Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

الوفادةِ على اللهِ عز وجل..
إن الإنسان في سَفرِ إلى اللهِ عز وجل، يقول تعالى في سورة “الذاريات”: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾، أي الهجرة من عالم السيئات إلى عالم الحسنات، فالمؤمن في حركةٍ باطنية دائبة، ولكن هذهِ الحركة الباطنية تتجلى على شكلِ حركةٍ مادية؛ آلا وهي “السَفر إلى بيت اللهِ الحرام”.. والحَديث عَن البيت ليس خاصاً بمن وِفقَ لأن يُكتَبَ من زوار بيتهِ الحرام، إنما هو أعم!.. فـ:

أولاً: الذي لم يَحِج؛ هذا الحَديث ينفعه.
ثانياً: من يُريد الحَج هذهِ السَنة؛ الحَديث ينفعه.
ثالثاً: مَن يوفق للحج في السنوات القادمة؛ عليه أن يعلَم كيفَ يَحج وكَيفَ يعتمر.

الصدق في النية..
إن الذي كانَ مُتهيأً للحَج؛ أي: طلب إجازة من العمل، وجهزّ المال، وحاول أن يذهب هذهِ السَنة، ولم يوفق؛ احتياطاً عليهِ بالاستغفار!.. لأن الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) تقول: (مَن أراد الحجّ فتهيّأ له فحُرمه؛ فبذنبٍ حُرمه)، لذا من نوى الحَج هذهِ السَنة، ولم يُوفق عليهِ أن يفتشَ عَن الأسباب!.. فإذا لَم يَكُن من المُذنبين، أو كانَ من المستغفرين؛ هذهِ النيّة أيضاً رأسُ مال كبير بالنسبة له.. ففي شَهرِ رمضان المُبارك عندما يصل الإنسان إلى هذهِ الفقرة من الدُعاء: (اَللّـهُمَّ!.. ارْزُقْني حَجَّ بَيْتِكَ الْحَرامِ فِي عامي هذا وَفي كُلِّ عام)، عليه أن يطلب من اللهِ عَزَّ وجل ذلك حقيقةً، فالمُعرض عَن الحَج في شهر رمضان عندما يقرأ هذهِ الفقرة، قَد يُعدُ مستهزئاً؛ لأنه لا يُريد الحَج، ومع ذلك يطلبُ ِمنَ اللهِ عَزَّ وجل التوفيق لحج بيت الله الحرام!.. ولهذا فإنه من الأفضل أن يقول: يا رَب، إن كانَ في قضائِكَ وقَدرِكَ أن تَمُنَّ علي، وفقني لحَجِ بيتك الحرام!..

مناسك بيت الله الحرام..
إن الفرق بين الحَج والعُمرة يكون فقط في: عَرَفة ومُزدلفة والرمي، وإلا فإن باقي المستحبات والأجزاء والشرائط مُشتركة.. ومن لا يوفق للحَج فإن العُمرة الرجبية تاليةٌ للحَجِ في الفضيلة، فمن حُرمَ الحَج بإمكانهِ أن ينوي الذهاب إلى العمرة في ذلكَ الشَهر الكريم.

أولاً: في الميقات..
إن المُعتمر أو الحاج يتجرد من ثيابه في الميقات، ويلتزم بسلسلة من التروك التي معظمها مُباحة بالعنوان الأولي، كـ: التطيُب الذي هو مُستحبٌ طِوال العام، والزينة، واللباس هذا الذي يلبسهُ الإنسان طوالَ العُمر.. وعليه، فإن من يحب الوصول إلى المقامات -فالحَج لِقاءُ الله، ووِفادةٌ على اللهِ عز وجل- يجب أن يتخففَ مِنَ: المَتاع، والزينة، وطلب الراحة.. فالمؤمن المُترَف الذي لا يُريد أن يتحمل الأذى في طريقِ اللهِ عَزَّ وجل؛ لا يَصلُ إلى شَيء، والذي لا يتحمل المَشقة في طريق اللهِ عَزَّ وجل؛ هذا لا يُعدُ ضَيفاً للهِ سُبحانه.

