Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

إن الآيات الأخيرة من سورة “الواقعة”، هي آيات مذكرة بنهاية الإنسان.. وتنقل هذا المشهد الذي سنؤول إليه جميعاً؛ فكل إنسان له هذه النهاية!..
﴿فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لّا تُبْصِرُونَ﴾.. أي أنتم تنظرون، ولكن لا تبصرون!.. ولكن كيف يمكن الجمع بينهما؟.. نعم، يمكن الجمع: فالإنسان ينظر بعينه ﴿وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا﴾ فترتسم الصورة في شبكية العين، وتنتقل الذبذبات إلى الجهة المختصة في المخ.. ولكن تحليل هذه المعاني، والوصول إلى مرحلة الخشية؛ يحتاج إلى أمر آخر، ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾.. فعلماء الذرة من أكثر الناس التصاقاً بعجائب هذا الوجود، ولكن فيهم الكافر والملحد والمشرك.. فهم لهم عيون، ولكنها لا تنتقل إلى بواطن الأشياء!.. فالمعنى: أي أنت يا بني آدم، إن كنت مسيطراً على الأوضاع، لمَ لا تُرجع الروح وهي بالغة الحلقوم؟..
والله العالم!.. ذكر الحلقوم؛ لأن الروح تخرج من هذه المنطقة!.. وخروج الروح من البدن يقال له: نزع الروح.. فكما أن نزع الأظافر من الإنسان الحي، من صور التعذيب الشاقة، رغم أن الظفر ميت؛ ولكن هناك اتصالاً مع البدن؛ فكيف إذا قُلعت الروح من البدن؟!.. وعليه، فإن سكرات الموت، ونزع الروح؛ من الأمور المخيفة، لذا المؤمن يعدّ العدة ويستعد لذلك.. حيث أن هناك بعض الأمور التي تسهل السكرات على الميت، وهي حقاً سكرة؛ لأن الإنسان يعيش خلالها حالة البرزخية: لا هو في الدنيا فيهدأ، ولا هو في الآخر فيستقر؛ إنها مرحلة انتقالية مخيفة!..
﴿فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ﴾.. إن التقسيم المتعارف هو قسمان: أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال؛ أي المؤمنون، وغير المؤمنين.. ولكن في سورة “الواقعة”، هناك دعوة بشكل غير مباشر إلى التميّز.. حيث أنها تقسم الناس إلى ثلاثة أقسام: أصحاب الشمال، وأصحاب اليمين، والمقربون ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾.. فالمؤمن ليس همه أن يكون من أصحاب اليمين فحسب!.. وليس همه دخول الجنة فحسب!.. بل همه أن يصل إلى جنة القرب الإلهي!.. في دار الدنيا لا نرى فرقاً بين المؤمنين: فأصحاب اليمين والمقربون يعيشون: أجواء المساجد، والحج، والعمرة، والزيارة؛ ولكن الفرز يكون ساعة الموت في الدنيا قبل الآخرة، يقول تعالى: ﴿فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ﴾.. قيل في تفسير هذه الآية: الروح والريحان: في عالم البرزخ، وجنة النعيم: في عالم القيامة، أي بمجرد أن يموت يلقى الراحة والارتياح.
عن أبي بصير قال: “سمعت أبا عبد الله -عليه السلام- يقول: (﴿فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ﴾ في قبره، ﴿وَجَنَّةُ نَعِيمٍ﴾ في الآخرة)”.. بعض المؤمنين -كما نفهم من بعض النصوص- الحور العين تجتمع معه وهو في القبر، (بينا رسول الله (صلی الله عليه) في ملأ من أصحابه، وإذا أسود تحمله أربعة من الزنوج ملفوف في كساء يمضون به إلى قبره، فقال رسول الله (صلی الله عليه): عليّ بالأسود!.. فوُضع بين يديه فكشفَ عن وجهه ثم قال لعلي -عليه السلام-: يا علي!.. هذا رباح غلام آل النجار، فقال علي -عليه السلام-: والله ما رآني قط إلا وحجل (أي رفع رجلاً وقفز على الأخرى فرحاً) في قيوده وقال: يا علي!.. إني أحبك.. فأمر رسول الله (صلی الله عليه) بغسله، وكفّنه في ثوب من ثيابه، وصلى عليه وشيّعه والمسلمون إلى قبره، وسمع الناس دويّاً شديداً في السماء، فقال رسول الله (صلی الله عليه): إنه قد شيّعه سبعون ألف قبيل من الملائكة، كل قبيل سبعون ألف ملك، والله ما نال ذلك إلا بحبك يا عليّ!.. ونزل رسول الله (صلی الله عليه) في لحده ثم أعرض عنه ثم سوى عليه اللبن، فقال له أصحابه: يا رسول الله!.. رأيناك قد أعرضت عن الأسود ساعة سويت عليه اللبن.. فقال: نعم، إن ولي الله خرج من الدنيا عطشاناً، فتبادر إليه أزواجه من الحور العين بشراب من الجنة، وولي الله غيور، فكرهت أن أحزّنه بالنظر إلى أزواجه، فأعرضت عنه).. قبل أن يهيل عليه التراب، جئن زوجاته من الحور العين بشراب من الجنة.. انظروا إلى السعادة في اللحظات الأولى!..
إن الروح والريحان، يمكن أن يكون مع الإنسان في الحياة الدنيا.. فالإنسان الذي على صلة بربه؛ يعيش أعلى درجات الروح والاطمئنان، والراحة النفسية، وهذا شيء معروف ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾.. فالاطمئنان يكون في الدنيا، لا في البرزخ، والقيامة فقط!.. وهكذا كان حال الأنبياء والصالحين!..

