء الحق.. أما بالنسبة إلى إمام الزمان، فهناك جفاء غير متعمد!.. هل نعيش حياته؟.. هل نعيش قيادته؟!.. مشكلتنا نحن أنه لا نعيش الارتباط الشعوري الوثيق بذلك الإمام، الذي سنحشر تحت لوائه يوم القيامة.. علماء العقيدة يقولون: بما أن الإمام مجرى الفيض في هذا العصر.. ومن خلال ولدهم المهدي -صلوات الله وسلامه عليه- ماذا عملنا في طوال العام لتعميق الارتباط به -صلوات الله وسلامه عليه- ماذا عملنا غير الدعاء له بالفرج؟!.. دعاءً شكلياً تعارفياً وبلحنٍ ثابت، لا خشوع فيه، ولا تدبر فيه، لو أنكم دعوتم لفرجه بهذا الدعاء (اللهم!.. كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه)!..

لو أن الإمام مرة واحدة قرأ هذا الدعاء في حق من يقرأه، ما الذي سيحدث؟.. هل من المانع أن يقول صاحب الأمر والزمان (اللهم!.. كن له ولياً، وحافظاً، وقائداً، وناصراً، ودليلاً، وعينا)؟.. إذا الإمام دعا لك في العمر مرةً واحدةً، أن يكون رب العالمين لك دليلاً وعينا.. هل بقي نقص في عالم الوجود؟!.. البعض يذهب إلى بلاد بعيدة، ليلتقي برجل عرفاني يأخذ بيده.. والإمام -عليه السلام- كالشمس خلف السحاب، عندما يأتي السحاب ليغطي الشمس، فإن الإنسان يستوحش لفراغ الشمس!.. وألطافه -صلوات الله وسلامه عليه- شملت الكثيرين في زمان الغيبة، فالإمام -صلوات الله وسلامه عليه- له عناية، وإشراف على محبيه وعلى شيعته.. إذاً من واجباتنا في ليلة القدر أن نعيش هذا الشعور تجاه صاحب الأمر -صلوات الله وسلامه عليه-.

– إن على الإنسان أن يعتمد في ليلة القدر الكيف لا الكم!.. من الممكن أن تُحيي ليلة القدر من الغروب إلى مطلع الفجر، ولكن لم تذرف ولا دمعة واحدة، ما قيمة هذا الإحياء؟!.. (ركعتان مقتصدتان بتفكر، خير من قيام ليلة والقلب لاه).. أو تعلم أن من موجبات قسوة القلب، أن ترغم نفسك على قراءة القرآن والدعاء إرغاماً.. لماذا الناس لا يستذوقون دعاء الجوشن؟!.. دعاء الجوشن بالنسبة لأولياء الله -عز وجل- من محطات الأنس في شهر رمضان، يوزعونها على كل شهر رمضان، يقرؤون في كل ليلة شطراً منه.. ففي دعاء الجوشن يدعو الإنسان ربه ألف مرة.. علينا أن لا نحول دعاء الجوشن إلى دعاء ممجوج، لا روح فيه.. عندما تأتي ليالي القدر، فكأننا في امتحان آخر العام!.. هذه المرحلة يعيش فيها الإنسان حالة من القلق والوجل لما سيحصل!.. ماذا سيقدم في هذه الليالي؟.. أحدنا يعرف سعادته من خلال هذه الليالي.. مع طلوع فجر اليوم الثالث والعشرين من شهر رمضان، يشعر الإنسان بأن شهر رمضان قد انتهى، كمشاعره في اليوم الثاني عشر من المحرم، وفي اليوم الثاني عشر أو الثالث عشر من ذي الحجة، عندما ينتهي الموسم!.. وقد ورد في الرواية: (من انسلخ عنه شهر رمضان، ولم يغفر له.. فلا غفر الله له)!.. هذه الفرصة الوحيدة، ومن كلام رسول الله (ص): (الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر).