فإذن، إن المؤمن في الميقات يوطنُ نفسَهُ على: ترك التجمُل، ومُراقبة القَول ﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾، وترك التطيُب؛ هذهِ الأمور التي هِيَّ من سمات المُترفين أو المُرتاحين في الحياة الدُنيا.. فالحَج يبدأُ مِن الميقات، إذ ينبغي للحاج أن يقوم بـ:

١. الإحرام: إن كلمة “الإحرام” مُشتركَةٌ بينَ الصلاة والحَج من حيث “تَكبيرة الإحرام، ونية الإحرام” فمن أراد السَفَر إلى اللهِ عَزَّ وجل لابُدَ أن يعقد النيّة، فمملكةُ الله أو حَرمُ الله يبدأ من مسجد الشجرة إلى البيت الحرام؛ هذهِ المسافة مسافة محترمة لا يدخلها إلا المُحرِم الذي التزمَ بترك التروك وأداء الواجبات.. علماً أن هذهِ الوفادة تتكرر في كُلِّ صلاة، فالذي يُتقِنُ صلواتهُ اليومية أي عندما يقول: “اللهُ أكبر” فيُحرم، هذا الإنسان هو الذي إذا قالَ: “لَبيكَ اللهمَ لبيك” يُحرِمُ حقيقة!.. بعض الحجاج في مسجد الشَجرة بَعدَ أن ينوي ويُلبي، يأخذ زاوية في مسجد الشَجرة: تحتَ الشُجيرات، أو في المِحراب، فيتأسى بأئمةِ أهل البيت (عليهم السلام) -حيث روي عن السجاد (عليه السلام): (أنّه كان في التلبية وهو على راحلته وخرّ مغشياً عليه، فلمّا أفاق قيل له في ذلك فقال: خشيت أن يقول لي: لا لبيّك ولا سعديك!..)- وتجري دموعهُ على خَديّه، قائلاً: يا رَب، أخشى أن تقولَ لي: لا لَبيك ولا سَعدَيك، أنتَ مُتطفِل ومُتسلل!.. فالمتسلل الذي يَدخِلُ الممالك عَبرَ الحِدود غَير القانونية، لا يُعطى مزايا المواطنين، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الحجاج، فهو يخشى أن لا يكون من الحجيج، وذلك لقول الإمام السجاد (عليه السلام): (ما أكثر الضجيج وأقلّ الحجيج)!..

فإذن، إن الإنسان في مسجد الشَجَرة -في الميقات- يُناجي رَبَهُ قُائلا: يا رَب، أنا ضَيفك اجعل لي علامة القَبول، فإبراهيم الخَليل (عليه السلام) بَطلُ الكَعبة، وبَطلُ تحطيمُ الأصنام -حيث إن الحَج هي معالم إبراهيم الخَليل، فـ: الحِجر حِجر إسماعيل (عليه السلام) وهاجَر مدفونةٌ فيه، والهرولة بينَ الصَفا والمروة هي إحياء لذكرى أُمِ إسماعيل (عليه السلام) عندما هَرولت طَلَباً للماء، ورَمي الجَمرات هو تأسٍّ بإبراهيم الخَليل، ومسجد الخِيف؛ كُل هذهِ المعالم هي معالم إبراهيمية، فإبراهيمُ هو خَليلُ الرحمن، ومقام الخلّة أعلى من مقام التكليم، وهُناكَ رأيٌ يقول: إنَّ أفضل الأنبياء السَلَف، أو أفضل نبي من أنبياءِ أولي العَزم بَعدَ النبي الخاتم محمد (صلی الله عليه) هو خليلُ الرحمن، ومن كرامات الخَليل أنُّهُ جَدٌ للنَبي (صلی الله عليه) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) جميعاً- ومع ذلك طلب علامة من ربه، يقول تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾، المؤمن أيضاً يطلب من الله عَزَّ وجل علامتين في الحَجِ والعُمرَة: علامة في الميقات، وعلامة في طواف الوداع:

العلامة الأولى: الإقبال.. واللهُ العالم لَعلَ من علامات قِبول الضيافة في الميقات “الإقبال الروحي في كُل المناسك”، فالبعضُ يُقبل في الطواف فيبكي ويخشَع، ولكن في: السَعي، ورَمي الجمرات، ومُزدَلِفة، والمبيت في منى؛ قَلما نرى الخشوع، فالخشوع عادةً: إمّا في عَرفَة، أو في الطواف إجمالاً، فهنيئاً لمن كانَ خاشِعاً في كُلِّ هذهِ المراحل!.. البعض أمام الجمرات يبكي، ويعيش حالة الهَلَعِ والخَوف؛ لأنه رمى الشَيطان الذي سيعود لينتقم منه، فهو كمن دَخلَ قفص الأسود وطَعنَ الأسدَ بخنجر: فمن لم يَدخل قَفصَ الأسود هو في أمان، أو من دَخلَ القَفص وطعنَهُ بخنجر وقتله أيضاً في أمان؛ ولكن ما حال من طعنه ولم يقتله، ولم يبتعد عنه؟!ّ..