﴿وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ﴾.. الجزاء اختلف، هناك روح وريحان، وهنا سلام.. فما معنى: ﴿فَسَلامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ﴾؟.. هذه الآية من الآيات المبهمة في القرآن الكريم، وقد قيل فيها معانٍ، منها:
١. قيل: ﴿فَسَلامٌ لَّكَ﴾ يا رسول الله!.. أي أن الخطاب للنبي (صلی الله عليه) من أصحاب اليمين، فهم يسلمون عليه بمقتضى الصحبة؛ ﴿وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا﴾ فالرفيق يسلم على رفيقه.
٢. وقيل: ﴿فَسَلامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ﴾؛ أي أن السلم والأمان يأتيك يا رسول الله من أصحاب اليمين.. فنحن نعلم من بعض الروايات، أن المؤمن الذي يرتكب معصية في دار الدنيا؛ فإن ذلك يشق على رسول الله (صلی الله عليه).. فهو بعصيانه خالف رب العالمين أولاً، وآذى رسول الله (صلی الله عليه) ثانياً، وآذى إمام زمانه -عليه السلام- ثالثاً؛ أي ارتكب ثلاث مخالفات: بحق الله، وحق النبي، وحق الولي.. أما أصحاب اليمين فكل أخبارهم سارة، لا يؤذون رسول الله (صلی الله عليه)، لا في الدنيا ولا في الآخرة!..
قد يقول قائل: وهل هناك من يؤذي رسول الله (صلی الله عليه) في الآخرة؟.. نعم -والله العالم- عندما يُؤتى بالمجرمين من أمة النبي (صلی الله علیه) في عرصات القيامة، فيمرون على الأنبياء، عندئذ النبي (صلی الله عليه) يخجل من هؤلاء المجرمين من أمته، أمام حواريي عيسى -عليه السلام- وأصحاب الأنبياء السلف، أمثال: أصحاب الأخدود، وسحرة موسى -عليه السلام-، حيث يفتخر موسى -عليه السلام- بالسحرة؛ لأنهم قُتلوا وصُلبوا في طاعة الله -عز وجل-.. ولكن يأتي هذا المسلم، والذي يدّعي الانتساب لأهل البيت (صلی الله عليه) وقد ارتكب المخازي في الحياة الدنيا، فرسول الله (صلی الله عليه) قد يُنكّس رأسه خجلاً من هذا الذي يدّعي الانتساب إلى أمة الإسلام.
٣. وقيل: هذا خطاب الملائكة؛ أي ﴿فَسَلامٌ لَّكَ﴾ يا من أنت من أصحاب اليمين!..
﴿وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ﴾.. إن التكذيب والضلال جريمتان كبيرتان!.. فالإنسان قد يكون ضالاً؛ ولكنه مستحٍّ، كما في قوله تعالى: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾؛ فالضالّ غير المغضوب عليه؛ هو المستضعف الذي لا يعرف الأديان، ولم يسمع بالإسلام.. ولكن المشكلة عندما يجتمع التكذيب مع الضلال عندئذ ﴿فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ﴾.. يقول صاحب تفسير الميزان: “وأما إن كان من أهل التكذيب والضلال، فلهم نزل من ماء شديد الحرارة، ومقاساة حر نار جحيم.. وقد وصفهم الله بالمكذبين الضالين، فقدم التكذيب على الضلال؛ لأن ما يلقونه من العذاب تبعة تكذيبهم وعنادهم للحق.. ولو كان ضلالاً بلا تكذيب وعناد؛ كانوا مستضعفين غير نازلين هذه المنزلة .

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.