– إن من آداب ليلة القدر، وخاصة الليلتين الأولى والثانية، أن نرتبط بخط الولاية والإمامة.. فعندما لا نتفاعل في ليلة القدر، نستطيع أن نتذكر ما جرى على علي -عليه السلام- في مثل هذه الليالي.. لو أن الإنسان دخل إلى الباب الإلهي من هذا الباب الواسع: رجلٌ ولادته في البيت، وشهادته في البيت، وهو فيما بينهما لم يفتر عن الضرب في سبيل الله -عز وجل- بسيفه وخطبه.. هذا الإنسان له وجاهة عظيمة عند الله -عز وجل- وإن حديث النبي (صلى الله عليه وآله): (يا علي، ما عرف الله إلا أنا وأنت، ولا عرفني إلا الله وأنت، ولا عرفك إلا الله وأنا).. يفسّر جهل البشر بحقيقة أمير المؤمنين -عليه السلام-، وما أختصه بارئه -جل شأنه- من الميزات التي يحار العقل بها!.. أحدنا يحاول أن يدخل من هذا الباب، من باب علي -صلوات الله وسلامه عليه- ذلك القلب الشفيق الذي عفا عن ابن ملجم، وهو مريض في فراش موته.. وهو يعلم أنه سيموت.. وفي هذا الموقف يشارك قاتله في الشراب الذي يشربه.. إذا كان علي يفكر في طعام ابن ملجم، وفي شراب ابن ملجم.. فكيف بمن يحيي ذكرى ولده الحسين -صلوات الله وسلامه عليه- أحدهم وقف أمام ضريح الحسين -عليه السلام- إنسان له معرفة بشدة لطفهم كان يقول: يا أبا عبد الله، أقسم عليك بمن تُحب، إياك أن تشفع لقاتلك يوم القيامة!.. أنتم أهل بيت الكرم، نخشى أن يأتي ذلك اليوم وتغفرون لقاتلكم!..

تحدث الشيخ بهجت عن كرم الأئمة (ع) وجودهم فقال: توجد في العراق قرية صغيرة تقع بالقرب من ملتقى نهري دجلة والفرات تسمى (المسيب)، وكان هنالك رجل شيعي يمر من هذه القرية بين الحين والآخر في كل زيارة يزور بها أمير المؤمنين (ع)، وكان يسكن في هذه القرية رجل سني أيضا.. وكثيرا ما كان هذا الرجل يسخر من الرجل الشيعي عندما يراه ذاهبا إلى زيارة أمير المؤمنين (ع)، حتى أنه تجرأ ذات مرة على ساحة الإمام (ع) المقدسة.. فغضب الرجل الشيعي وشكا هذا الأمر لأمير المؤمنين (ع) في إحدى زياراته.. وفي تلك الليلة رأى الإمام (ع) في المنام وشكا له الأمر مرة أخرى.. فقال الإمام (ع): (إن له حقا علينا، ولا نستطيع أن نعاقبه في هذا الدنيا مهما ارتكب من المعاصي). فقال الرجل الشيعي: أي حق؟.. هل أصبح صاحب حق لتجرؤه عليكم؟.. فقال الإمام (ع): (بل لأنه كان جالسا ذات يوم في ملتقى نهري دجلة والفرات، وكان ينظر إلى الفرات، فتذكر قصة كربلاء وعطش الإمام الحسين (ع)، فقال لنفسه: لقد قصر عمر بن سعد، إذ قتل هؤلاء وهم عطاشى، وكان من الأفضل أن يسقيهم الماء ثم يقتلهم، ثم جرت من عينيه قطرة من الدمع، حزنا على أبي عبد الله (ع)، ولذلك أصبح له حق علينا بأن لا نعاقبه في هذه الدنيا أبدا).. يقول الرجل الشيعي: استيقظت من النوم ورجعت إلى المسيب، فلاقيت الرجل السني في الطريق فقال لي مستهزئا: هل زرت إمامك، وهل أبلغت وصيتنا إليه؟.. فقلت له: نعم، أبلغت وصيتك، وأحمل وصية إليك، فضحك وقال: ما هي الوصية التي تحملها إلي؟.. فقصصت عليه القصة من بدايتها إلى نهايتها، فأطرق الرجل السني برأسه إلى الأرض وأخذ يفكر لنفسه: يا إلهي!.. لم يكن في تلك اللحظة أحد بقربي، ولم أحدث أحدا بهذه القضية، فكيف اطلع عليها الإمام (ع)؟.. ثم قال: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن عليا أمير المؤمنين ولي الله ووصي رسول الله).

– فإذن هؤلاء مظاهر اللطف.. لذا علينا في ليلة القدر أن نتحاور مع أئمة الهدى -عليهم السلام- ولا بأس إذا بلغ الإنسان قساوة في قلبه، أن يذكر مصائبهم برفق، لا بعنف؛ أي لا يذكر جُزئيات مصائبهم.. فهم يتألمون من منظر الزائر الذي يبكي في مشاهدهم، لأنهم يشهدون المقام، ويردون السلام.. فالإمام (ع) عندما سمع أحدهم يقول: (مات التصبر بانتظارك أيها المحيي الشريعة، فانهض فما أبقى التحمل غير أحشاء جزوعة)!.. لم يتحمل منه هذه الكلمات العتابية، مشى معه في الطريق من دون أن يُعرفه بنفسه وقال له: ليس الأمر بيدي، لم يحب أن يرى ولي من أوليائهم يعيش هذه الحالة من القلق!.. والنبي (ص) في ليلة ما بعد انتصار بدر، والمسلمون فرحون بانتصارهم على الأعداء في المعركة الأولى الفاصلة، وإذا بالنبي في تلك الليلة يعيش حالة من حالات الأسى والألم.. لأنه كان يسمع أنين عمه العباس، وهو في القيد، وهو غير مسلم!.. هؤلاء رحمة للعالمين.

