Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

معالم الأنس..
إن الإنسان بطبعه، يحتاج إلى من يأنس به، فكل إنسان على وجه الأرض، لا يمكنه أن يعيش من دون أنس، سواء كان هذا الأنس بالحق أو بالباطل!.. ولو تُرك الإنسان في مكان لوحده، من الممكن أن يصاب بعد فترة بلوثة في عقله.. وبما أن الإنسان دائماً يبحث عن أنيس؛ فإن الشريعة جاءت لتحدد لنا معالم الأنس.

قلب المؤمن..
إن هناك رواية تصف قلب المؤمن بأنه عرش الرحمن، هذه الرواية هي من أروع ما قيل حول القلب!.. روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (القلب حرم الله، فلا تُسكن حرم الله غير الله)؛ كلام قصير؛ ولكنه كلمة الفصل في هذا المقام!.. أي كما أن الحرم المكي، وحرم الأئمة؛ لا يدخل فيه من ليس بأهل، كغير المسلم مثلاً؛ القلب كذلك.. لذا، فإن المؤمن لا يعطي من قلبه لكل أحد، ولا يحب كل أحد، ولا يستأنس بكل أحد، حتى وإن كانوا من المقربين.. ولهذا السبب بعض المؤمنين تفشل حياته الزوجية؛ لأنه يعيش مع امرأة لا يأنس بها، لكونها امرأة دنيوية: همها الدنيا، ولا تعرف الحرام، وترتكب ما لا يجوز؛ فمن الطبيعي في هذه الحالة، أن يعيش المؤمن مع زوجته تكلفاً.. وهذا الأمر وقع في حياة الأنبياء؛ كنبيّي الله: لوط ونوح (عليهما السلام) هذان النبيان عاشا مع امرأتين منحرفتين بنص القرآن الكريم، يقول تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾.. هذا التعبير جداً قاسٍ؛ ولكن هكذا شاء رب العالمين!..

موجبات الأنس..
إن روايات أهل البيت (عليهم السلام) روايات واقعية، فقد ذكرت أن الأنس في ثلاث، ولكن هناك روايات أخرى متعددة، كأنها تقول: الأنس في أربع لا في ثلاث!.. الثلاث هي في عالم الدنيا، كالرواية المعروفة التي قال فيها النبي (صلی الله عليه): (حُبّب إلي من الدنيا ثلاث: النساء، والطيب، وقرة عيني في الصلاة)؛ فالطيب والنساء؛ في الأرض.. أما قرة العين في الصلاة؛ فهذا أمر آخر..

أولاً: الأنس الدنيوي.. روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (الأنس في ثلاث: في الزوجة الموافقة، والولد البار، والصديق المصافي)..

١. الزوجة الموافقة: أي موافقة على طاعة الله ورسوله؛ لا بمعنى الطاعة العمياء.

٢. الولد البار: ليس كل ولد يقرّ عين أبيه؛ فبعض الأولاد وبال على آبائهم في الدنيا، فكيف في الآخرة؟!.. ولكن الولد البار، الإنسان يأنس به؛ فهنيئاً لمن كان له ولد بار يأنس به!..

٣. الصديق المصافي: أي الذي يكنّ لك الصفاء، لا الصديق المخادع!.. بعض الأصدقاء يريدك لنفسه، لا يريدك لنفسك، ولهذا بعض الصداقات الحميمة تنقطع، عند استغناء أحدهما عن الآخر!.. مثلاً: عندما يكون الإنسان موظفاً كبيراً في الدولة، ويمكن الاستفادة من وجوده؛ تكون ديوانيته عامرة؛ طلباً للحوائج.. أما عندما يتقاعد، أو تنتهي دورته النيابة مثلاً، ويصبح مواطناً عادياً؛ فإن الناس تهرب منه، وقد لا تسلم عليه.

ثانياً: الأنس المعنوي.. إن الأئمة (عليهم السلام) يفتحون بابا رابعاً للأنس، عن الإمام العسكري (عليه السلام): (من آنس بالله؛ استوحش من الناس).. المؤمن يستأنس إذا استوحش الناس، ويستوحش إذا استأنس الناس؛ أي أن مزاجه عكس عامة الناس.

١. الاستئناس: إن عامة الناس يستوحشون من البيت الفارغ، أما المؤمن فلا يستوحش، الأمر سيان بالنسبة له: إن كان الأهل موجودين أنعم بهم وأكرم؛ يؤنسهم، ويستأنس بهم!.. وإن سافروا وبقي وحده في المنزل؛ فإنه لا يستوحش أبداً.. يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (ما مِن مؤمنٍ إلّا وقد جَعلَ اللّه‏ُ لَهُ مِن إيمانِهِ اُنْساً يَسكُنُ إليهِ، حتّى لو كانَ على قُلّةِ جَبلٍ لَم يَسْتَوحِشْ)؛ ولكن هذه الدرجة قلّ من وصل إليها!..

