Search
Close this search box.
Layer 5
فهرس نهج البلاغة
فهرس الخطب نهج‌البلاغة

الخطبة الحادية والعشرون بعد المائتين من خطب أميرالمؤمنين عليه السلام المذكورة في كتاب نهج البلاغة خطبها بعد تلاوة قوله تعالى:(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) فذم فيها من أراد أن يتفاخر بكثرة أفراد عشيرته حتى بأصحاب القبور منهم، الذين هم أولى أن يكونوا عبرة وعظة ثم يبين حال الإنسان وضعفه في وقت الاحتضار وأن الموت لا يرده شيء لو نزل بالإنسان.

من كلام له عليه السلام قاله بعد تلاوته: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾
قاله بعد تلاوته: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾

يَا لَهُ مَرَاماً مَا أَبْعَدَهُ وَزَوْراً مَا أَغْفَلَهُ وَخَطَراً مَا أَفْظَعَهُ! لَقَدِ اسْتَخْلَوْا مِنْهُمْ أَيَّ مُدَّكِرٍ وَتَنَاوَشُوهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ، أَ فَبِمَصَارِعِ آبَائِهِمْ يَفْخَرُونَ؟ أَمْ بِعَدِيدِ الْهَلْكَى يَتَكَاثَرُونَ؟ يَرْتَجِعُونَ مِنْهُمْ أَجْسَاداً خَوَتْ وَحَرَكَاتٍ سَكَنَتْ؛ وَلَأَنْ يَكُونُوا عِبَراً أَحَقُّ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُفْتَخَراً وَلَأَنْ يَهْبِطُوا بِهِمْ جَنَابَ ذِلَّةٍ أَحْجَى مِنْ أَنْ يَقُومُوا بِهِمْ مَقَامَ عِزَّةٍ؛ لَقَدْ نَظَرُوا إِلَيْهِمْ بِأَبْصَارِ الْعَشْوَةِ وَضَرَبُوا مِنْهُمْ فِي غَمْرَةِ جَهَالَةٍ؛ وَلَوِ اسْتَنْطَقُوا عَنْهُمْ عَرَصَاتِ تِلْكَ الدِّيَارِ الْخَاوِيَةِ وَالرُّبُوعِ الْخَالِيَةِ لَقَالَتْ ذَهَبُوا فِي الْأَرْضِ ضُلَّالًا وَذَهَبْتُمْ فِي أَعْقَابِهِمْ جُهَّالًا، تَطَئُونَ فِي هَامِهِمْ وَتَسْتَنْبِتُونَ فِي أَجْسَادِهِمْ وَتَرْتَعُونَ فِيمَا لَفَظُوا وَتَسْكُنُونَ فِيمَا خَرَّبُوا وَإِنَّمَا الْأَيَّامُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ بَوَاكٍ وَنَوَائِحُ عَلَيْكُمْ.
أُولَئِكُمْ سَلَفُ غَايَتِكُمْ وَفُرَّاطُ مَنَاهِلِكُمْ، الَّذِينَ كَانَتْ لَهُمْ مَقَاوِمُ الْعِزِّ وَحَلَبَاتُ الْفَخْرِ، مُلُوكاً وَسُوَقاً سَلَكُوا فِي بُطُونِ الْبَرْزَخِ سَبِيلًا سُلِّطَتِ الْأَرْضُ عَلَيْهِمْ فِيهِ فَأَكَلَتْ مِنْ لُحُومِهِمْ وَشَرِبَتْ مِنْ دِمَائِهِمْ فَأَصْبَحُوا فِي فَجَوَاتِ قُبُورِهِمْ جَمَاداً لَا يَنْمُونَ وَضِمَاراً لَا يُوجَدُونَ. لَا يُفْزِعُهُمْ وُرُودُ الْأَهْوَالِ وَلَا يَحْزُنُهُمْ تَنَكُّرُ الْأَحْوَالِ وَلَا يَحْفِلُونَ بِالرَّوَاجِفِ وَلَا يَأْذَنُونَ لِلْقَوَاصِفِ، غُيَّباً لَا يُنْتَظَرُونَ وَشُهُوداً لَا يَحْضُرُونَ وَإِنَّمَا كَانُوا جَمِيعاً فَتَشَتَّتُوا وَ[أُلَّافاً] آلَافاً فَافْتَرَقُوا، وَمَا عَنْ طُولِ عَهْدِهِمْ وَلَا بُعْدِ مَحَلِّهِمْ عَمِيَتْ أَخْبَارُهُمْ وَصَمَّتْ دِيَارُهُمْ وَلَكِنَّهُمْ سُقُوا كَأْساً بَدَّلَتْهُمْ بِالنُّطْقِ خَرَساً وَبِالسَّمْعِ صَمَماً وَ بِالْحَرَكَاتِ سُكُوناً، فَكَأَنَّهُمْ فِي ارْتِجَالِ الصِّفَةِ صَرْعَى سُبَاتٍ جِيرَانٌ لَا يَتَأَنَّسُونَ وَأَحِبَّاءُ لَا يَتَزَاوَرُونَ. بَلِيَتْ بَيْنَهُمْ عُرَا التَّعَارُفِ وَانْقَطَعَتْ مِنْهُمْ أَسْبَابُ الْإِخَاءِ فَكُلُّهُمْ وَحِيدٌ وَهُمْ جَمِيعٌ وَبِجَانِبِ الْهَجْرِ وَهُمْ أَخِلَّاءُ لَا يَتَعَارَفُونَ لِلَيْلٍ صَبَاحاً وَلَا لِنَهَارٍ مَسَاءً.