– إن الإنسان يستطيع أن يبتكر أساليب للخطاب مع الأئمة -عليهم السلام-، وليس فقط بالأدعية المأثورة.. وكعينة من عينات الخطاب العفوي: عند زيارة الرسول (ص): نقول: يا رسول الله، أنت الذي قلت: أكرم الضيف، ولو كان كافراً!.. وأنا ضيفك، وأنا مسلم على الأقل، إن لم أكن مؤمناً.. ألم يقل ربنا في كتابه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ}، فأنت مأمور بإجارة المشرك، فكيف بالمسلم؟!.. أحدهم كان يريد أن يذهب إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو يخشى أو يخاف من الرد.. فعلمه علي -عليه السلام- سراً، قال له: إذا ذهبت إلى رسول الله (ص) قل له: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} هذا الكلام ليس فيه شيء ملفت!.. ذهب إلى النبي (ص) وقرأ له: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا}، فقال النبي (ص): {… لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.. حيث كان من طبيعة النبي أنه إذا أحدهم قرأ آية أكملها.. فعلي -عليه السلام- علمه صدر الآية، حتى يكمل النبي باقي الآية، ويكون بذلك قضاء حاجته.. فإذاً، في ليلة القدر فليحاول أحدكم أن يدخل إلى قلوب أوليائه من هذه الأبواب العفوية.

– إن في الساعة المتاخمة لآذان الفجر في ليلة القدر، فليذهب الإنسان إلى غرفة فارغة، ويعيش مشاعر الخوف والرجاء.. ويقول: يا رب {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، وها هو مطلع الفجر قريب، ليبدأ العد التنازلي.. انظر إلى ساعتك وقل: يا رب!.. ماذا عملت بي هذه الليلة: أغفرت لي، أم لم تغفر لي؟!.. ماذا أصنع؟.. عش كالإنسان المتلوي ألماً.. ولا تعول على ليلة بعد ذلك، لعله الليلة تُفتح لك الأبواب، وتغلق عليك الأبواب في الليلتين اللاحقتين!.. لذا لا تعول على ليلة قدر أخرى، قل: هذه هي ليلة القدر الوحيدة، إن رزقت ثانية رزقاً حسناً قلت: لله شكراً، وإن لم ترزقْ اغتنم الفرصة.. وثق إن من يتقن الأداء، والحديث، والمناجاة، والبكاء في الليلتين: التاسعة عشرة، والحادية والعشرين.. سيعطى شيئاً في الليلة الأخيرة، ليلة القدر الكبرى.

– إن المؤمن يتيم.. تصوروا يتيما يأتي إلى هذا البلد الكريم، لا مأوى له، ولا لباس له: عارياً، جائعاً، ومريضاً، يتيماً، ماذا يعمل؟!.. يذهب في كل يوم إلى أحد، ويطلب منه طعاما وفي اليوم الآخر يذهب لشخص آخر يطلب منه الكساء وهكذا.. فهل هذا هو الحل؟.. هذا اليتيم لو أردت أن تنصحه ماذا تقول له؟!.. تقول يا يتيم ابحث عن تاجر سخي متمكن، وقل له: ليتبناك بالرعاية ويتخذك ولداً!.. إذا اتخذك ولداً فطعامك مُؤَمن، وكسوتك مُؤَمنة، وعلاجك مُؤَمن، يجعلك في بيته كأحد أولاده.. التبني، هو التكسب من جميع الشؤون.. ونحن أيتام ألم يقل النبي (ص): (أنا وعلي أبوا هذه الأمة)؟!.. ونبينا فقدناه (نشكو إليك فقد نبينا، وغيبة ولينا)، علينا أن نعيش هذا اليُتم هذه الليالي، ونقول: (يا أبا صالح المهدي!.. تصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين).. فلنطلب من الله -عز وجل- أن يتبنانا بالرعاية الشاملة.. فقد تبنى مريم (ع) ماذا فعل بها؟.. {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا}.. فحملت بذلك الحمل العجيب، ونفخ الله -عز وجل- في جوفها المخلوق المتميز في تاريخ البشرية؛ روح الله عيسى.. فتتُتهم بالفحشاء {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا}.. وكل البركات المنصبة على مريم (ع)، هي من كلمة واحدة: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ}.. فلنحاول في ليلة القدر أن نصل لهذه المرحلة، المرحلة التي وصلت إليها مريم -عليها السلام- والمرحلة التي وصلت إليها آسيا بنت مزاحم.

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.