باب شهادته وتغسيله ودفنه ومبلغ سنه صلوات الله عليه ولعنة الله على من ظلمه
كنت ليلة بين يدي المأمون حتى مضى من الليل أربع ساعات ، ثم أذن لي في الانصراف فانصرفت .. فلما مضى من الليل نصفه قرع قارعٌ الباب ، فأجابه بعض غلماني ، فقال له : قل لهرثمة : أجب سيدك !..
فقمت مسرعاً وأخذت عليّ أثوابي ، وأسرعت إلى سيدي الرضا (ع) ، فدخل الغلام بين يدي ودخلت وراءه ، فإذا أنا بسيدي (ع) في صحن داره جالس .
فقال : يا هرثمة !.. فقلت : لبيك يا مولاي !.. فقال لي : اجلس !.. فجلستُ ، فقال لي :
اسمع وعُ يا هرثمة !.. هذا أوان رحيلي إلى الله تعالى ولحوقي بجدي وآبائي (ع) ، وقد بلغ الكتاب أجله ، وقد عزم هذا الطاغي على سمّي في عنب ورمان مفروك ، فأما العنب فإنه يغمس السلك في السمّ ويجذبه بالخيط في العنب ، وأما الرمان فإنه يطرح السمّ في كفّ بعض غلمانه ويفرك الرمان بيده ليلطخ حبّه في ذلك السمّ .
وإنه سيدعوني في ذلك اليوم المقبل ، ويقرّب إليّ الرمان والعنب ، ويسألني أكلهما فآكلهما ، ثم ينفذ الحكم ويحضر القضاء ، فإذا أنا مت فسيقول :
أنا أغسّله بيدي ، فإذا قال ذلك ، فقل له عنّي بينك وبينه : إنه قال لي : لا تتعرّض لغسلي ولا لتكفيني ولا لدفني ، فإنك إن فعلت ذلك عاجلك من العذاب ما أُخّر عنك ، وحلّ بك أليم ما تحذر ، فإنه سينتهي .
فقلت : نعم يا سيدي !.. قال : فإذا خلّى بينك وبين غسلي ، فسيجلس في علوّ من أبنيته ، مشرفاً على موضع غسلي لينظر ، فلا تعرّض يا هرثمة لشيءٍ من غسلي ، حتى ترى فسطاطاً أبيض قد ضُربت في جانب الدار ، فإذا رأيت َذلك فاحملني في أثوابي التي أنا فيها ، فضعني من وراء الفسطاط وقفْ من ورائه ، ويكون من معك دونك ولا تكشف عن الفسطاط حتى تراني فتهلك ، فإنه سيشرف عليك ويقول لك :
يا هرثمة!.. أليس زعمتم أن الإمام لا يغسّله إلا إمام مثله ، فمَن يغسّل أبا الحسن علي بن موسى ، وابنه محمد بالمدينة من بلاد الحجاز ونحن بطوس ؟.. فإذا قال ذلك فأجبه ، وقل له :
إنا نقول : إنّ الإمام لا يجب أن يغسّله إلا إمام ، فإن تعدّى متعدٍّ وغسّل الإمام لم تبطل إمامة الإمام لتعدّي غاسله ، ولا بطلت إمامة الإمام الذي بعده بأن غُلب على غسل أبيه ، ولو تُرك أبو الحسن علي بن موسى بالمدينة لغسّله ابنه محمد ظاهراً مكشوفاً ، ولا يغسّله الآن أيضا إلا هو من حيث يخفى .
فإذا ارتفع الفسطاط فسوف تراني مدرّجاً في أكفاني ، فضعني على نعشٍ واحملني .
فإذا أراد أن يحفر قبري ، فإنه سيجعل قبر أبيه هارون الرشيد قبلةً لقبري ، ولا يكون ذلك أبداً ، فإذا ضربت المعاول نبت عن الأرض ولم ينحفر منها شيءٌ ، ولا مثل قلامة ظفر ، فإذا اجتهدوا في ذلك وصعُب عليهم فقل له عني :
إني أمرتك أن تضرب معولاً واحداً في قبلة قبر أبيه هارون الرشيد ، فإذا ضربت نفذ في الأرض إلى قبرٍ محفورٍ وضريحٍ قائمٍ .
