Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

الإجزاء والقبول:
إن للصلاة حيثيتين: الإجزاء، والقبول.. فالصلاة التي تتجاذبها الأوهام والخواطر، قد تكون مجزية، ومسقطة للعقاب؛ ولكنها غير مقبولة.. قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} لقد جعلَّ الله -عز وجل- التقوى شرطاً للقبول، وفرقٌ بين الإجزاء وبينَ القبول!.. فرقٌ بين من يأتي يوم القيامة، ولا يُجعل في خانة تاركي الصلاة، وبينَ من تكون صلاتهُ معراجاً إلى الله عز وجل!.. وقد تم وصف الصلاة من قبل المعصومين (ع) بعبارات مختلفة، منها: (الصلاة معراج المؤمن)، و(الصلاة قُربان كل تقي)، و(الصلاة عمود الدين).. فالمؤمن يصوم في السنة مرة، وفي العمر يحج مرة؛ فهل هذا هو الدين؟.. إذن، لولا الصلاة، ولولا المساجد، ولولا صلاة الجمعة والجماعة؛ لما بقيَّ من الإسلام شيء.. فهذه الصلاة هي الصلة بين العبد وربه، ولولا الصلاة لانقطعت العلاقة مع رب العالمين!.. المسلم الذي يشهد الشهادتين، ولا يُعطي لهذا الذي آمنَ بهِ ركيعات في اليوم؛ هذا من أسوأ خَلق الله عزَ وجل!.. ومن هُنا أُمرنا: بأن لا نزوج هذا الإنسان، ونلقاهُ بوجهٍ مكفهر، ولا نؤاكله، ولا نُسافر معه، ولا نُصادقهُ.. عن أمير المؤمنين (ع): (أمرنا رسول اللَّه (ص) أن نلقى أهل المعاصى؛ بوجوه مكفهرة).

ابتكار الأساليب:
إن الحديث مع رب العالمين، فن -إن صحَ التعبير-.. مثلاً: بعض الشباب لم يتكلم في حياته مع امرأةٍ بإرادةٍ قط، ولكن بمجرد أن يتم عقده على فتاة، وإذا به يعيش قمة الغرام والرومانسية!.. أيضاً فتاة بعد سن التكليف تُزوج، وإذا بها تُصبح زوجة وأماً كأفضل ما يمكن!.. فالقضية قضية محبة ورغبة؛ والإنسان المحب يبتكر الأساليب المشوقة!.. بعض المُصلين يبتكر أساليب مختلفة في إثارة نفسهِ لأجل أداء صلاة خاشعة، مثلاً: أحدهم في جوف الليل، عندما يقوم للصلاة بينَ يدي الله -عزَ وجل- يجعل أمامه لفظ الجلالة بشكلٍّ مضيء؛ هذا ابتكار!.. وهناك إنسان عندما يريد أن يصلي، يدخل خيمة مصغرة جعلها في منزله؛ لأنَ هذهِ الخيمة تحجبهُ عن كُلِّ شيء؛ هذا ابتكار أيضاً!.. والبعضُ من قدمائنا لعلهُ كانَ يُصلي في قبره!.. فإذن، المؤمن يبتكر الأساليب المختلفة التي تجعل الروح تسري في هيكل هذه الصلاة التي يؤديها يومياً!..

لوازم زيارة المساجد:
قال رسول الله -صلى الله عليه وآله-: (قَالَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَلَا إِنَّ بُيُوتِي فِي الْأَرْضِ الْمَسَاجِدُ، تُضِيءُ لِأَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا تُضِيءُ النُّجُومُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ.. أَلَا طُوبَى لِمَنْ كَانَتِ الْمَسَاجِدُ بُيُوتَهُ!.. أَلَا طُوبَى لِعَبْدٍ تَوَضَّأَ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ زَارَنِي فِي بَيْتِي!.. أَلَا إِنَّ عَلَى الْمَزُورِ كَرَامَةَ الزَّائِرِ، أَلَا بَشِّرِ الْمَشَّاءِينَ فِي الظُّلُمَاتِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ السَّاطِعِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).. عادةً البيوت مُتناسبة مع أصحابها، فبيتُ الملك وهو ما يُسمى بـ”القصر”، لا يُقاس ببيت الفلاح.. و”المسجد” هو بيتُ الله عز وجل، ومن لوازم زيارة بيته تعالى:

أولاً: الإغاثة.. هذهِ الأيام في كُل دول العالم، هناكَ عُرف دبلوماسي، وهو: لو أنَ المُجرم التجأ إلى سفارةٍ من السفارات، وخاصة إذا كانت سفارة دولة عُظمى، لا أحد يتجرأ أن يقوم بالقبض عليه!.. مجرد أن يدخل أراضي السفارة، كأنه دخل أرض تلكَ الدولة.. فإذا كانت بيوت السفراء، وأراضي السفارات؛ أماكن محمية؛ فكيفَ ببيت الله عزَ وجل؟.. ومن هُنا نعتقد أنَ سُلطة الشياطين وقوتها، تضعف في المساجد.. والذي يصلي في المسجد جماعة، يكون إقباله أسهل بكثير من الصلاةِ في المنزل!.. ولكن البعض لا يأتي إلى بيوت الرحمن، بحجة أن الصلاة في المنزل أكثر خشوعاً!.. هذهِ وسوسة؛ الشيطان قد يُغريه بذلك ليحرمه الثواب الجزيل.. فالمؤمن يجمع بينَ المسجد وبينَ الخشوع، فهو عندما يقف في صفوف المُصلين، يشعر أن هُنالكَ رحمة غامرة تحيط به في صلاة الجماعة، ولو خارج المسجد.. فكيفَ إذا كانت الصلاة في بيت الله عزَ وجل؟..

ثانياً: الضيافة.. عندما يقوم الإنسان بزيارة أي شخص، يقدم له ضيافة؛ وهذا عُرف عندَ كُل الأمم.. نحنُ بشر نهيئ الضيافة، فكيفَ برب الأرباب؟.. (أَلَا إِنَّ بُيُوتِي فِي الْأَرْضِ الْمَسَاجِدُ)؛ وهنا المقصود بـ”الْمَسَاجِدُ” مطلق المساجد، فرب العالمين لا ينظر إلى صور الناس وأبدانهم، ولا ينظر إلى زخرفة المساجد!.. البيت إذا صارَ للهِ -عزَ وجل- وإن كانَ من قصب، كما كانَ بناء مسجد النبي الأعظم (ص)،؛ فإنه يبارك فيه!.. فإذن، إن المساجد كُلها بيوت الله عزَ وجل.

ثالثاً: زيارة الله.. (أَلَا طُوبَى لِعَبْدٍ تَوَضَّأَ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ زَارَنِي فِي بَيْتِي)!.. كلمة “طوبى”، كـ:”ويل”.. الويل في العذاب، وطوبى في الثواب!.. قيل: إن “طوبى” شجرة في الجنة، وهي كناية عن النعيم.. بعض المؤمنين يتعمد الوضوء في منزله، لينطبق عليه هذا الحديث.. قال الصادق (ع): (عليكم بإتيان المساجد؛ فإنها بيوت الله في الأرض.. ومَن أتاها متطهّراً، طهره الله من ذنوبه، وكُتب من زوّاره).. يا له من تعبير!.. رب العالمين لا يحدهُ زمان ولا مكان، ولكن بيوته في الأرض المساجد.. عندما يذهب الإنسان لزيارة بيت اللهِ -عزَ وجل- يقول: “أمانتي أديتُها، وميثاقي تعاهدتهُ”؛ الحجر الأسود يمينُ اللهِ -عز وجل- في الأرض، والإنسان عندما يستلم الحجر، كأنه يُصافح العرش.. وعليهِ، فإن المساجد أماكن يُزارُ فيها رب العالمين؛ بالمعنى الكنائي.

