Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

– إن ليلة الجمعة هي ليلة الإنابة إلى الله عزوجل ، والمؤمن في هذه الليلة لا يرضى إلا أن تكون له محطة مع رب العالين وإن قصرت ، (إذا رق القلب، وجرى الدمع.. فدونك!.. دونك!.. فقد قصد قصدك)..
وهذه الليلة هي ختام ما بدأنا من برامج وأحاديث ، وكان موضوعه العام حول السفر إلى الله تعالى: معالمه ، موانعه ، عقباته ، مقصده..
ثم قلنا أنه من باب تقوية الارتباط برب الأرباب لابد من إتقان الصلوات اليومية ، إذ أن الصلاة هي عمود الدين ، وهي أساس أي عمل للإنسان ، ومن هنا نلاحظ أن الإنسان كلما ارتقى في صلاته كلما انعكس ذلك على سلوكه وتصرفاته ، كما قال الإمام علي (ع): (واعلم أنّ كل شيء من عملك تبع لصلاتك ، فمَن ضيّع الصلاة فإنّه لغيرها أضيع).. والذي لا يتقن صلاته فإنه لا يتقن الارتباط بربه ، ومن لا رابطة له بربه فإنه إنسان معلق بين السماء والأرض ، وإنسان منقطع الصلة ، خيمته لا عمود لها ، وطائر لا جناح له ، فلا يطير ، ولا معراج له..
ويبدو أن الأمر يحتاج إلى دورة مكملة ، وغاية ما نتكلم هذه الليلة حول الفاتحة والسورة ، وأما الركوع والسجود والتشهد والتسليم والتسبيحات وما إلى ذلك ، فنسأل الله تعالى أن يوفقنا له لاحقاً بمنه وكرمه!..