-(ما مِن مؤمنٍ إلّا وقد جَعلَ اللّه‏ُ لَهُ مِن إيمانِهِ اُنْساً يَسكُنُ إليهِ).. إن كلمة “أنس” عادة تطلق على الزوجة، يقول تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾؛ المؤمن يأنس بزوجته أيضاً، فرسول الله (صلی الله عليه) كان يأنس بسيدتنا خديجة أم المؤمنين (عليها السلام)؛ ولكن كان لرسول الله (صلی الله عليه) أنس آخر، كان يقول: (إن لي مع الله حالات، لا يحتملها ملك مقرب، ولا نبي مرسل).

-(حتّى لو كانَ على قُلّةِ جَبلٍ لَم يَسْتَوحِشْ).. إن المؤمن لو كان على قمة أعلى جبل في العالم؛ لا يستوحش؛ لأن له أنساً بخالق الأنس.. لهذا هناك بعض المؤلفات لعلماء كبار، تم تأليفها في السجن، رغم أن السجين -عادة- يبتلى: بالضيق، والقلق، والاكتئاب؛ ولكن العلماء عندهم راحة بال واطمئنان!.. ككتاب “اللمعة الدمشقية” الذي ألفه الشهيد الأول (رحمه الله) وهو في سجن قلعة الشام.. هكذا يجب أن يكون المؤمن دائماً!..

٢. الاستيحاش: إن وحشة المؤمن قد تكون وهو حي في الدنيا، وقد تكون وهو ميت في القبر..

أ- في عالم الدنيا: إن المؤمن الذي يضطر لحضور الأعراس؛ يرى نفسه مستوحشاً؛ لأن مثل هذه المجالس: إن كان فيها حرام؛ فهذه مصيبة!.. وإذا كانت حلالاً؛ فإن الناس يكونون في غفلة من أمرهم.. ولهذا يدخل آخر القوم، ويخرج أول القوم.. والمؤمن الذي عدوه أجواء الغفلات؛ فإنه لا يستسلم: فإن كان على مائدة طعام في مطعم، أو في عرس، أو ما شابه؛ بإمكانه أن يُغير الجو!..

ب- في عالم الموتى: من الممكن أن يكون هناك معنى آخر للاستيحاش؛ ألا وهو عالم الموتى..

* الموت: إن بعض الناس يخاف من كل كلمة تذكره بالموت، مثل: الموت، الجنازة، المغتسل، المقبرة، غرفة الإنعاش؛ فهذه الكلمات مخيفة للبعض.. ولكن المؤمن يستأنس بها، بل بعض المؤمنين سياحته في آخر الأسبوع، هي في الذهاب إلى قبور الموتى.

* القبر: إن الناس يستوحشون بعد أن يدخلوا القبر؛ ولكن المؤمن يستأنس!..

* البرزخ: إن المؤمن له أنس شديد في عالم البرزخ، كما نسمع من الروايات.. فالطريق الوحيد إلى عالم الموتى في البرزخ، هو: الروايات، والمنامات الصادقة.. يقول أحد المراجع، وهو من ذرية رسول الله (صلی الله عليه): عندما أدخلونا عالم البرزخ، انتابتني حالة من الوحشة -هذه الوحشة قهرية، فالإمام المعصوم بكى لهول المطلع وفراق الأحبة عند الموت، كما روي عن الإمام الرضا (عليه السلام): (لما حضرت الحسن بن علي (عليه السلام) الوفاة بكى، فقيل: يا بن رسول الله!.. أتبكي ومكانك من رسول الله (صلی الله عليه) مكانك الذي أنت به، وقد قال فيك رسول الله (صلی الله عليه) ما قال، وقد حججت عشرين حجّةً ماشياً، وقد قاسمت ربك مالك ثلاث مرات حتى النعل والنعل؟.. فقال (عليه السلام): إنما أبكي لخصلتين: لهول المطّلع، وفراق الأحبة)- وكنت في وحشة شديدة، وإذا بأئمة أهل البيت جميعاً، يأتون لزيارتي -طبعا أرواحهم البرزخية- يقول: ومع ذلك بقي شيء من الوحشة، هذه الوحشة أزيلت تماماً عندما زارتني جدتي فاطمة الزهراء (عليها السلام).. هذا منام، ولكن في روايات أهل البيت (عليهم السلام)، ما يدل على هذه الحقيقة، خصوصاً زيارة أمير المؤمنين (عليه السلام) أليس هو القائل:

يا حار همدان من يمت يرني *** من مؤمن أو منافق قبلا

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.