أهمية النية في بناء المساجد:
هُناكَ آيتان في القرآن الكريم: آيةٌ ذامة وآيةٌ مادحة، بالنسبة إلى بناء المساجد.. فرب العالمين لا ينظرُ إلى الأبنية:
١. الآية الذامة: وهي الآية التي تتحدث عن مسجد ضرار، أنظروا إلى شدة التعبير، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}.. ومختصر قصة “مسجد ضرار”: “إنّ بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قبا، وبعثوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله- أن يأتيهم، فأتاهم وصلّى فيه.. فحسدهم جماعة من المنافقين من بني غنم بن عوف، فقالوا: نبني مسجداً فنصلي فيه، ولا نحضر جماعة محمد.. وكانوا اثني عشر رجلا، وقيل: خمسة عشر رجلا، منهم: ثعلبة بن حاطب، ومعتّب بن قشير، ونبتل بن الحارث، فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قبا.. فلّما بنوه أتوا رسول الله -صلى الله عليه وآله- وهو يتجهّز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله، إنّا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة، والليلة الممطرة، والليلة الشاتية.. وإنّا نحب أن تأتينا فتصلي فيه لنا، وتدعو بالبركة فقال (صلى الله عليه وآله): «إنّي على جناح سفر، ولو قدمنا أتيناكم -إن شاء الله- فصلّينا لكم فيه»، فلمّا انصرف رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- من تبوك، نزلت عليه الآية في شأن المسجد {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا}؛ أي يا رسول الله، لا تقترب من هذا المسجد.. رسول -صلى الله عليه وآله وسلم- لم يكتف بعدم افتتاح المسجد والصلاة فيه، بل أمر المسلمين بإحراقه، ثم تخريب جدرانه، وتهيئته ليكون مرمى للنفايات”.. هذا مصيرُ المسجد الذي يُبنى لغيرِ اللهِ عزَ وجل.

٢. الآية المادحة: وهي الآية التي تتحدث عن مسجد قباء، قال تعالى: {… لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}.. هذهِ الأيام من يوفق إلى الحج أو العمرة، فإنه يذهب إلى هذا المسجد ليصلي فيه ركعتين، وتكتب له بذلك عمرة، كما هو مكتوبٌ في محراب مسجد قُباء، عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (صلاة في مسجد قباء، كعمرة).. وقال (ص): (من تطهر في بيته، ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه؛ كان له كأجر عمرة).. وإذا بهذا المسجد يبقى إلى يومنا هذا، ويصبح من المساجد الخالدة في حياة المُسلمين، وما ذلك إلا لأن أصحابهِ جماعة من المؤمنين، كانت نيتهم خالصة لله عز وجل، يقول تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ}.. نحنُ في حياتنا اليومية نُلاحظ أن هناك مشاريع متشابهة؛ ولكن سُبحان الله!.. رب العالمين يباركُ في بعض المشاريع، ولا يباركُ في البعض الآخر؛ ما السبب؟.. هنالكَ علاقةٌ بينَ المشروع وصاحب المشروع: فهذا الذي بنى المسجد، ليسَ إنساناً مُخمساً فحسب!.. وليسَّ إنساناً مُصلياً فحسب!.. بل هذا إنسان لهُ كمال باطني، هذا الإنسان لا يخاف إلا الله عزَ وجل.. بنى للهِ مسجداً، ومعَ ذلك يخافُ من عدم القَبول {فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ}: المُهتدي غير الذي الذي يهتدي، فرقٌ بينَ إنسان يحاول أن يهتدي، وبينَ إنسان انتخبهُ الله -عز وجل- ليكونَ منَ المهتدين، ولهذا في كُل فريضة نقول: يا رب {اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}.

عمارة المساجد:
إن عمارة مساجد الله -عز وجل- لها مصدقان:
المصداق الأول: البناء المادي.. ويتفرع إلى:
أ. البناء الكامل: أي الذي يبني مسجداً كاملاً، فالمؤمن قبل أن يذهب من هذهِ الدُنيا، يحاول أن يبني مسجداً كاملاً، ولو في أقاصي بلاد المؤمنين، ولو على مساحةٍ صغيرة.. إحدى المؤمنات تبرعت لبناء مسجد، فتم بناؤه وكان -تقريباً- من أفضل المساجد، من حيث المظهر: مسجد متكامل، بطوابق عديدة، وبأمور متميزة.. وعندما طُلب منها حضور افتتاح المسجد كعادة المتبرعين، رفضت الحضور، وطلبت ألا يعرف أولادها الأمر إلى أن ماتت.. أنظروا إلى المباركة، بسبب تلك النية الخالصة!..

ب. المساهمة في البناء: المؤمن يحاول أن يبني مسجداً كاملاً، وإن لم يستطع يساهم في بناءِ بيتٍ من بيوت الله -عزَ وجل- ولو بطابوقة واحدة.. فرب العالمين واسعٌ كريم، يقبل من عباده اليسير من العمل، ويجازيهم عليه العظيم من الأجر!.. في نيشابور هُنالكَ قبرٌ لعجوز تسمى شطيطة، هذهِ العجوز بعثت بدرهم للإمام الكاظم (ع)، الإمام (ع) قبل منها ذلك وقال: (إن الله لا يستحيي من الحق)!.. وإلى يومنا هذا، درهم شطيطة ذهبَ مثلاً في القَبول!..