– إن هذا الحديث كله في جانب وهو حديث نظري ، أنا أتكلم ولساني يتحرك ، ومن آيات الله عزوجل اختلاف ألسنتكم وألوانكم ، والأفكار تدور في رأسي وتترتب وتأخذ من الذاكرة القديمة ومن الذاكرة الحديثة وتولف الأفكار فيما بينهما ، ثم تصدر الأوامر إلى الفم والشفتين واللسان والفكين ، وإذا بأصوات تصدر من فمي تنتقل عبر هذا المكبر -وهو أيضاً من آيات الله أن يضخم هذا الصوت- وهي عبارة عن أمواج في الهواء تضرب طبلة الأذن بشكل غير مباشر ، وهنالك قناة متعرجة في آذاننا تخفف من حدة الصوت ، ثم هذه الطبلة وهي غشاء بسيط -كغشاء الطبل العادي- تتحرك ، ثم تنتقل إلى العظيمات الصغيرة الثلاث ، وبعد ذلك تبدأ المعجزة الكبرى!.. ذبذبات عصبية لا ترى بالعين تنتقل من الأذن إلى المخ ، ثم المخ يحلل ويفك هذه الرموز ليستوعب الكلام يا له من عالم عجيب غريب!.. أنا أتكلم وأنتم تسمعون ، وبين كلامي واستماعكم الحركات المذهلة ، وكل فصل من هذه الفصول معجزة من رب العالمين!..
وغاية ما في الأمر أن يتحول الكلام إلى معلومات للمستمع ، فهذا قيمة هذه الدورات في كل المحاضرات في التاريخ وكل خطب النبي (ص) وأمير المؤمنين (ع) ، أفكار من الرأس إلى الرأس.. ولكن بعد ذلك تبدأ العملية الأصلية ، والبعض يقتنع بحضور هذه المجالس والحال بأن هذه المجالس هي الخطوة الأولى وأمامنا خطوات كثيرة ، أهمها أن تنقدح في نفوسنا الهمة لوضع الخطوة الأولى على الطريق ، فالذي وضع رجله على الخطوة الأولى فقد فاز فوزاً لا أقول فوزاً عظيما لأن الفوز العظيم هو الوصول..
أحدهم قرأ العرفان النظري والعملي ولكنه لن يتقدم خطوة حتى تكتمل عنده الصورة!.. وهذا هو الشيطان الذي جاءه ليؤخره ويبقيه في الخطوة الأولى إلى آخر عمره!..
فهو يريد المزيد حتى يضع رجله على الطريق ، والذي يفكر بهذا المنطق فإنه لن يصل إلى شيء ، شعارنا دائماً وأبداً : (من عمل بما علم رزقه الله علم ما لا يعلم).. أمامه إنارة بمقدار متر ويقول لابد من هذا الكشاف لينير لي عشرة أمتار حتى أمشي!.. لماذا والخطوة واضحة ولو أنه تحرك بمقدار خطوة فإنه سيأتيه المدد ويضيء له للخطوة اللاحقة!..
فالإنسان إذا زهد في هذه الدنيا الزهد الصحيح لا الخاطئ ، حيث رأى الدنيا في عينه صغيرة ، ولا يمد عينيه إلى متاع الآخرين ، كما يقول تعالى :{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا }..إذا رأى قصور أهل الدنيا كالأكواخ لا فرق بينها من حيث الوقاية من الحر والبرد ، ورأى أن لذائذ الدنيا متقطعة ومتصرمة لا دوام لها ، فليعلم أنه على خير ، ومن هنا تبدأ الخطوة التي تنتهي إلى لقاء رب الأرباب!..
وهي لحظة يعزم الإنسان فيها على تغيير مساره ، فليلة القدر ليست بدعاء الجوشن ورفع المصاحف وإن كانت ليلة قدر ، هنيئاً لمن جعل ليلة قدره الواقعية مطابقةً مع ليلة القدر الشرعية ، فكل ليلة الإنسان بإمكانه أن يجعلها ليلة قدر!..كذلك اللص الذي كان ينتقل من سطح إلى سطح وإذا به يسمع تالي القرآن : {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ }..فهو أجاب وقال بلى قد آن!..وتحول ذلك اللص إلى عابد من العباد ، تلك كانت هي ليلة قدره..
والفرصة متاحة للجميع ، وقد ورد في هذا المجال هذا المضمون المدهش : قال الباقر (ع) : ألا إنّ الله أفرح بتوبة عبده حين يتوب من رجلٍ ضلّت راحلته في أرض قفر وعليها طعامه وشرابه ، فبينما هو كذلك لا يدري ما يصنع ولا أين يتوجّه حتى وضع رأسه لينام ، فأتاه آت فقال له : هل لك في راحلتك ؟.. قال : نعم ، قال : هو ذه فاقبضها ، فقال الباقر (ع) : والله أفرح بتوبة عبده حين يتوب من ذلك الرجل حين وجد راحلته .
أي لو أن الإنسان في صحراء وفي ظلام الليل وقد اشتد به الجوع والعطش حتى أوشك الموت ثم رأى سيارة أو طائرة إنقاذ تنتشله من هذا المصير ، فهل يمكن تصور مدى فرحه ؟!..إن رب العالمين أشد فرحاً بتوبة عبده!..
أنا أقول: يا ربي ما قيمتنا نحن المذنبين حتى تفرح هذا الفرح!.. وفي هذا دعوة إلى الجميع أن يغير مساره ، وليس المطلوب أن يغير الإنسان من حياته الخارجية فليستمر الجميع على حاله ، وإنما نحن دعوتنا إلى الحركة الأنفسية لا الآفاقية ، ليس ترك الدنيا إنما تغيير القلب الذي يتعامل مع الدنيا ، فالدنيا هي دنيا سفلى ، أن يتعالى الإنسان على الدنيا بحيث كما يقول علي (ع) : (عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم)..
ومن المناسب العمل بهذا الاقتراح وهو الاستماع لهذه الحلقات واستعادة تذكرها لعل الله يفتح شيئاً!..

– قلنا في قوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أن الإنسان يحصر عبادته واستعانته بالله عزوجل..والإنسان إذا ترقى في عبوديته لله عزوجل ، فإن العبادة تصير عنده أمرا مستساغا في كل شؤون حياته ، ولا يمن على الله تعالى بعبادته..
وقلنا بأن معظم المعاصي -هذه الأيام- هي معاصي الشهوات ، ومبدأ الشهوات هو العين ، هذه الكاميرا التي إذا تحكم الإنسان في عدستها فإنه يصل إلى درجات عليا ، وتتحقق فيه هذه المقولة : (غضوا أبصاركم ترون العجائب)..فالذي يغض بصره ولا يملأ عينه بالصور المشغلة ، يصل إلى درجات عندما يغمض عينيه يرى ما لا يراه الآخرين ..
فما الذي جعل إمامنا موسى بن جعفر (ع) يشكر الله تعالى على نعمة السجن؟.. فهو عندما كان طليقاً كان لديه انشغاله بمراجعات الناس ، وأما في السجن فقد رأى فيه خلوة مع رب الأرباب..
وما الذي جعل يوسف يصل إلى هذه الدرجات العليا؟.. فمن المعلوم أن هنالك الكثيرون في كل عصر من الذين التقوا بملكات في الجمال ولكنهم قاوموا هذه الفتنة خوفاً من رب العالمين.. وحياة يوسف ليس فيها جهاد بل كان على خزائن الأرض وفي بلاد السلطان وهو له سلطته.. فأين جهاد يوسف؟..أن جهاد يوسف ليس في ترك زليخا فقط بل أيضا ما يفهم من قوله :{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ }.. فلم يقل أفضل ، ولم يقل أكثر مصلحة لي ، ولو كان كاذباً -معاذ الله- لطرد من رحمة الله تعالى وليس فقط من النبوة.. فالسجن أحب إلى يوسف لأن يوسف في السجن مشغول بما هو أجمل من زليخا ، فإذن ليس هنالك مشكلة!.. حيث خلصه الله تعالى من هذه المرأة الفاتنة ، وعوضه بما هو أرقى وأجمل!.. فعظمة يوسف (ع) تكمن فى هذا الباطن المنشغل بالله تعالى الى درجة جعل السجن مع محبوبه احب اليه من القصر مع غيره!.
ومن باب فتح القلوب على ذكر النبي وآله نذكر هذه الرواية : قال الصادق (ع) : استأذنت زليخا على يوسف فقيل لها : يا زليخا !.. إنا نكره أن نقدم بك عليه لما كان منك إليه ، قالت : إني لا أخاف مَن يخاف الله ، فلما دخلت قال لها : يا زليخا!..ما لي أراك قد تغيّر لونك ؟.. قالت : الحمد لله الذي جعل الملوك بمعصيتهم عبيداً ، وجعل العبيد بطاعتهم ملوكاً ، قال لها : يا زليخا !… ما الذي دعاك إلى ما كان منك ؟..
قالت : حُسن وجهك يا يوسف !.. فقال : كيف لو رأيت نبياً يقال له محمد يكون في آخر الزمان ، أحسن مني وجها ، وأحسن مني خلقاً ، وأسمح مني كفّاً ؟.. قالت : صدقت ، قال : وكيف علمت أني صدقت ؟.. قالت : لأنك حين ذكرته وقع حبّه في قلبي ، فأوحى الله عزّ وجلّ إلى يوسف : أنها قد صدقتْ ، وإني قد أحببتها لحبّها محمداً (ص) ، فأمره الله تبارك وتعالى أن يتزوجها .
وعليه فإن الإنسان الذي يرى بصره هذا من أدوات رب العالمين ، فإنه عندما يغير جهة هذه الكاميرا لا يحس بمنة على الله عزوجل وهكذا أذنه.. لانه تصرف فى الشيئ على وفق ما يريده مالكه.

