Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

﴿فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾.. إن الغالب على سورة “الرحمن” ذكر الآلاء الإلهية، ولهذا تكرر هذه الآية إحدى وثلاثين مرة في السورة، فرب العالمين يذكّر الجن والإنس بهذه الآلاء.. ومن سورة “الرحمن” نفهم أن هناك قاسماً مشتركاً بين الإنس والجن، وهو أن الله -عز وجل- أنعم على الطائفتين، ويحاسب الطائفتين، ويؤاخذهما على تكذيبهما لآلاء الله -عز وجل- وكفران النعم.. فإذن، إن الجن كالإنس في أنهم مكلفون ومخاطبون، وإلا لما توجّه لحن الخطاب لبني آدم وللجان بصيغة واحدة ﴿فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾؛ ولو كان الهدف هو مطلق التذكير بالنعم، لذكر الملائكة، ولكن الملائكة تختلف حالها عن الإنس والجن!..
﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾.. إنها آيات ملفتة!.. فرب العالمين ينقلنا من الفرش إلى العرش؛ من الأرض إلى السماء: ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾؛ الشمس والقمر كعينة من عينات كواكب الوجود، يجريان بحساب دقيق، ولو خرجا عن مدارهما لاختل نظام المجموعة الشمسية على الأقل، يقول تعالى: ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾، ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى﴾؛ هذا في السموات.. أما في الأرض ﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾؛ النجم: النبات الذي لا ساق له، والشجر: النبات الذي له ساق.. والسجود هنا بمعنى؛ الطاعة لله -عز وجل-!.. فليس هناك شجرة تنبت جذورها إلى الأعلى وسيقانها إلى الأسفل!.. وعليه، فهي موجودات “منقادة للأمر الإلهي بالنشوء والنمو على حسب ما قدر لهما”.. فإذن، النباتات والأفلاك والمجرات؛ كلها في حال سجود.