العلامة الثانية: التغيير.. إن المؤمن في طواف النساء، أو في طواف الوداع الأخير يقول: يا رَب، أنا سأترك البَيت، وقد أديت الأعمال -على نقصها- أرني علامة القبول في هذا السَفَر!.. فمن علامات القَبول في آخر الحَجِ والعُمرة؛ أن يتغير الإنسان صفات وسلوكاً:

أ- الصفات: إن الإنسان الذي كان قَبلَ الحَج يَرفع النظر عَن النساء، ويغض البصر بمُعاناة، بعد الحج لا يحتاجُ إلى غَض البَصر؛ لأنه لا يرى أمامه منظراً مُلفِتاً، يصبح خارج دائرة المُعاناة والمجاهدَة.

ب- السلوك: إن الإنسان الذي كان يُستفز لأتفه الأسباب، وحتى الطفل الصغير بإمكانه أن يُثير غضبه، يرجع مِنَ الحَج كأنّهُ الجَبل الأشَم، لا يُثيرهُ شَيءٌ أبداً!..
وبالتالي، فإن الإنسان الذي يسيطر على شهوتهِ وغضبه، يكون قد قطع شوطاً كبيراً في طريق الكمال!..

٢. التلبية: إن التَلبية معنى عَظيمٌ جِداً، فهي تعني: يا رَب، أُجيبُ دعوتكَ مَرةً بَعدَ مَرة، لا يقول ذلك إلا إنسان بناؤهُ على الالتزام.

ثانياً: في المسجد الحرام..
إن من الأعمال التي يقوم بها الحاج أو المعتمر في المسجد الحرام:

١. الطواف: إن الطواف هو أحد الأركان الأساسية في الحج والعمرة، والذي يتعلم منه الإنسان بعض الدروس، كـ:

أ- الاستعداد: إن من يَدخل المسجدَ الحرام للمرة الأولى، يفضل أن يأخُذ زاوية في المسجد الحرام عِندَ الباب قَبلَ أن يدخل على الكَعبَة، كي يهيئ نفسه للفيوضات الإلهيّة!.. حيث إن المطر عندما يسقط في موسمه؛ فإنه ينزل في المسجد الحرام: والذينَ هُم في المَطاف يتلقونَ المَطر، والذينَ تحتَ الميزاب -ميزاب الرحمة- يتلقونَ المَطرَ المُضاعف، أما الذين في الأروقة تحت السقف؛ فهؤلاء لا تصيبهم الأمطار ولا يتبللون، هذا في المطر المادي!.. وكذلك الأمر في المطر المعنوي: البَعضُ تحتَ السَقف لا يُصيبهُ المَطر -مَطر الرحمة الإلهيّة- والبَعضُ يُصيبهُ المَطر الخَفيف، والبَعضُ تُصبُ عليهِ الرحمة كما يَصبُ الماء مِنَ الميزاب.. وعليه، فإن الناس على أشكال، لذا يطلب المؤمن من ربه قائلاً: يا رَب، أمطر علينا الرحمة الإلهيّة كما تُنزل المطر من ميزابِ الكَعبة!.. وما المانع أن يتكلم مَعَ الكَعبة، فالكعبة لَها شخصية معنويّة، هذا الحَجَر الذي هو عبارة عن قطعة صَغيرة تزن بضعة كيلوغرامات، ولكن هذا يمينُ اللهِ في الأرض، عندما يصل الإنسان إلى الحَجر فإنه يكلمه قائلاً: “أمانتي أدّيتها، وميثاقي تعاهدته؛ لتشهد لي بالموافاة”، هذا الحَجر جاءَ من عالم الغَيب، ولَهُ ما لَهُ من الأسرار!..

