Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى * سَنُقْرِؤُكَ فَلا تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى}.

إن سورة الأعلى من السور التي تبتدئ بالتسبيح، ولكن لماذا هذا التأكيد على التسبيح: في الصلاة تسبيح، وفي الركوع تسبيح، وفي السجود تسبيح؟.. الله العالم، بسبب ما نُسب إلى الله -عز وجل- من أشياء تعالى عنها علوّاً كبيراً.. فتارةً نسبوا له ولداً، يقول تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} لماذا؟.. {أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا}.. وتارةً نسبوا لهُ الملائكة، وقالوا أنها بنات الله عز وجل، {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ}.. وتارةً هذا الصنم الخشبي أو الحجري الذي كانت تعبده قريش.. فإذن، هناك كم كبير من الدعاوى التي لا تتناسب مع عظمة الربوبية.. لذا، المؤمن يقول وكأنَهُ خجلٌ من بني جنسه: أنا بشر، وقد وُجدَ في هذهِ الأرض من ينسبُ لكَ ما لا يليقُ بكَ، أما أنا فلست من هؤلاء، أنا أقول: أنك منزه عن ذلك، يا رب العزةِ والجلال.

{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}.. أمر بتنزيه اسمه -تعالى- وتقديسه، فتنزيهه: أن لا يذكر معه ما هو تعالى منزّه عنه: كذكر الآلهة، والشركاء، والشفعاء، ونسبة الربوبية إليهم.. فإن المعنى: سبح اسم ربك الذي اتخذته رباً، وأنت تدعو إلى أنه الرب الإله، فلا يقعن في كلامك مع ذكر اسمه بالربوبية ذكر من غيره.. بحيث ينافي تسميه بالربوبية، على ما عرف نفسه لك.. وقوله: {الأَعْلَى}؛ وهو الذي يعلو كل عال، ويقهر كل شيء.. وقيل: معنى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} قل: سبحان ربي الأعلى!.. في تفسير العياشي، عن عقبة بن عامر الجهني قال: لما نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (اجعلوها في ركوعكم)، ولما نزل {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} قال: (اجعلوها في سجودكم).

{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى}.. خلق الشيء: جمع أجزائه.. وتسويته: جعلها متساوية، بحيث يوضع كل في موضعه الذي يليق به، ويعطى حقه: كوضع كل عضو من أعضاء الإنسان، فيما يناسبه من الموضع.. فرب العالمين خلق الأبدان في أحسن تقويم!..

{وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}.. أي جعل الأشياء التي خلقها على مقادير مخصوصة، وحدود معينة في ذواتها، وصفاتها، وأفعالها لا تتعداها.. وجهزها بما يناسب ما قدر لها، فهداها إلى ما قدر.. فكل يسلك نحو ما قدر له، بهداية ربانية تكوينية، كالطفل يهتدي إلى ثدي أمه، والفرخ إلى زق أمه وأبيه.. فالإنسان حين يرتكب معصية، يعلم أنه على خطأ، لأن هناك ضميراً يحاسبه، أو ما يسمى بمحكمة الباطن، وهذه هي الفطرة السليمة.. ولكن البعض يسكت هذا الضمير، ويطفئ هذه النار المشتعلة، فيصل إلى درجة المسخ، عن النبي (ص): (كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً، والمنكر معروفاً)؟.. هذه هي مرحلة المسخ، وإلا قبل ذلك الإنسان يعيش وخز الضمير.. فإذن الظاهر في أحسن تقويم، والباطن في أحسن تقويم!.. فكما أن أحدنا في استعماله المخدرات، يدمر البدن هذا الوجود الظاهري، كذلك بالمعاصي يدمر ويخدر الوجود الروحي أيضاً.

{وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى}.. المرعى: ما ترعاه الدواب، وتتغذى عليه من النبات.. والله -تعالى- هو الذي أنبته.

{فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى}.. الغثاء: ما يقذفه السيل على جانب الوادي من الحشيش والنبات، والمراد هنا -كما قيل- اليابس من النبات.. والأحوى: الأسود؛ أي يصير هشيماً بعد بلوغه ويسود.. وهذا من مصاديق التدبير الربوبي ودلائله، كما أن الخلق والتسوية والتقدير والهداية كذلك.. فإذن، لا ثبات في هذا الوجود، ففي فصل الربيع ترتدي الجبال والسهول اللون الأخضر، وتتزين بالورود؛ ولكن بعد أشهر قليلة، ينتهي كل شيء!.. فكل جمال في هذا الوجود في طريقه إلى الفناء!.. وعليه، فإن المؤمن لا يعلق فؤاده بشيء في هذه الدنيا.. حتى العلاقة الزوجية إذا كانت علاقة إنسانية؛ فإنها تبقى إلى ساعة الممات: بعض كبار السن محبتهم وغرامهم للزوجة في اليوم الأخير، كاليوم الأول؛ لأنها علاقة إنسانية.. أما إذا كانت علاقة شهوية؛ فإنه من الطبيعي أن تقل مع الأيام.. بل تتلاشى عند تقدم الزوجة في السن؛ لأن العلاقة مبتنية على الجمال الظاهري.. لهذا في آية التزويج لا يذكر الشهوة أبداً، يقول تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}: فالسكون، والمودة، والرحمة؛ كلها أمور قلبية.

{سَنُقْرِؤُكَ فَلا تَنسَى}.. أي يا رسول الله، سنعلمك القرآن.. وعد منه لنبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يمكنه من العلم بالقرآن، وحفظه على ما أنزل.. بحيث يرتفع عنه النسيان، فيقرؤه كما أنزل.. وهو الملاك في تبليغ الوحي كما أوحي إليه.. والآية بسياقها لا تخلو من تأييد لما قيل: إنه كان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إذا نزل عليه جبريل بالوحي، يقرؤه مخافة أن ينساه.. فكان لا يفرغ جبريل من آخر الوحي، حتى يتكلم هو بأوله.. فلما نزلت هذه الآية، لم ينس بعده شيئا.

{إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ}.. استثناء مفيد لبقاء القدرة الإلهية على إطلاقها، وأن هذه العطية: وهي الإقراء، بحيث لا تنسى، لا ينقطع عنه سبحانه بالإعطاء.. بحيث لا يقدر بعد على إنسائك، بل هو باقٍ على إطلاق قدرته له، أن يشاء إنساءك متى شاء، وإن كان لا يشاء ذلك.. فإذن، ما أعطيت يا رسول الله هو ببركة منا، ونأخذه منك متى ما شئنا.. مثلاً: البعض له توفيق، وله عبادة؛ فيظن أنه أصبح من ذاتيته.. فيلقي رب العالمين عليه النعاس في الليل؛ ليعلم أن قيام الليل بتوفيق منه!.. بعض الأوقات يريد الإنسان أن يقرأ سورة الحمد؛ فينساها، رغم أنه يلهج بها ليلاً ونهاراً!.. فإذن، كل شيء بتوفيق من الله عز وجل؛ لذا يجب أن يبقى الشكر متواصلاً.

{إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى}.. والمعنى: سنصلح لك بالك في تلقي الوحي وحفظه، لأنا نعلم ظاهر الأشياء وباطنها.. فنعلم ظاهر حالك وباطنها، وما أنت عليه من الاهتمام بأمر الوحي، والحرص على طاعته فيما أمر به.. الإنسان إذا وصل إلى ملكوت هذه الآية، يخاف حتى من الخواطر السيئة، وليس فقط مما يجهر به.. فالمؤمن يستحي من حديث النفس؛ لأنه بدلاً من ذكر الله عز وجل، وتذكر الآخرة؛ ينشغل بما لا طائل منه.. والذي يضمر الحسد، والحقد، والعداوة لأحد، وفي مقام العمل يجامل؛ فهذا الإنسان يوماً ما يكشف سره.. أضف إلى أن رب العالمين مطلع على ذلك، فهو {يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى}!.. ولهذا فإن من صفات المؤمن: أنه لو كشف الغطاء عن قلبه، لا يخاف أحداً؛ لأن ظاهره كباطنه.. هنيئا لمن وصل لطهارة الباطن!..

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.