الدرس العملي:
أولاً: وكأن الله -عز وجل- يريد أن يقول بلسان خفي: يا بني آدم!.. لا تكن أقل من الشجر، ولا تكن أقل من الشمس والقمر.. فكما أن هذه الموجودات تسير وتجري في المسار والفلك المحدد لها؛ لأنه لو خرج القمر عن مداره؛ لارتطم بالأرض.. فالذي يضمن سلامة القمر وسلامة الشمس، هو السير في المجرى الذي عينه الله -عز وجل- لها.. فيا بني آدم!.. أنت أيضاً رب العالمين رسم لك مداراً، وحدّد لك الطريق، وعرّفك من أين تبدأ وأين تنتهي!.. فالدين هو سبيلك في الحياة، وهو المدار الذي يجب أن تمشي فيه: فإن خرجت من المدار؛ تحطمت واحترقت.. وهذا الذي يجري لبني آدم: فالذين يتنكبون الطريق؛ هؤلاء يمسخون، ويختم على قلوبهم، وبعد ذلك لهم عذاب أليم.. فإذن، من أراد أن يجري في مدار صحيح، لابد أن يسير على وفق ما أمره الله -عز وجل-.
ثانياً: إن بني آدم له بعدان: بعد تكويني، وبعد روحي!.. والتي تخالف رب العالمين؛ هي الروح.. وأما البدن فشأنه شأن الشمس والقمر: العين تبصر، والأذن تسمع، والرئة تعمل منذ أن خلق رب العالمين الإنسان وإلى أن يموت، والقلب هذه المضخة لو توقفت عن العمل ثوان أو دقائق؛ لكان مصير الإنسان المقابر، فـ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾.. فيا بن آدم!.. لا تكن أقل من رئتك، ولا تكن أقل من قلبك!.. فهذا وجود مادي يفنى، ويطيع ربه هكذا؛ أما أنت بروحك تعصي رب العالمين؛ هذا ليس من الإنصاف!.. لذا، لابد أن نوفق بين الوجود التكويني، والوجود التشريعي.
﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾.. يقول صاحب تفسير الميزان: “المراد بالميزان: كل ما يوزن أي يقدر به الشيء، أعم من أن يكون عقيدة أو قولاً أو فعلاً.. ومن مصاديقه الميزان الذي يوزن به الأثقال، فظاهره مطلق ما يميز به الحق من الباطل، والصدق من الكذب، والعدل من الظلم، والفضيلة من الرذيلة، على ما هو شأن الرسول أن يأتي به من عند ربه.. وقيل: المراد بالميزان: العدل أي وضع الله العدل بينكم، لتسووا به بين الأشياء بإعطاء كل ذي حق حقه.. وقيل: المراد الميزان الذي يوزن به الأثقال؛ والمعنى الأول أوسع وأشمل.”.. إن الإنسان الذي يبيع بضاعة وينقص منها بعض الغرامات، التي لا وزن لها في عالم الوجود، يقول رب العالمين: ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾.. فالآية صريحة في التهديد، إذا خدع الإنسان أخاه المؤمن أو غير المؤمن في بضع حبيبيات من الحنطة والدقيق فويل له؛ فكيف إذا أخلّ بحقوق الناس معنىً؟!.. وكيف بمن قصّر في حق زوجته؟.. وكيف بالزوجة التي تقصّر في حق زوجها؟.. وكيف بالإنسان الذي يكسر القلوب؟.. وقد ورد في الحديث: (قلب المؤمن عرش الرحمن)؛ هذا العرش يهزه الإنسان بفعله!.. فإذن، رب العالمين يهدد الإنسان من أجل حبات الحنطة، والتطفيف في الكيل؛ فكيف إن كان هناك ظلم لإنسان؟!..
﴿أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ﴾.. إن التاجر -مع الأسف- عندما يرتفع رأسماله، يعيش حالة من حالات التبختر والغرور، ولكن علياً -عليه السلام- يقول: (يا معشر التجار!.. الفقه ثم المتجر، الفقه ثم المتجر، الفقه ثم المتجر.. والله!.. لربا في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل على الصفا، شوبوا إيمانكم بالصدق.. التاجر فاجر، والفاجر في النار؛ إلا من أخذ الحق وأعطى الحق).. يا له من تعبير لاذع!.. إذا كان هذا هو المقياس، أَوَ لا يتمنى الإنسان من ربه الكفاف، يقول: يا رب!.. اجعلني مستضعفاً أعيش الكفاف، ولا تجعلني من التجار الفجار؟!.. “كان أمير المؤمنين علي -عليه السلام- كل بكرة يطوف في أسواق الكوفة سوقاً سوقاً.. ومعه الدرة على عاتقه، وكان لها طرفان، وكانت تسمى السيبة، فيقف على سوق سوق فينادي: (يا معشر التجار!.. قدموا الاستخارة، وتبركوا بالسهولة، واقتربوا من المبتاعين، وتزينوا بالحلم، وتناهوا عن الكذب واليمين، وتجافوا عن الظلم، وأنصفوا المظلومين، ولا تقربوا الرباء، وأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين) يطوف في جميع أسواق الكوفة، فيقول هذا، ثم يقول:

تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها *** من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء في مغبتها *** لا خير في لذة من بعدها النار

فإذن، من آداب التجارة: تقديم الاستخارة، والمراد بالاستخارة هنا: طلب الخير، أي عندما يذهب التاجر إلى السوق يقول: يا رب، افتح لي بالخير في هذا اليوم!.. وأيضاً عدم تعقيد المعاملة، فيكون سهلاً وخاصة مع المؤمنين، فقد أمرنا أن نعامل المؤمنين معاملة خاصة تختلف عن غيرهم.. والابتعاد عن الربا، فهذه الأيام أينما يذهب الإنسان يرتطم بالربا، وقد روي: (من اتجر بغير علم ولا فقه؛ ارتطم في الربا ارتطاماً).. والارتطام هو: كأنْ تكون هناك سفينة تجري في البحر، والربان غافل، وإذا بجبل جليدي يظهر أمامه، ولا مجال للتدارك؛ فيرتطم به!.. والتاجر الذي لا يعلم فقه التجارة؛ أيضاً يرتطم بالربا من غير أن يشعر.
﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾.. لا تطغوا ولا تخسروا، فالإفراط والتفريط؛ كلاهما مذمومان في هذا المجال.. “والقسط: العدل.. والإخسار في الميزان: التطفيف به بزيادة أو نقيصة، بحيث يخسر البائع أو المشتري”.

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.