فإذا انفرج ذلك القبر فلا تنزلني إليه حتى يفور من ضريحه الماء الأبيض ، فيمتلئ منه ذلك القبر ، حتى يصير الماء مع وجه الأرض .
ثم يضطرب فيه حوتٌ بطوله ، فإذا اضطرب فلا تنزلني إلى القبر إلا إذا غاب الحوت وغار الماء ، فأنزلني في ذلك القبر وألحدني في ذلك الضريح ، ولا تتركهم يأتوا بتراب يلقونه عليّ ، فإنّ القبر ينطبق بنفسه ويمتلئ ، قلت : نعم يا سيدي!..
ثم قال لي : احفظ ما عهدت إليك واعمل به ولا تخالف ، قلت : أعوذ بالله أن أخالف لك أمراً يا سيدي ..
قال هرثمة : ثم خرجت باكياً حزيناً ، فلم أزل كالحبّة على المقلاة لا يعلم ما في نفسي إلا الله تعالى .
ثم دعاني المأمون فدخلت إليه ، فلم أزل قائماً إلى ضحى النهار ، ثم قال المأمون : امض يا هرثمة إلى أبي الحسن !.. فاقرئه مني السلام ، وقل له: تصير إلينا أو نصير إليك ؟.. فإن قال لك : بل نصير إليه ، فتسأله عني أن يقدم ذلك .
فجئته فإذا اطّلعت عليه قال لي :
يا هرثمة !.. أليس قد حفظت ما أوصيتك به ؟.. قلت : بلى ، قال : قدّموا نعليَّ فقد علمتُ ما أرسلكَ به .
قال : فقدّمتُ نعله ومشى إليه ، فلما دخل المجلس قام إليه المأمون قائماً فعانقه ، وقبّل بين عينيه ، وأجلسه إلى جانبه على سريره ، وأقبل عليه يحادثه ساعةً من النهار طويلة ، ثم قال لبعض غلمانه : يُؤتى بعنبٍ ورمان !.
قال هرثمة : فلما سمعت ذلك لم أستطع الصبر ، ورأيت النُّفضة ( أي رعدة النافض من الحمى أو غيره ) قد عرضت في بدني ، فكرهت أن يتبين ذلك فيّ ، فتراجعت القهقرى حتى خرجتُ فرميت نفسي في موضع من الدار ..
فلما قرب زوال الشمس أحسست بسيدي قد خرج من عنده و رجع إلى داره ، ثم رأيت الآمر قد خرج من عند المأمون بإحضار الأطباء والمترفّقين .
قلت ما هذا ؟.. فقيل لي :
علّةٌ عرضت لأبي الحسن علي بن موسى الرضا (ع) ، فكان الناس في شكّ وكنت على يقين ، لما أعرف منه .
قال : فلما كان من الثلث الثاني من الليل علا الصياح ، وسمعت الوجبة من الدار ، فأسرعت فيمن أسرع ، فإذا نحن بالمأمون مكشوف الرأس محلُّ الأزرار قائماً على قدميه ينتحب ويبكي..
فوقفت فيمن وقفوا وأنا أتنفس الصعداء ، ثم أصبحنا فجلس المأمون للتعزية ثم قام فمشى إلى الموضع الذي فيه سيدنا (ع) فقال :
أصلحوا لنا موضعاً فإني أريد أن أُغسّله ، فدنوت منه فقلت له ما قاله سيدي بسب الغسل والتكفين والدفن ، فقال لي : لست أعرض لذلك .
ثم قال : شأنك يا هرثمة !..
فلم أزل قائماً حتى رأيت الفسطاط قد ضُرب ، فوقفت من ظاهره وكلّ من في الدار دوني ، وأنا أسمع التكبير والتهليل والتسبيح ، وتردّد الأواني ، وصبّ الماء ، وتضوّع الطيب الذي لم أشمّ أطيب منه ، فإذا أنا بالمأمون قد أشرف عليّ من بعض علالي داره ، فصاح بي :
يا هرثمة !.. أليس زعمتم أنّ الإمام لا يغسّله إلا إمامٌ مثله ؟.. فأين محمد بن علي ابنه عنه ؟.. وهو بمدينة الرسول وهذا بطوس بخراسان ؟.. قلت له :
يا أمير المؤمنين !.. إنا نقول إنّ الإمام لا يجب أن يغسّله إلا إمامٌ مثله ، فإن تعدّى متعدٍّ فغسّل الإمام لم تبطل إمامة الإمام لتعدّي غاسله ، ولا بطلت إمامة الإمام الذي بعده ، بأن غُلب على غسل أبيه ، ولو تُرك أبو الحسن علي بن موسى الرضا (ع) بالمدينة لغسّله ابنه محمد ظاهراً ، ولا يغسّله الآن أيضا إلا هو من حيث يخفى .