– إن الذي يستمر في المجاهدة في طريق الطاعة والعبودية – وخاصة في وجود ظروف مشاكسة ، كالذين يعيشون في بلاد الغرب ، أو في بلاد المسلمين ولكن في ضمن ظروف إثارة وإغراء – فإنه تتجلى له بعض صور عالم الغيب..
نحن لسنا في مقام إنكار الكرامات ، ولكن الكلام في الابتذال السوقي وإساءة الاستفادة منها ، والقرآن الكريم عرض لنا صوراً من هذه الكرامات ، كذلك الذي عنده علم من الكتاب ، وأحضر عرش بلقيس في أقل من طرفة عين ، وذلك العفريت الذي كان يريد أن يحضره قبل أن يقوم سليمان من مقامه..
فالذي يمشي في طريق العبودية يعطى بعض الجوائز والنفحات ، مثل: المنامات الصادقة ، أو يرى بعض الصور الجميلة ، أو يشم بعض الروائح الطيبة ، ولكن لا ينبغي أن ينشغل بها عن الله عزوجل الواهب لهذه الأمور فإنه لا يخلو من سوء ادب!. فلو أن إنساناً كان عنده موعد مع السلطان للجلوس والحديث معه ، ولكنه إذا ذهب إلى مجلسه ينشغل بما يقدم من الطعام والشراب والورود وغيره ، فهذا يعلم قطعاً أنه إنسان قليل الأدب ، ولا يحترم حضرة السلطان ، ويتضح أن غرضه ليس هو اللقاء بالسلطان والأنس بالحديث معه!..
إذن، العالم مليء بالأسرار ، وهذا الجو مليء بالأمواج المغناطيسية وغيره ، ولكن لا تعرف إلا عن طريق الجهاز اللاقط.. والإنسان المؤمن إذا توجه إلى الله عزوجل ، وصمد في طريق العبودية – لا طلباً للكمالات والمكاشفات والرؤى وما شابه ذلك – تأتيه بعض النفحات ، ومن أهم هذه النفحات هو الإحساس بالارتياح الباطني ، فهذه ضالة الغرب والشرق!.. فالذي يستمتع بالنساء يريد اللذة والسعادة!..والذي يدمن المخدرات يريد اللذة والسعادة!.. وحتى أصحاب السجائر عندما تسأل عن سبب إدمانهم على التدخين ، يقول أنه يرتاح في شرب السيجارة!.. وهكذا فكلنا أصحاب متع وسعادة ، يقول الشاعر:

كل من في الوجود يطلب صيداً *** إنما الاختلاف في الشبكات

كلنا صيادون نريد أن نصيد السعادة والراحة ، ولكن ما هو الطريق إلى ذلك؟.. وهنا وقع الكثيرون على قارعة الطريق من دون وصول!..