أَيُّ الْجَدِيدَيْنِ ظَعَنُوا فِيهِ كَانَ عَلَيْهِمْ سَرْمَداً شَاهَدُوا مِنْ أَخْطَارِ دَارِهِمْ أَفْظَعَ مِمَّا خَافُوا وَرَأَوْا مِنْ آيَاتِهَا أَعْظَمَ مِمَّا قَدَّرُوا. [فَكِلَا] فَكِلْتَا الْغَايَتَيْنِ مُدَّتْ لَهُمْ إِلَى مَبَاءَةٍ فَاتَتْ مَبَالِغَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فَلَوْ كَانُوا يَنْطِقُونَ بِهَا لَعَيُّوا بِصِفَةِ مَا شَاهَدُوا وَمَا عَايَنُوا. وَلَئِنْ عَمِيَتْ آثَارُهُمْ وَانْقَطَعَتْ أَخْبَارُهُمْ لَقَدْ رَجَعَتْ فِيهِمْ أَبْصَارُ الْعِبَرِ وَسَمِعَتْ عَنْهُمْ آذَانُ الْعُقُولِ وَتَكَلَّمُوا مِنْ غَيْرِ جِهَاتِ النُّطْقِ، فَقَالُوا كَلَحَتِ الْوُجُوهُ النَّوَاضِرُ وَخَوَتِ الْأَجْسَامُ النَّوَاعِمُ وَلَبِسْنَا أَهْدَامَ الْبِلَى وَتَكَاءَدَنَا ضِيقُ الْمَضْجَعِ وَتَوَارَثْنَا الْوَحْشَةَ وَ[تَهَدَّمَتْ] تَهَكَّمَتْ عَلَيْنَا الرُّبُوعُ الصُّمُوتُ، فَانْمَحَتْ مَحَاسِنُ أَجْسَادِنَا وَتَنَكَّرَتْ مَعَارِفُ صُوَرِنَا وَطَالَتْ فِي مَسَاكِنِ الْوَحْشَةِ إِقَامَتُنَا وَلَمْ نَجِدْ مِنْ كَرْبٍ فَرَجاً وَلَا مِنْ ضِيقٍ مُتَّسَعاً؛ فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ بِعَقْلِكَ أَوْ كُشِفَ عَنْهُمْ مَحْجُوبُ الْغِطَاءِ لَكَ وَقَدِ ارْتَسَخَتْ أَسْمَاعُهُمْ بِالْهَوَامِّ فَاسْتَكَّتْ وَاكْتَحَلَتْ أَبْصَارُهُمْ بِالتُّرَاب فَخَسَفَتْ وَتَقَطَّعَتِ الْأَلْسِنَةُ فِي أَفْوَاهِهِمْ بَعْدَ ذَلَاقَتِهَا وَهَمَدَتِ الْقُلُوبُ فِي صُدُورِهِمْ بَعْدَ يَقَظَتِهَا وَعَاثَ فِي كُلِّ جَارِحَةٍ مِنْهُمْ جَدِيدُ بِلًى سَمَّجَهَا وَسَهَّلَ طُرُقَ الْآفَةِ إِلَيْهَا مُسْتَسْلِمَاتٍ، فَلَا أَيْدٍ تَدْفَعُ وَلَا قُلُوبٌ تَجْزَعُ لَرَأَيْتَ أَشْجَانَ قُلُوبٍ وَأَقْذَاءَ عُيُونٍ لَهُمْ فِي كُلِّ فَظَاعَةٍ صِفَةُ حَالٍ لَا تَنْتَقِلُ وَغَمْرَةٌ لَا تَنْجَلِي. فَكَمْ أَكَلَتِ الْأَرْضُ مِنْ عَزِيزِ جَسَدٍ وَأَنِيقِ لَوْنٍ كَانَ فِي الدُّنْيَا غَذِيَّ تَرَفٍ وَرَبِيبَ شَرَفٍ، يَتَعَلَّلُ بِالسُّرُورِ فِي سَاعَةِ حُزْنِهِ وَيَفْزَعُ إِلَى السَّلْوَةِ إِنْ مُصِيبَةٌ نَزَلَتْ بِهِ ضَنّاً بِغَضَارَةِ عَيْشِهِ وَشَحَاحَةً بِلَهْوِهِ وَلَعِبِهِ، فَبَيْنَا هُوَ يَضْحَكُ إِلَى الدُّنْيَا وَتَضْحَكُ إِلَيْهِ فِي ظِلِّ عَيْشٍ غَفُولٍ إِذْ وَطِئَ الدَّهْرُ بِهِ حَسَكَهُ وَنَقَضَتِ الْأَيَّامُ قُوَاهُ وَنَظَرَتْ إِلَيْهِ الْحُتُوفُ مِنْ كَثَبٍ فَخَالَطَهُ بَثٌّ لَا يَعْرِفُهُ وَنَجِيُّ هَمٍّ مَا كَانَ يَجِدُهُ وَتَوَلَّدَتْ فِيهِ فَتَرَاتُ عِلَلٍ آنَسَ مَا كَانَ بِصِحَّتِهِ، فَفَزِعَ إِلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ الْأَطِبَّاءُ مِنْ تَسْكِينِ الْحَارِّ بِالْقَارِّ وَتَحْرِيكِ الْبَارِدِ بِالْحَارِّ، فَلَمْ يُطْفِئْ بِبَارِدٍ إِلَّا ثَوَّرَ حَرَارَةً وَلَا حَرَّكَ بِحَارٍّ إِلَّا هَيَّجَ بُرُودَةً وَلَا اعْتَدَلَ بِمُمَازِجٍ لِتِلْكَ الطَّبَائِعِ إِلَّا أَمَدَّ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ دَاءٍ حَتَّى فَتَرَ مُعَلِّلُهُ وَذَهَلَ مُمَرِّضُهُ وَتَعَايَا أَهْلُهُ بِصِفَةِ دَائِهِ وَخَرِسُوا عَنْ جَوَابِ السَّائِلينَ عَنْهُ وَتَنَازَعُوا دُونَهُ شَجِيَّ خَبَرٍ يَكْتُمُونَهُ، فَقَائِلٌ يَقُولُ هُوَ لِمَا بِهِ وَمُمَنٍّ لَهُمْ إِيَابَ عَافِيَتِهِ وَمُصَبِّرٌ لَهُمْ عَلَى فَقْدِهِ يُذَكِّرُهُمْ أُسَى الْمَاضِينَ مِنْ قَبْلِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ عَلَى جَنَاحٍ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا وَتَرْكِ الْأَحِبَّةِ إِذْ عَرَضَ لَهُ عَارِضٌ مِنْ غُصَصِهِ فَتَحَيَّرَتْ نَوَافِذُ فِطْنَتِهِ وَيَبِسَتْ رُطُوبَةُ لِسَانِهِ، فَكَمْ مِنْ مُهِمٍّ مِنْ جَوَابِهِ عَرَفَهُ فَعَيَّ عَنْ رَدِّهِ وَدُعَاءٍ مُؤْلِمٍ بِقَلْبِهِ سَمِعَهُ فَتَصَامَّ عَنْهُ مِنْ كَبِيرٍ كَانَ يُعَظِّمُهُ أَوْ صَغِيرٍ كَانَ يَرْحَمُهُ. وَإِنَّ لِلْمَوْتِ لَغَمَرَاتٍ هِيَ أَفْظَعُ مِنْ أَنْ تُسْتَغْرَقَ بِصِفَةٍ أَوْ تَعْتَدِلَ عَلَى عُقُولِ أَهْلِ الدُّنْيَا.