المصداق الثاني: البناء المعنوي.. ويتفرع إلى:
أ. عدم اللغو: عن أبي ذر الغفّاري (رض) عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (يا أبا ذر!.. من أجاب داعي الله، وأحسن عمارة مساجد الله، كان ثوابه من الله الجنّة، فقلت: كيف يعمر مساجد الله؟.. قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: لا ترفع الأصوات فيها، ولا يخاض فيها بالباطل، ولا يشترى فيها، ولا يباع، واترك اللّغو ما دمت فيها.. فإن لم تفعل، فلا تلومنّ يوم القيامة إلاّ نفسك)؛ فكيفَ إذا خضنا بالباطل بأصوات مرتفعة؟.. والباطل هنا قد يعم: أي الباطل بمعنى: الحرام الشرعي، أو الباطل بمعنى: اللغو الذي لا معنى له.. ولكن الذي لا يوقر المسجد:

أولاً: أضرَ بغيره.. لأنه قد يكون هناك إنسان يُريد أن يُصلي صلاة فيها توجه، أو يريد أن يتنفل قبلَ الفريضة؛ فلا يمكنهُ التوجه.. فهو عندما حرم أخاه التوجه بصوته:
١: سقط من عين الله -عزَ وجل- لأنه آذى أخاه المؤمن، وسلب منهُ الخشوع.
٢: استخف بالله -عز وجل- لأن من يكون في قاعة السلطان، لا يتكلم، بل لا يتنفس؛ خوفاً من المُراقبين.. وهذا بيتُ الله تعالى، وهو أولى بذلك!..

ثانياً: أضر بنفسه.. حيث أن من موجبات نزول البركة على الإنسان، الصلاة في المسجد، والصلاة جماعة، والدعاء بعد الصلاة.. لذا يجب أن يغتنم الفرصة، بدل أن يستدبر القبلة وهو في المسجد، ويتكلم معَ من لا يزيدهُ إيماناً ولا تقوىً ولا علماً.

ب. الصلاة: إن المؤمن عندما يكون في المسجد يستقبل القبلة، ويتحدث مع الله عزَ وجل.. حيث أن الصلاة هي القرآن الصاعد، فالمؤمن إذا اشتاق للحديث مع الله -عزَ وجل- يُصلي.. بالإضافة إلى أن البعض في ذمتهِ قضاء صلوات، على الأقل صلوات الفجر!.. والبعض يقطع أنَ صلاتهُ باطلة أيام البلوغ، إما بسبب الوضوء الباطل، أو الغُسل الباطل.. فإذن، المؤمن يستغل وجوده في بيت الله عز وجل، ويقضي ما في ذمته من صلاة.

ج. قراءة القرآن: إن حديث الله -عز وجل- مع العبد، يكون من خلال القرآن الكريم.. فمن يشتاق إلى حديث رب العالمين معهُ، يقرأ القرآن؛ فالقرآن هو الكتاب النازل.. وخير مكان لتلاوة كتاب رب العالمين هو بيته.. فإذن، المؤمن في المسجد يكون بينَ حديثٍ مع الرب، وبينَ حديث الربِ معه!.. ولكن -للأسف- تركنا هذهِ الأجواء، وانشغلنا بالباطل.

د. التأمل: إن المؤمن وهو في المسجد، إن لم يكن في حال صلاة أو قراءة للقرآن، يستطيع أن يتأمل في وضعه: إلى أين؟.. وفي أين؟.. ومن أين؟.. ما الجديد في حياته؟.. أخذ من ربه ثلاثين أو أربعين سنة، ولكن أينَ المعرفة الزائدة؟.. وأينَ الصلاة الخاشعة؟.. وأينَ الإنابة والتوبة؟.. وأينَ الأخلاق الفاضلة؟.. فيأخذ الإنسان بعتاب نفسه!..

هـ. المناجاة: وطوبى لإنسان وهو في بيت الله -عزَ وجل- يُفكر في هذهِ المضامين: “آهٍ!.. آه!.. من قلة الزاد، وبُعد السفر”!.. فتجري عبرته ويقول: يا ربِ، خُذ بيدي.. ويلي!.. إن أنا متُ على مثلِ حالي، ويلي كُلما طالَ عُمري!.. وإذا بهذا السكوت انقلبَ إلى مُناجاة!..