– إن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها أن السعادة من مواصفات القلب..فالقلب هو الذي يفرح ويحزن ، ولا يوجد هنالك شيء في الخارج اسمه حزن أو سعادة ، نعم يوجد منظر حزين أو منظر مفرح..
ومادمنا اعتقدنا أن القلب هو الأداة التي يتحرى بها إدراك السعادة ، فلابد أن نبحث عما يتناسب معه ، اي ما يتسانخ مع عالم القلب اى العالم الباطني ، فليست السعادة في لبس الحرير الفاخر أو تناول الطعام اللذيذ أو الاستماع إلى الأغاني المطربة ، أو غيرها من الأمور التي ليس لها شأن في إدخال السعادة على القلب ، فالقلب له عالم آخر ، وما هو الجميل فى عالم الخارج لا يوجب الجمال والارتياح فى عالم الباطن .. فلنبحث اذن عن مصدر آخر للسعادة!..
ذهبنا إلى منظر يقال بأنه من أجمل بقاع الأرض في العالم ، فقد كان عبارة عن نخيل باسقة وماء وأشجار وطيور ، هو حقيقة منظر جميل ولكن الذى نغص عليما الامر هو علمنا بانه سنغادر المكان بعد قليل ، أنا بعد لحظات أسافر وأترك هذا المنظر فما الذي دخل في جوفي ، وما الذى اتحد مع وجودي؟!..
فجمال الطبيعة للطبيعة ، جمال الطير للطير ، جمال الوجه للآخرين ، وما وجه اتحادي انا بكل هذه الأمور!..
فلنبحث عن مصدر لا ينضب للسعادة ، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المصدر في قوله تعالى: {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}..ألا أداة تنبيه ، وتقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر ، والجمع المحلى بأل (القلوب) يفيد العموم..وهذه الآية شأنها شأن آيات التكوين فلا تخلف فيها ، أي لا يوجد قلب يطمئن بغير ذكر الله تعالى..
ثم أن تلذذ القلب بالأمور المادية تلذذ لا يعتد به وسرعان ما يزول ، فالحواس الخمس تبعث إشارات عصبية إلى المخ فيلتذ لذة آنية لا دوام لها..
أحد العلماء كان يستنكر على اهتمام الناس المبالغ في لذة الطعام ويقول:
أنه قبل أن تؤكل اللقمة لا لذة فيها ، وبعد أن تبلع أيضاً لا لذة فيها ، بل على العكس طعمه سيئ وكله مرارة وغازات وتجشؤ وقد يتقيؤه الإنسان!.. ولذته هي لحظات مروره على اللسان ، ولولا حليمات التذوق في اللسان لاستوت جميع الأطعمة والاشربة على وجه الارض!..فهناك مطاعم لها آلاف الفروع في الشرق والغرب من أجل فقط تمرير هذه اللذائذ على اللسان لثوان!..
وعليه فإن هذه اللذائذ محدودة ، وإذا أمكن أن يصل الإنسان عن شيء يمكنه أن يدخل اللذائذ في الروح مباشرة ، فإن هذا الشيئ الملذ لا يقاس بتلك الذبذبات المؤقتة التي تنقلها الحواس..
وهذا الذي جعل حنظلة يخرج صبيحة ليلة زفافه للقتال مستعجلاً وهو مجنب ، ويترك لذة الزوجية والمعاشرة وشهر العسل ، فلما قتل غسلته الملائكة ولهذا سمي بغسيل الملائكة..
نعم هذه لذة عالم الباطن ، والإنسان عندما يصل إلى درجة من درجات القرب ، فإنه يعيش هذا التجلي الإلهي ، حيث يريه رب العالمين شيئاً من ذلك الجمال المحجوب عن عامة الخلق..
وشهر العسل الذى يعيش فى احلامه الكثيرون هو مرة في العمر ، ويحتاج إلى مقدمات ومؤخرات وقد لا تتحق تلك اللذة المرجوة!.. بينما لذائذ الليل لا تحتاج إلى كل ذلك ، وأولياء الله يحصلون على تلك اللذائذ بكل سهولة ، ففي أي مكان يفرش مصلاه في الطائرة ، اوفي البر في البحر ، ويقول الله أكبر ويعيش ما لا يدركه عامة الخلق ، وقد أشار علي (ع) في وصف أولياء الله إلى حالهم حيث قال عند تلاوته {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ}: (إنّ الله سبحانه جعل الذكر جلاءً للقلوب، تسمع به بعد الوَقْرَة، وتُبْصِرُ به بعد العَشْوَ، وتنقاد به بعد المُعاندة.. وما بَرِحَ لله -عَزّت آلاؤه- في البُرهة بعد البرهة، وفي أزمان الفترات، عبادٌ ناجاهم في فكرهم، وكلّمهم في ذات عقولهم؛ فاستصبحوا بنور يقظةٍ في الأسماع والأبصار والأفئدة.. يذكّرون بأيام الله، ويُخوّفون مقامه، بمنزلة الأدلة في الفلوات.. مَن أخذ القصد حمدوا إليه طريقه، وبشّروه بالنجاة.. ومَن أخذ يميناً وشمالاً، ذمّوا إليه الطريق، وحذّرُوه من الهلكة .
ولعل هذا الشعرخير ما يعكس هذه الحالات :

حبيب غاب عن عيني وجسمي *** وعن قلبي حبيبي لا يغيب
او قوله :
خيالك في عيني وذكرك في فمي *** وحبك في قلبي فأين تغيب؟!..

فهذا هو شهر العسل المستمر الذي لا نهاية له..