ب- الإصرار: إن الطواف يجب أن يكون سبعة أشواط، والسَعي سبعة أشواط، والرَمي سَبع حصيات، والجمرات ثلاث جمرات.. إذن القضية فيها إصرار، فرَبُ العالمين كانَ من المُمكن أن يقول: طُف شوطاً واحداً وانتهى الأمر!.. وعليه، فإن من يُريد الوصول إلى المقامات العُليا يجب أن يستمر في العمل، فبعض الناس يُقيم صلاة الليل أربعين ليلة أو شَهرين أو ثلاثة، فإنْ لم ير شيئاً مميزاً وإذا به يترك صلاة الليل!.. ولكن:

* إن المقامات العُليا لا تُعطى بأربعين ليلة، صحيح أن الله تعالى يقول: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾؛ ولكن هذهِ حالة استثنائية.

* إن الذي يُريدُ الكَمال، عليهِ أن يُجاهِد نفسَه، فمن جاهدَ من أيام البِلوغ؛ أي: تَركَ الحرام، وأدى الواجب، وبَلَغَ أربعينَ سَنة؛ يشتد عوده، وقَد يُعطى شَيئاً في هذا السِن، ولهذا يُقال: مَن بَلَغَ الأربعين ولَم يرَ تغيراً في باطنه هذا إنسان خاسِر، تقول الرواية: (إذَا بَلَغَ الرَّجُلُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَمْ يَتُبْ مَسَحَ إبْلِيسُ وَجْهَهُ وَقَالَ: بِأَبِي‌ وَجْهٌ لاَ يُفْلِحُ أَبَداً)، فسن الأربعين هو سِنُ قَطف الثِمار.

٢. السعي: إن الإنسان في السَعي يَصل إلى مساحة يهرول فيها، كذلك الإنسان في الحياة عليه أن يكون ساعياً، ولكن في فترة من فترات العُمر يجب أن يهرول، وأن يسعى سَعياً حثيثاً!.. إذ ينبغي للمؤمن أن يستثمر ثلاث عَشرات طِوالَ السَنة ومجموعهما شَهر:

أ- العَشرةُ الأخيرة مِن شَهرِ رمضان المُبارك، حيث ليالي القَدر، قال الصادق (عليه السلام): (كان رسول الله (صلی الله عليه) إذا دخل العشر الأواخر شدّ المئزر، واجتنب النساء، وأحيا الليل، وتفرّغ للعبادة).

ب- عَشرةُ ذِي الحِجّة، يقول تعالى في سورة “الفجر”: ﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ أيضاً مفسرةٌ بهذهِ العَشَرة، للحِجاج وغيرهم.

ج- عشرةُ مُحرم، وهي عشرةُ الحُسينِ (عليهِ السلام).

فإذن، هناك عشرتانِ توحيديتان، وعَشرةٌ ولائية، المؤمن يهرول في هذهِ العَشرات، ويسعى سَعياً مُضاعفاً!.. فلو أتقن العَمل في هذهِ العَشرات الثَلاث، يكون في حال هرولة لمدة شَهر كامل.

ثالثاً: الوقوف في عَرفَة..
وما أدراك ما عَرفة؟!.. عَرفَة هذهِ القطعة مُشتركةٌ بينَ الحجاجِ وغيرهِم، هي ليست للحجاج فقط!.. فيوم عَرفة: يَومٌ مُبارك، ويَومٌ عَظيم، هو أفضلُ يَومٍ في العام، كما أن أفضل ليلةٍ في العام هي ليلةُ القَدر، فمن أدرك شَهر رمضان ولم يُغفر لَه فَلا غَفر اللهُ له، قال رسول الله (صلی الله عليه): (مَن أدرك شهر رمضان فلم يُغفر له؛ فأبعده الله!.. ومن أدرك ليلة القدر فلم يُغفر له؛ فأبعده الله..)!.. فمن دَخلَ الضيافة العُظمى، ورجع جائعاً؛ فإنه لن يجد المائدة إلا أن يشهَدَ عَرفة، فعرفة هِيَّ المحطة الأخيرة بَعدَ شَهرِ رمضان المُبارك، روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (من لم يُغفر له في شهر رمضان، لم يُغفر له إلى مثله من قابل؛ إلا أن يشهد عرفة).. ومن بركات ذلك اليوم:

١. أن نفس المكوث في عرفة من موجبات نزول الرحمة، رغم أن بعض الحُجاج في يَوم عَرفة لا يتزود كَما ينبغي، بسبب الإرهاق والتعب، والأعمال، حيث الجَو غَير مُلائم لكونه في خيمة مَعَ العَشرات والمئات، فلا يَخشَع يَوم عَرفة وهو في أرضِ عَرفة!.. ولكن في أرض الوطن الإنسان بإمكانهِ أن يعيش بَعضَ المشاعر المُميزة وهو خارج الحَج.. فيوم عَرفة هو يَومُ العِتقِ من النار، ومن يأخُذ زاويةً في البيت، أو في المسجد، ويبكي ويخشع، قد يقرأ دُعاءَ الحُسين (عليهِ السلام) في يوم عَرفة بإقبالٍ أكثر من بعضِ حُجاجِ بَيت اللهِ الحَرام!..

٢. إننا نرى نشاطاً قل نظيره، فرغم العمل والجهد، فالحَج فيهِ ما فيهِ مِنَ التَعب، ولكن مع ذلك بَعضُ الناس المُترفين الذين لا يتحملون أقل مُزعج؛ وإذا بهم في موسم الحَج من أكثر الحُجاج نشاطاً!.. فبعض رحلات الحج فيها صعوبة، كالحَج السَريع الذي يكون بلا انتساب إلى حَملةٍ من الحَملات، ومع ذلك فإن البَعض أيام الموسم يتحولُ إلى بَطل!.. هذهِ الأمور هي من أسرار الحَج، فهذا التصرف في القلوب هو ببركة هذه الدعوة الإبراهيمية ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾؛ وإلا أينَ نَحنُ وتحمل مَشاقِ الحَج!..

٣. أن الحج عرفة، فمن لم يَذهَب إلى الحَج، ودعا رَبَهُ في هذهِ العشَرة وفي يوم عرفة دَعوة بَليغة؛ فَقَد قطَفَ ثَمرة الحَج!.. حيث إنه يستحب الإكثار من الدعاء في ذلك اليوم، ومَن هو في الوطن، إن كانَ الصَوم يضعفه عَن الدُعاء؛ عليه أن لا يصوم، لأهمية الدُعاء!.. لقد جعل رَب العالمين عَرفة في مُنتصف الحَج، فـ: قَبل عرفة هناك عُمرة التَمتُع، وبَعد عَرفَة هناك أعمال الحَج، وبينهما مَحطة عِباديّة!..

روايات المعصومين في الحج..
أولاً: ففي الخبر عن أبي عبد الله (عليه السلام) -وقد سأله رجل في المسجد الحرام: من أعظم الناس وزراً؟..- فقال (عليه السلام): (من يقف بهذين الموقفين: عرفة والمزدلفة، وسعى بين هذين الجبلين، ثم طاف بهذا البيت، وصلى خلف مقام إبراهيم، ثم قال في نفسه، وظن أن الله لم يغفر له؛ فهو من أعظم الناس وزراً)!.. من يذهب لضيافة أكرم الأكرمين، ويَشك في المَغفرة؛ هو من أعظم الناسِ وِزراً!..

ثانياً: عن النبي الأكرم (صلی الله عليه): (من حَجَّ: فلم يرفث، ولم يفسق؛ رجع كيوم ولدته أمه).

ثالثاً: عندما يذهب الإنسان للحَج، عليه أن لا يجعل التفاته في الطَوافِ والسَعي، بل يجب أن يكون مُراقِباً لنفسه منذ خروجه مِنَ البيتِ إلى أن يعود إليه، عن زياد القندي قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): إني أكون في المسجد الحرام، وأنظر إلى الناس يطوفون بالبيت وأنا قاعد، فأغتم لذلك، فقال: (يا زياد، لا عليك، فإن المؤمن إذا خرج من بيته يؤمُّ الحج، لا يزال في طواف وسعي حتى يرجع). فالحاج في الضيافة الإلهيّة حتى لو كان نائماً، كما أن النوم في شَهرِ رَمضان عِبادة، والأنفاس تسبيح؛ لأنه في ضيافة اللهِ عزَّ وجل، الحَاجُ أيضاً في ضيافة رَب العالمين.