و. القراءة: بعض المساجد -وبحمد الله تعالى- فيها مكتبات، لذا بإمكان المؤمن أن يأخُذ كتاباً نافعاً، ويقرأ الكُتب العلمية المعاصرة، التي تتحدث عن عظمة الخِلقة، أو عن الفلك، أو عن الطب،… الخ.. ثمَّ يصلي ويقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.. يا لهُ من أسلوب جميل!..

العبادة سراً وعلناً:
إن رب العالمين لهُ نوعان من التشريع: تشريعٌ للجلوات، وتشريعٌ في الخلوات.. فتارةً يحثنا على صلاة الجماعة، حيث أنه قلما ورد التأكيد على مستحب، كالتأكيد على صلاة الجماعة.. في روايات أهل البيت (ع)، هناك تأكيد كبير على هذه الصلاة، حتى يفهم من بعض المضامين أن الركعة الواحدة، لا يحصي ثوابها إلا الله عز وجل.. في حديث قدسي طويل، ورد فيه أهمية وفضل صلاة الجماعة: (… فإذا زادوا على العشرة، فلو صارت بحار السماوات والأرض كلّها مداداً، والأشجار أقلاماً، والثقلان مع الملائكة كتاباًَ؛ لم يقدروا أن يكتبوا ثواب ركعة واحدة).. وكذلك بالنسبة إلى الحج، وصلاة العيدين؛ فهذه عبادة في العلن.. وتارة يحثنا على الصوم، وصلاة الليل، والصدقة..الخ؛ وهذه عبادة في السر.

فإذن، إن رب العالمين يُحبُ أن يُعبد علناً، وسراً.. والذي يُتقن عبادةَ ربهِ في الخلوات، هو الذي يتقنها في الجلوات.. هنيئاً لإنسان لهُ خلوة مع الله -عزَ وجل- في الليل، ولهُ حديث معَ الله -عزَ وجل- في النهار!.. فنحن نحتاجُ إلى صلاة الجماعة، ونحتاجُ إلى صلاة الليل.. وطوبى لمن جمعَ بينهما في صلوات الفجر!.. بعض المؤمنين يأتي في ظُلمة الليل إلى المسجد، يقف على الباب يناجي ربه مناجاة خفيقة، قائلاً: (إلهي!.. عبيدكَ ببابك، مسكينكَ ببابك.. البيتُ بيتك، والعبدُ عَبدُك.. وها أنا ذا بينَ يديك، تصدق علي).. ثم يدخل ويصلي صلاة الليل في زاوية، فإذا أذنَ المؤذن صلى في المُسلمين جماعة.. هذا الإنسان إذا دعا، لا يُرد دعاؤه، لأنه دعا: بعد مناجاة -مأثورة أو غير مأثورة-، وبعد الصلاة جماعةً، وفي المسجد، وبينَ الطلوعين، حيث تُقضى الحوائج العظام.. لذا، الذي لهُ حاجة عظيمة عندَ اللهِ -عزَ وجل- فليسأل ربهُ في هذا الوقت؛ فإنه يعطى ما لا يخطر ببال بشر.

الخلاصة:

١- أن للصلاة حيثيتين: الإجزاء، والقبول، ولقد جعلَّ الله -عز وجل- التقوى شرطاً للقبول، وفرقٌ بين الإجزاء وبينَ القبول!.

٢- أن المؤمن يبتكر الأساليب المختلفة التي تجعل الروح تسري في هيكل هذه الصلاة التي يؤديها يومياً!.

٣- أن المساجد أماكن يُزارُ فيها رب العالمين؛ بالمعنى الكنائي، ومن لوازم هذه الزيارة استشعار المؤمن للرحمة الغامرة والضيافة الربانية في صلاة الجماعة.

٤- إنه لابد من إخلاص النية لله جل وعلا عند بناء المسجد، فرب العالمين لا ينظر إلى الأبنية بل إلى النوايا.

٥- أن لعمارة المساجد مصداقاً مادياً ببذل المال لبنائه أو المساهمة فيه، ومصداقاً معنوياً بتوقيره ومراعاة آدابه .

٦- أن من مصاديق العمارة المعنوية للمساجد: اجتناب اللغو، والاشتغال فيه بالطاعات صلاة ودعاءً وقراءة وتأملاً.

٧- أن رب العالمين يُحبُ أن يُعبد علناً، وسراً.. والذي يُتقن عبادةَ ربهِ في الخلوات، هو الذي يتقنها في الجلوات.

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.