– ثم إن الملاحظ أن التلذذ البشري لا دوام له ، إذ كلما تقدم الإنسان في العمر فإن هذا التلذذ في طريقه إلى الأفول.. ومن المعلوم أن رب العالمين جعل أرقى اللذائذ هي لذة النساء ، وهي لذة ثوان أو دقائق ، وهذا بعكس اللذائذ المعنوية التي تزداد تألقاً كلما كبر الإنسان ، لأن الضرة التي كانت تنافس روحانيته – وهي لذائذ الدنيا- قد ضعفت.. فالإنسان كلما ضعفت عنده الرغبة في اللذائذ الدنيوية ، وقل ميله للنساء وللطعام ، كلما ازدادت روحه تألقاً..
أضف إلى أن الإنسان كلما رأى أن نهايته قريبة للقاء الله تعالى فإنه يجتهد أكثر، مثله كالفارس الذي يركب جواده ، فهو يسير في أول الأمر بشكل هادئ ، ولكنه لما يوشك الوصول إلى نهاية السباق ، فانه يضاعف جهدة ليقطع شريط السباق قبل الاخرين ليفوز بالجائزة العظمى!
ولهذا فالمؤمن في أواخر عمره -في الأربعين والخمسين- يزداد نشاطاً في العبادة ، وهذا هو الملحوظ عند مراجع التقليد ، فأحدهم يبدأ نشاطه الاجتماعي والسياسي وغيره في سن السبعين فما فوق ، حيث يعيش قمة الحيوية والتركيز مع كبر سنه ، وذلك لأن هنالك مصدر سعادة في الباطن يدفعه لان يمارس فى الحياة ما لا يماسه الشباب منهم .
و لكنه مع الأسف نحن أغفلنا هذا الجانب ، وحرمنا هذه الأمور!..و مع ذلك أقول: لا ينبغي التردد والتأخير ، فكل وقت هو الوقت المناسب للخروج من هذا الواقع..
كنت أعرف أحدهم يقول: أنه جرب كل اللذائذ حتى ملها ، وكان كل فترة قصيرة يغير فتاة أحلامه حتى وصل إلى درجة الملل حتى من النساء ، ومات وهو يتحسر على الحياة الهانئة السعيدة!..

– ومما يُستوحى من هذه الآية أيضاً: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.. هو العتاب الإلهي الشديد!.. فالإنسان يستعين بكل أحد إلا برب الأرباب فإنه غافل عنه تعالى!.. في حين أن المؤمن مدعو في هذه الحياة أن يجمع بين السعي والالتفات إلى مسبب الأسباب.. ومن المعلوم أن إبراهيم (ع) لم يصبح فى درجته التى يتمناها الكثيرون اى مقام الخله جزافاً ، فقد مر بعدة ابتلاءات ، منها تحطيمه للأصنام ، وهمه بذبح ولده إسماعيل ، وتركه لذريته في وادٍ غير ذي زرع.. ولعل من أبرز هذه الابتلاءات ، هو تسليمه المطلق لله عزوجل عندما أرادوا رميه بالمنجنيق في النار ، ورفضه استمداد العون من الملائكة ، وحتى أن يدعو لنجاة نفسه ، حيث قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي!..
ومن هنا من المناسب عند الحاجة قراءة هذا الدعاء :
(يا سبب من لا سبب له!.. ويا مسبب كل ذي سبب!.. ويا مسبب الأسباب من غير سبب!.. سبب لي سبباً لن أستطيع له طلبا!..).. ثم تقول: (إلهي أنت الذي قلت في كتابك اذكروني أذكركم ، ف! ها نحن ذاكروك كما أمرتنا ، فاذكرنا كما وعدتنا!..).. أو (دعوتك كما أمرتني فاستجب لي كما وعدتني!..)..
ومن الجميل قراءة الأدعية التي فيها استشهاد بالقرآن الكريم ، ومن أدعية الاستشهاد هذا الدعاء : (اللهم إنك قلت في كتابك:{وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ } ، فمن فضلك أسأل!.. ومن عطيتك أسأل!.. ومن يدك الملأى أسأل!.. أي أن الإنسان يعلق قلبه بربه تعالى ، ثم لا ضير بعد ذلك لو أنه ذهب إلى الواسطة ، لأن العالم عالم الأسباب ، والله تعالى أبى أن يجري الأمور إلا بمسبباتها..
وفي استعمال صيغة الجمع في قوله تعالى: (نعبد) ، فلم يقل: (أعبد) دلالة تأدبية مع الرب تعالى ، وإفادة على استحباب جعل الإنسان نفسه مع المؤمنين حتى لا يكون متميزاً..