رابعاً: قال الإمام الصادق (عليه السلام): (من حج حجة الإسلام؛ فقد حل عقدة من النار من عنقه، ومن حج حجتين؛ لم يزل في خير حتى يموت، ومن حج ثلاث حجج متوالية، ثم حج أو لم يحج فهو بمنزلة مدمن الحج)، لو يستطيع الإنسان أن يحج في كُل عام، فليس هُنالك ما يعوض عَن الحَجِ، ولكن مَن ذَهب إلى الحَج ثَلاثَ مرات متواليات؛ كُتِبَ مُدمِنَ الحَج؛ فالبعض يُدمن الخَمرة، والبعضُ يُدمنُ الحَج!..

خامساً: الرواية عَن النبي (صلی الله عليه): عن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله عليه): (إن الله تعالى يقول: “من أنسأت له في أجله، ووسعت عليه في رزقه، وصححت له جسمه، ولم يزرني في كل خمسة أعوام؛ فهو محروم”).. هذهِ تَعودُ إلى اللهِ عَزَّ وجل، فرَبُ العالمين إذا أعطى الإنسان: العافية، والمال، والجسم السَليم، ولم يزر النَبي (صلی الله عليه) في كُلِّ خمسةِ أعوام؛ فهو أيضاً من المحرومين!..

الدرس العملي..
١. المواظبة: هنيئاً لمن كانَ في حَجٍ دائم!.. يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾، البعضُ في حجِهم دائمون:

أ- إن البَعض يرى نفسه في طوافٍ دائم حَولَ البيت، يطوفُ حَول رضا اللهِ عَزَّ وجل، في كُلِّ آن يُفكرُ في رِضا اللهِ عَزَّ وجل!..

ب- إن البَعض في كُلِّ فريضة عندما يستقبل القبلة، بمُجرد أن يُغمض عينَهُ في الصلاةِ، يرى نَفسَهُ في المَسجد الحرام وأمامَ الكَعبة!.. فالذينَ أنسوا بالبَيت، وأنسوا بالمسجد الحرام هؤلاءِ في المَسجدِ دائماً، على الأقل أوقات الصلوات يرون أنفسهم خَلفَ مقامِ إبراهيم (عليه السلام).

ج- إن الحُجاج يرمونَ الجَمرات في يومين، فالشيطان تَمثَلَ لإبراهيم (عليه السلام) في طريقهِ في منى، لذا نحن نرمي الَجمرات الثَلاث التي هي مواطنِ إبليس عندما أرادَ أن يُثني إبراهيم (عليه السلام) عن مُهمته، ولكن المؤمن الواصل يرمي الجمرات في كُلِّ يَوم؛ لأن الشيطان يحاول دائماً ثني الإنسان عن السير إلى الله عز وجل، فهنيئاً لمن كانَ في رَمي دائم!..

د- إن المؤمن كُل يَوم لَهُ عَرفَة، لا عند العَصر وإنّما في جوف الليل، من خلال قراءة فقرات من دُعاء عَرَفة في صلاة الليل، يقول الإمام الحسين (عليه السلام): (يَا مَوْلَايَ!.. أَنْتَ الَّذِي أَنْعَمْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَحْسَنْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَجْمَلْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَفْضَلْتَ، أَنْتَ الَّذِي مَنَنْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَكْمَلْتَ، أَنْتَ الَّذِي رَزَقْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَعْطَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَغْنَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَقْنَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي آوَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي كَفَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي هَدَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي عَصَمْتَ، أَنْتَ الَّذِي سَتَرْتَ، أَنْتَ الَّذِي غَفَرْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَقَلْتَ، أَنْتَ الَّذِي مَكَّنْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَعْزَزْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَعَنْتَ، أَنْتَ الَّذِي عَضَدْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَيَّدْتَ، أَنْتَ الَّذِي نَصَرْتَ، أَنْتَ الَّذِي شَفَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي عَافَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَكْرَمْتَ، تَبَارَكْتَ رَبِّي وَتَعَالَيْتَ، فَلَكَ الْحَمْدُ دَائِماً، وَلَكَ الشُّكْرُ وَاصِباً).. ويقول في المقابل: (أَنَا الَّذِي أَخْطَأْتُ، أَنَا الَّذِي أَغْفَلْتُ، أَنَا الَّذِي جَهِلْتُ، أَنَا الَّذِي هَمَمْتُ، أَنَا الَّذِي سَهَوْتُ، أَنَا الَّذِي اعْتَمَدْتُ، أَنَا الَّذِي تَعَمَّدْتُ، أَنَا الَّذِي وَعَدْتُ، أَنَا الَّذِي أَخْلَفْتُ، أَنَا الَّذِي نَكَثْتُ، أَنَا الَّذِي أَقْرَرْتُ)؛ ألا تناسب هذه الفقرات قيام الليل!.. ومن يَلهَج بالتهليل اليونسي في صلاة ليله: (لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)، فإن الحُسين (عليهِ السلام) في دُعاءِ عرفة يُضيف (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الْمُسْتَغْفِرِينَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الْوَجِلِينَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الرَّاجِينَ الرَّاغِبِينَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ السَّائِلِينَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الْمُهَلِّلِينَ الْمُسَبِّحِينَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ رَبِّي وَرَبُّ آبَائِيَ الْأَوَّلِينَ)؛ فهنيئاً لمن كانَ في عرفةٍ دائمة!..