فسكت عني ثم ارتفع الفسطاط ، فإذا أنا بسيدي (ع) مدرّجٌ في أكفانه ، فوضعته على نعشه ، ثم حملناه فصلّى عليه المأمون وجميع مَن حضر .
ثم جئنا إلى موضع القبر ، فوجدتهم يضربون بالمعاول دون قبر هارون ليجعلوه قبلةً لقبره ، والمعاول تنبو عنه لا تحفر ذرّةً من تراب الأرض .
فقال لي : ويحك يا هرثمة !.. أما ترى الأرض كيف تمتنع من حفر قبر له ؟.. فقلت : يا أمير المؤمنين !.. إنه قد أمرني أن أضرب معولاً واحداً في قبلة قبر أمير المؤمنين أبيك الرشيد لا أضرب غيره ، قال :
فإذا ضربت يا هرثمة يكون ماذا ؟.. قلت : إنه أخبر أنه لا يجوز أن يكون قبر أبيك قبلةً لقبره ، فإن أنا ضربت هذا المعول الواحد نفذ إلى قبرٍ محفورٍ من غير يد تحفره ، وبان ضريحٌ في وسطه ، فقال المأمون :
سبحان الله !.. ما أعجب هذا الكلام !.. ولا عجب من أمر أبي الحسن ، فاضرب يا هرثمة حتى نرى .
قال هرثمة : فأخذت المعول بيدي فضربت في قبلة قبر هارون الرشيد ، فنفذ إلى قبرٍ محفورٍ ، وبان ضريح في وسطه ، والناس ينظرون إليه ، فقال :
أنزله إليه يا هرثمة !.. فقلت : يا أمير المؤمنين !.. إنّ سيدي أمرني أن لا أنزل إليه حتى ينفجر من أرض هذا القبر ماء أبيض فيمتلئ منه القبر ، حتى يكون الماء مع وجه الأرض ثم يضطرب فيه حوت بطول القبر ، فإذا غاب الحوت وغار الماء ، وضعته على جانب قبره ، وخلّيت بينه وبين ملحده .
قال : فافعل يا هرثمة ما أُمرت به!..
قال هرثمة : فانتظرت ظهور الماء والحوت ، فظهر ثم غاب وغار الماء ، والناس ينظرون إليه ، ثم جعلت النعش إلى جانب قبره ، فغُطّي قبره بثوبٍ أبيض لم أبسطه ، ثم أُنزل به إلى قبره بغير يدي ولا يد أحد ممن حضر ، فأشار المأمون إلى الناس أن هالوا التراب بأيديكم فاطرحوه فيه ، فقلت :
لا تفعل يا أمير المؤمنين !.. فقال : ويحك !.. فمن يملؤه ؟.. فقلت :
قد أمرني أن لا يُطرح عليه التراب ، وأخبرني أنّ القبر يمتلئ من ذات نفسه ، ثم ينطبق ويتربّع على وجه الأرض ، فأشار المأمون إلى الناس أن كفّوا .
قال : فرموا ما في أيديهم من التراب ، ثم امتلأ القبر وانطبق وتربّع على وجه الأرض ، فانصرف المأمون وانصرفت ، ودعاني المأمون وخلا بي ، ثم قال :
أسألك بالله يا هرثمة لما أصدقتني عن أبي الحسن (ع) قدّس الله روحه بما سمعتَه منك !.. فقلت : قد أخبرت أمير المؤمنين بما قال لي ، فقال :
بالله إلا ما قد صدقتني عما أخبرك به غير الذي قلت لي ..