– وفي قوله تعالى :{غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} ، إشارة إلى الغضب الإلهي.. ومن المخيف أن هذا الغضب لا يعلم له معادلات معينة ، وليس هنالك ما يحدد وقت حلوله على العبد ، ومن هنا فإن أولياء الله يعيشون هاجس الخوف من سوء العاقبة إلى أخر لحظة من حياتهم.. ومن المعلوم أن هذه الدنيا دار ابتلاء ، فالإنسان إلى أن يوسد حجر اللحد كم يمر في اختبارات وامتحانات ، والشياطين كم تكيد له إلى أن يصل؟!.. والمسألة ليست متوقفة على معصية كبيرة أو صغيرة ، فقد يكون إنسان على أكمل وجوه الطاعة ، ولكنه بزلة واحدة يستوجب الغضب الإلهي!.. ومن مواطن حلول هذا الغضب هو بعد المواسم العبادية: في الحج ، وشهر رمضان ، وأيام عزاء الحسين (ع) ، وبعد استماع الموعظة وتمام الحجة على العبد..
ولهذا نلاحظ في مناجاة إمامنا السجاد (ع) ، عند ذكره لموجبات الطرد الإلهي ، أنه ذكر أموراً ليست بالجرائم العظيمة ، مثل عدم حضور مجالس العلماء ، والألفة بمجالس البطالين!.. فحضور مجالس العلماء ليس بأمر واجب!..إلا أن من الطبيعي أن الذي يألف مجالس أهل الغفلة واللهو ، أن يتعرض لقسوة القلب ، وبالتالي فإنه يحرم من اللقاء الإلهي!..
وعليه، فإن المؤمن في خوف دائم من نفسه الإمارة والشياطين المتربصة ، مما يجعله يلوذ بالحصن الإلهي في كل أحواله ، ونختم حديثنا في هذه الدورة بهذا الحديث الذى تقشعر له الجلود :
قال الصادق (ع) : كان رسول الله (ص) في بيت أم سلمة في ليلتها ، ففقدته من الفراش ، فدخلها في ذلك ما يدخل النساء، فقامت تطلبه في جوانب البيت حتى انتهت إليه وهو في جانب من البيت ، قائمٌ رافعٌ يديه يبكي وهو يقول : ” اللهم !.. لا تنزع مني صالح ما أعطيتني ، اللهم !.. لا تشمت بي عدوا ولا حاسدا أبدا ، اللهم !.. ولا تردني في سوء استنقذتني منه أبداً ، اللهم !.. ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً ” .. فانصرفت أم سلمة تبكي حتى انصرف رسول الله (ص) لبكائها فقال لها : ما يبكيك يا أم سلمة ؟!.. فقالت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله !.. ولِمَ لا أبكي وأنت بالمكان الذي أنت به من ال! له ، قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ، تسأله أن لا يشمت بك عدوا أبدا ، وأن لا يردّك في سوء استنقذك منه أبدا ، وأن لا ينزع منك صالحا أعطاك أبدا ، وأن لا يكلك إلى نفسك طرفة عين أبدا ؟.. فقال : يا أمّ سلمة وما يؤمنني ؟.. وإنما وكّل الله يونس بن متى إلى نفسه طرفة عين وكان منه ما كان . وقد كان النبي (ص) وهو المنزه المعصوم يدعو بهذا الدعاء وهو يبكي :
اللهم !.. لا تنزع مني صالح ما أعطيتني ، اللهم !.. لا تشمت بي عدوا ولا حاسدا أبدا ، اللهم ولا تردني في سوء استنقذتني منه أبداً ، اللهم ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً !..

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.