٢. الوفاء: إن المؤمن الموالي يتذكر الحُسين (عليه السلام) في كل ركن ومنسك في الحَجِ والعُمرة:

وقَد انجلى عَن مَكةٍ وهو ابنُها *** وبِهِ تشرفت الحَطيمُ وزمزمُ
لَـمْ يـدر أيـنَ يُريح بُدنَ رِكابِهِ *** فـكـأنَّـمـا المأوى عليهِ مُحرَّمُ

أ- إن الحُجاج يُقدِمون الأضاحي، والحُسين (عليه السلام) في يَومِ عاشوراء قَدمَ الضَحية تلو الضحية أمثال: العَباس، وولدهِ الرضيع، وولدهِ عَلي.

ب- إن الحُجاج يسعونَ بينَ الصَفا والمروة، والحُسين (عليه السلام) كانَ يسعى بينَ مقتل الشُهداء، فالمسافة بينَ مَصرع العَباس ومصرع الحُسين، مقاربة للمسافة التي بين الصَفا والمروة، فالحُسين كانَ يسعى أيضاً: تارةً عِندَ مروة عَلي، وتارةً عندَ صفا القاسم، ينتقلُ من شِهيدٍ إلى شَهيد هذا سَعيُ الحُسينِ (عليهِ السلام).

ج- إن الحجاج يقفون في عرفة، أما عرفة الحُسين (عليه السلام) فقد كانت في دُعائه عند مقتله: (إلهي!.. رضاً بقضائك، تسليماً لأمرك، لا معبود سواك، يا غياث المستغيثين)!..

د- إن الحُجاج في الطواف يأخذونَ بأيدي المَحارم، ومن كانت معه أخته؛ فإنه يحميها لئلا تتأذى في الطواف، ولكنَ الحُسين (عليه السلام) حُرم هذهِ المَزيّة، فَتحَ عينهُ في مصرعه، وإذا بالقَوم يهجمون على الخِيام، فنادى كما رويَ: (اقْصُدُونِي بِنَفْسِي، وَاتْرُكُوا حَرَمِي)، النِساء في كُل الأُمم لَهُنَّ حُرمة، إلا في يوم عاشوراء، فقد فررنَ على وجوههن في البيداء، ولسان حالهن هذه الأبيات المتفرقة:

اُقـلِّب طـرفي لا حَـمِيٌّ ولا حمى *** سوى هفوات السوط من فوق عاتقي
بالأمس كانوا معي واليوم قد رحلوا *** وخلّفوا في سويدا القلبِ نيرانا

ه- إن الحجاج يذهبون إلى المَدينة وهم فرحون، ويدخلون على روضة النَبي (صلی الله عليه) وهم مستبشرون؛ ولكن أُختَ الحُسين (عليه السلام) دَخلت المدينة قائلة:

مدينة جــــــدِّنا لا تقبلينا *** فبالحسرات والأحزان جينا
خرجنا منك بالأهلين جمعا *** رجعنا لا رجال ولا بنينا

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.