قلت : يا أمير المؤمنين !.. فعمّا تسألني ؟.. فقال :
يا هرثمة !.. هل أسرّ إليك شيئاً غير هذا ؟.. قلت : نعم ، قال : ما هو ؟.. قلت : خبر العنب والرمان !.. فأقبل المأمون يتلوّن ألواناً يصفرّ مرةً ويحمرّ أخرى ويسودّ أخرى ثم تمدّد مغشيّاً عليه ، فسمعته في غشيته وهو يهجر ، ويقول :
ويلٌ للمأمون من الله ، ويلٌ له من رسوله ، ويلٌ له من علي ، ويلٌ للمأمون من فاطمة ، ويلٌ للمأمون من الحسن والحسين ، ويلٌ للمأمون من علي بن الحسن ، ويلٌ له من محمد بن علي ، ويلٌ للمأمون من جعفر بن محمد ، ويلٌ له من موسى بن جعفر ، ويلٌ له من علي بن موسى الرضا ، هذا والله هو الخسران المبين .. يقول هذا القول ويكرّره .
فلما رأيته قد أطال ذلك وليّت عنه ، وجلست في بعض نواحي الدار ، فجلس ودعاني فدخلت إليه وهو جالسٌ كالسكران ، فقال :
والله ما أنت أعزّ عليّ منه ولا جميع من في الأرض والسماء ، لئن بلغني أنك أعدت بعد ما سمعت ورأيت شيئا ليكونن هلاكك فيه .
فقلت : يا أمير المؤمنين !.. إن ظهرت على شيء من ذلك مني ، فأنت في حلّ من دمي قال :
لا والله ، أو تعطيني عهداً وميثاقاً على كتمان هذا وترك إعادته ، فأخذ عليّ العهد والميثاق ، وأكدّه عليّ فلما وليّت عنه صفق بيده وقال :
{ يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله ، وهو معهم إذ يبيّتون ما لا يرضى من القول ، وكان الله بما تعملون محيطا } .
وكان للرضا (ع) من الولد محمد الإمام وكان يقال له : الرضا ، والصادق ، والصابر ، والفاضل ، وقرّة أعين المؤمنين ، وغيظ الملحدين . ص299
المصدر: العيون 2/245
فبينا أنا كذلك إذ دخل عليّ شابٌّ حسن الوجه ، قطط الشعر ، أشبه الناس بالرضا (ع) ، فبادرت إليه وقلت له : من أين دخلت والباب مغلق ؟..
فقال : الذي جاء بي من المدينة في هذا الوقت هو الذي أدخلني الدار والبابُ مغلقٌ ، فقلت له : ومن أنت ؟.. فقال لي:
أنا حجّة الله عليك يا أبا الصلت !.. أنا محمد بن علي .. ثم مضى نحو أبيه (ع) فدخل وأمرني بالدخول معه .
فلما نظر إليه الرضا (ع) وثب إليه فعانقه وضمّه إلى صدره ، وقبّل ما بين عينيه ثم سحبه سحباً في فراشه ، وأكبّ عليه محمد بن علي (ع) يقبّله ويسارّه بشيء لم أفهمه ….
ثم قال لي : يا أبا الصلت !.. علّمني الكلام الذي تكلّمت به ، قلت :
والله لقد نسيت الكلام من ساعتي ، وقد كنت صدقت ، فأمر بحبسي ودفن الرضا (ع) ، فحُبست سنة فضاق عليّ الحبس ، وسهرت الليلة ودعوت الله تعالى بدعاء ذكرت فيه محمداً و آله صلوات الله عليهم ، وسألت الله تعالى بحقهم أن يفرّج عني ، فلم أستتم الدعاء حتى دخل علي أبو جعفر محمد بن علي (ع) فقال :
يا أبا الصلت !.. ضاق صدرك ؟.. فقلت : إي والله .
قال : قم !.. فأخرجنَي ، ثم ضرب يده إلى القيود التي كانت ففكّها ، وأخذ بيدي وأخرجني من الدار والحرسة والغلمة يرونني ، فلم يستطيعوا أن يكلّموني ، وخرجت من باب الدار ثم قال لي :
امض في ودائع الله !.. فإنك لن تصل إليه ، ولا يصل إليك أبداً ..
فقال أبو الصلت : فلم ألتق مع المأمون إلى هذا الوقت . ص303
المصدر: أمالي الصدوق ، العيون 2/242